منهجية الغدر عند اليهود من خلال ممارساتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم

منهجية الغدر عند اليهود

من خلال ممارساتهم مع النبي r

الدكتور جبر الهلّول
إن المسلم لا يفاجئ سواء وجد في فلسطين أو خارجها بجبلة الغدر التي تنطوي عليها النفسية اليهودية فهو من دون أدنى شك على إيمان ومعرفة بما جاء في حق اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فقد فضح القرآن الكريم جبلة الغدر التي تنطوي عليها النفسية اليهودية في علاقتها مع الآخر غير اليهودي، وجاءت السنة النبوية لتوضح ذلك، من خلال قيام النبيr بتنظيم علاقات بعض المجموعات اليهودية التي وجدت في المدينة المنورة بالدولة الإسلامية الناشئة.
فعندما هاجر النبي r إلى المدينة كان اليهود من أقوى سكانها، وذلك لامتلاكهم ناصية تجارة المدينة، وللدور الذي كانوا يقومون به قبل مجيء الرسول r في إثارة الخلافات بين القبائل الموجودة لكي يبقوا هم الأقوى في المدينة([1])، كذلك كان اليهود في نزاع وتنافس دائم مع العرب([2]). ولكن مع مجيء الرسولr إلى المدينة بدأ اليهود يشعرون بأن دورهم قد انتهى. صحيح أنهم «قد رحبوا بهجرة الرسول ترحيباً مشوباً بالحذر، يحدوهم بذلك الطمع بتزعم مركز تجاري يثربي جديد منافس للمركز المكي، ولكن ذلك لا يصل إلى درجة التسليم بقيادة الرسول ونبوته، والخضوع لأحكام الإسلام، لاسيما أنهم كانوا يعتقدون أن البنوة فيهم، وليس في أية سلالة عربية»([3]). وقد جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ  عَلَى الْكَافِرِينَ﴾([4]).
وبعدما قام الرسول r بتنظيم أمور الجماعة المسلمة في المدينة التفت إلى اليهود الذين يشكلون قوة يمكن أن تلعب دورها أثناء انشغال المسلمين مع أعدائهم في خارج المدينة. وبخاصة أنه على علم بطبيعتهم النفسية والسلوكية الماكرة الغادرة التي كانوا يمارسونها قبل هجرته. فإدراكاً من الرسول لواقعهم الجديد وتفاعلاته التي تضر بالبنية الداخلية للدولة الناشئة، أراد إشراكهم في عملية البناء وإعطائهم الدور الذي يحقق وجودهم في المجتمع المدني بشكل فعلي جنباً إلى جنب مع المسلمين. وذلك عن طريق تنظيم العلاقات – بصورة رسمية – قانونية بلغة عصرنا – بين سكان (المدينة) من المسلمين واليهود، وذلك من خلال عقد عدة معاهدات استهدفت تحديد الحقوق والواجبات لجميع تلك الأطراف. ومن أهم تلك المعاهدات: (وثيقة موادعة اليهود) التي سميت "بوثيقة المدينة" أو الصحفية، أو المعاهدة بين المسلمين واليهود، كما أطلق عليها دستور المدينة أيضاً.
وبعد تلك الوثيقة تتضح منهجية الغدر التي مارسها اليهود مع النبي r، حيث لم يتركوا فرصة للنيل به أو بالجماعة المسلمة التي كانت معه.
أما بالنسبة للوثيقة فقد ذكرها ابن هشام في سيرته فقال: «كتب الرسول r كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم... وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتغُ([5]) إلا نفسه وأهل بيته... [وذكر قبائل اليهود].. وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين»([6]).
وبعد ذكر نص المعاهدة المتعلق باليهود نورد الملاحظات التالية:
             1.     عندما أبرمت المعاهدة كان المسلمون بقيادة الرسول r هم الطرف الأقوى في المدينة المنورة وإليهم ترجع الأمور كلها قيادة وإدارة. ونرى أن الرسول r يؤكد أن هذا الكتاب من قبل النبي الرسول وليس من قبله بصفته الشخصية تأكيداً منه على إثبات الرسالة وإثبات إقرار اليهود واعترافهم بذلك من خلال انضمامهم إلى المعاهدة والموافقة عليها!!. باعتبار أن اليهود أنكروا ذلك على النبي لأنه جاء من العرب ولم يأت من بني إسرائيل.
          2.        إن موافقة اليهود على الوثيقة تعني اعترافاً بنبوة محمد r وقيادته والخضوع إلى أحكامه في تلك المعاهدة، حيث النبي هو الذي يمنحهم الحقوق ويفرض عليهم الالتزامات، ولم يكن لهم دور في صياغة بنودها. ولم يكن أمامهم إلا الموافقة أو عدم الموافقة، وهم بطبيعة الحال يؤثرون الأولى لأنهم يقدسون القوة ويرهبونها وهي الآن في جانب المسلمين وفي تصاعد مستمر، ولذلك لا بد من الخضوع لتلك القوة!! وبطبيعة الحال الخضوع لا يعني الولاء إلا بالظاهر!!.
             3.     عندما نظمت المعاهدة لم يكن لليهود كيان سياسي في المدينة أو في أي بقعة من العالم وإنما كانوا مجموعة بشرية ذات صبغة دينية تشاطر المسلمين سكنى المدينة، فلم يكونوا غاصبين أو محتلين أو معتدين على المسلمين. ولكن مع ذلك فإن وجود المعاهدة دليل تعارض بين الطرفين ووجود نزاع وخلاف يجعل كلا منهما يقف من الآخر موقف المتربص الحذر. وذلك لأنه «مما لا شك فيه أن كل عمل قانوني تعاهدي يفترض – قبل التعاهد – وجود التعارض، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مصلحته الخاصة، ثم يتم التطابق والتوازن بين الطرفين المتشادين في نقطة، هي نقطة التقاء المصالح المشتركة. التي تعلو على الإرادتين. وفيما عدا هذه النقطة المشتركة يبقى الطرفان المتعاهدان يحتفظان بكامل استقلالهما، وبالطبع فإن قواعد تفسير العقد تنحو إلى تفسير المشارحات تفسيراً ضيقاً واستثنائياً، وهذا الاتجاه يظهر بصورة جلية وواضحة في فقه القانون الدولي، على اعتبار أن تلك المشارطات وعدم التقييد والاستثناء يفسر في أضيق الحدود»([7]).
             4.     أعطت هذه المعاهدة لليهود حرية الاعتقاد، وجعلت منهم بسبب السكنى المشتركة مع المسلمين أمة واحدة لهم ما لها وعليهم ما عليها من حقوق وواجبات تجاه دولة الإسلام. وحددت العلاقة فيما بينهم وبين المسلمين على أساس أنهم رعايا دولة واحدة، يسود فيما بينهم النصح والنصيحة والبر والتعاون والتناصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، والدفاع عن المدينة عند تعرضها لأي اعتداء. وقد ورد «في هذه الوثيقة مادة ترتب على اليهود أن يقفوا بجانب المسلمين ضد من حارب المسلمين، وأن عليهم مساندتهم وتأييدهم وعدم خيانتهم وفي ذلك تقول الصحيفة: «وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم». وواضح من هذا النص أن على اليهود الوقوف بجانب المسلمين ضد من يحارب المسلمين، وأن عليهم مساندتهم وتأييدهم وعدم خيانتهم...» ([8]).
             5.     ذكر في المعاهدة جميع القبائل اليهودية الموافقة بشكل مفصل، ولم يكن هناك ذكر للقبائل اليهودية الكبرى «بني القينقاع، وبني النضير وبني قريظة» تلك القبائل التي اعتزت بقوتها مظهرة عداءها للدين الإسلامي الجديد. لكن مع ذلك تضمنت المعاهدة بنداً يعطي الحرية لانضمام كافة اليهود، احتمالاً لما قد يحدث من دخول تلك القبائل في الدولة الإسلامية الجديدة.
وبالفعل، فقد انضمت تلك القبائل اليهودية الكبرى إلى الدولة الإسلامية من خلال معاهدات ملحقة!! ([9]) ومن هنا دخلت معظم القبائل اليهودية هذه المعاهدة تباعاً، وشاطروا المسلمين الحياة في المدينة. ولكن أنى لمن جبلت نفسه على الخيانة والغدر أن يطيق الالتزام ويتحمل تبعات المعاهدات والمواثيق ولو لمرة واحدة في التاريخ؟!
فعندما وقعت معركة بدر الكبرى (رمضان عام 2هـ) بين المسلمين وكفار قريش «غصَّ اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي، وإلقاء الحيرة في قلوب السلمين، ونشر الشبهات والشكوك، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء»([10]). وحينئذ صدر أول نقض للمعاهدة من قبل يهود بني قينقاع. حيث «لم يقابلوا الجميل بالجميل، بل قابلوا حلم رسول الله r بالإمعان في التمرد والغدر والإساءة، فقد انتقلوا من نطاق جحود النبوة وتشكيك المسلمين في صحة دين الإسلام إلى نطاق الغدر، ونقض العهد والمجاهرة بالكراهية والاستنكار بما يصيب المسلمين من خير»([11]).
غدر بني قينقاع بالنبيr:
أثار انتصار المسلمين في موقعة بدر في (رمضان عام 2 هـ-623م) اليهود لاسيما يهود بني قينقاع منهم الذي أظهروا للمسلمين الحسد والحقد، حتى بلغ بهم الأمر إلى حد المجاهرة بالعداء! ولما رأى رسول الله r منهم ذلك أراد أن يأتيهم بالتي هي أحسن فجمعهم في سوقهم – وكانوا صاغة-، ليدعوهم إلى الإسلام من جديد، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لما أصاب رسول الله r قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا»([12]). ولا يخفى ما في هذا الرد من عنجهية واستعلاء واستفزاز وتهديد للرسول r وللجماعة المسلمة – مع العلم بأنهم كانوا قد انضموا تحت لوائه بموجب المعاهدات الملحقة بالوثيقة (معاهدة المدينة) التي أبرمها معهم – إلا أنه r غض الطرف وتركهم وشأنهم([13])!!
ثم استبد الطغيان والسفاهة في بني قينقاع فلم يعودوا يأبهون بجانب المسلمين أو يحترمون معاهدتهم معهم بحيث بلغ بهم الاستهتار أن اعتدوا على حرمات المسلمين فقد ذكر ابن هشام في سيرته أنه «كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله – وكان يهودياً – وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين نبي قينقاع»([14]).
فما قام به يهود بني قينقاع من كشف لعورة المرأة المسلمة، وتكاثرهم على المسلم الذي قتل الصائغ الجاني وقتله يعد – ولا شك – نقضاً صريحاً لمعاهداتهم مع الرسول r.
وهكذا كان «بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله r فحاصرهم رسول الله r حتى نزلوا على حكمه، وذلك بأن يخرجوا بأنفسهم ونسائهم وذراريهم دون أموالهم من المدينة»([15]).
غدر بني النضير بالنبيr
إن بني النضير مثل غيرهم من اليهود لم يفرحوا بنصر المسلمين في بدر وكانوا يكتمون للمسلمين حقداً، وحسداً لتعاظم شأنهم، وكانوا يتربصون بالمسلمين،ويكيدون لهم فلما «خرج رسول الله r إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضّمريّ، للجوار الذي كان رسول الله r عقد لهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله r يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك ما أحببت مما استعنت بنا عليه.
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه – ورسول الله r إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد – فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمر بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله r في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. فأتى رسول الله r الخبر من السماء مما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة فلما استلبث النبي r أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله r حتى انتهوا إليه r فأخبرهم الخبر، بما كانت اليهود أرادت من الغدر به. وأمر رسول الله r بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله r بقطع النخيل والتحريق فيها.. وسألوا رسول الله r أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ألا الحَلْقة [السلاح كله] ففعل»([16]) وورد في الأثر:«قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة [أي نقضت العهد وصارت محاربة]...» ([17]).
وهكذا نقض بنو النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدواً للمسلمين ففعلوا ولم يكتفوا بهذا النقض بل حاكوا مؤامرة لاغتيال رسول الله r. وكانوا من قبل ذلك أرشدوا أعداء المسلمين إلى مواطن الضعف في المدينة وأفشوا بأخبار المسلمين فيها إليهم. وقد حصل ذلك في غزوة "السويق" في ذي الحجة السنة الثانية للهجرة([18]).
غدر بني قريظة بالنبيr
إن أبرز خيانة واجهها الرسول r والجماعة المسلمة معه كانت من بني قريظة الذي نقضوا عهودهم في وقت كان المسلمون محاطين بأعدائهم من كل الجهات وجاء اليهود ليغدروا بهم من الداخل في ظن منهم أن المسلمين في ضيق شديد وأن خيانتهم وتحالفهم مع الأحزاب ستكون الضربة القاضية للنبي r ودعوته ولكنهم تناسوا أن الله معه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾([19]) وقال تعالى أيضاً: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾([20]).
وبالعودة إلى قصة خيانة بني قريظة فإنها تبدأ في وقت كان الأحزاب فيه يحاصرون المسلمين في غزوة الخندق حيث خرج عدوا الله حُيَيُّ بن أخطب  النضري حتى أتى كعب بن أسد القُرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم. وكان قد وادع رسول الله r على قومه وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحُيَيِّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي قال: ويحك يا حيي. إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلستُ بناقضٍ ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً.قال: ويحك! افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله! إن أغلقت الحصن دوني إلا على جشيشتك [طعام من البحر يطحن غليظاً] أن آكل منها معك! فحفظ الرجل ففتح له، فقال ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام، جئتك بقريش.. وبغطفان.. قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبارحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراقَ ماءَه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء. فلم يزل حييّ بكعب يفتله في الذروة والفارب حتى سمع له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله r»([21]).
ولكن لو تساءلنا هل ما قام به كعب بن أسد هو مجرد نقض للمعاهدة؟ أم أنه نقض وغدر ومحاربة في آن واحد؟! وهل هناك أعظم من ذلك النقض في ذلك الظرف، في ساعة العسرة متعمدين، ومتحالفين مع الأحزاب الذي قدموا المدينة للإجهاز على الإسلام وأهله، ومعدين أنفسهم لاستباحة المدينة، وقتل رجالها واسترقاق نسائها وبيع ذراريها في الأسواق؟!([22]).
ولكن الله خيب آمالهم فنصر عبده محمداً r وأعز جنده المسلمين وهزم الأحزاب الكافرين. وما إن رجع النبي r من الخندق ووضع السلاح واغتسل حتى أتاه جبريل  «فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله r مؤذناً فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّينَّ العصر إلا ببني قريظة... وحاصرهم رسول الله خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب»([23]).
فنزلوا على حكم رسول الله r فأمر الرسول بأسراهم فكتفوا بالرباط، وأخرج النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحيته وجمعت أمتعتهم وسلاحهم وأموالهم([24]). وأوكل رسول الله r أمر الحكم على بني قريظة إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: نزل أهل قريظة إلى حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي r إلى سعد فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم. فقال: تقتل مُقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال: «قضيت بحكم الله, وربما قال بحكم الملك»([25]).
وفي سيرة ابن هشام ورد حكم سعد قائلاً: «فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، قال رسول الله r لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»([26]). وهكذا كان جزاء يهود بين قريظة من جنس عملهم، حين عرضوا بخيانتهم العظمى أرواح المسلمين للقتل، ونسائهم وذراريهم للسبي وأموالهم للسلب. وقد جعلت المعاهدة منهم أمة مع المسلمين وما قاموا به يسمى اليوم خيانة عظيمة تعاقب عليه معظم القوانين الوضعية بالإعدام. ولذلك كان عقابهم عقاباً عادلاً وكان جزاؤهم جزاء وفاقاً»([27]).
غدر اليهود في غزوة خيبر
خرج رسول الله r لتأديب يهود خيبر لما كان منهم من تحريض للقبائل المشركة في غزوة الأحزاب على حرب المسلمين، ولما كانوا يبيتونه من عداء وغدر للرسول r وأصحابه.
وقد حاصرهم الرسول r في حصونهم تلك (بضعة عشرة ليلة) حتى عرضوا الصلح عليه فقبله بشرط أن يخرجوا من خيبر بأنفسهم ونسائهم وذراريهم، دون الأموال والسلاح. ولما أراد الرسول r أن يجليهم عن (خيبر) سألوه أن يعاملهم في الأموال على النصف, وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها فصالحهم رسول الله على ذلك بشرط أن يخرجوا منها متى شاء المسلمون، وذلك لما يعرفه من طبع اليهود، من عدم الوفاء بعهودهم وانتهازهم أية فرصة تسنح للغدر والخيانة([28]).
ومع هذا كله لم يتوقف اليهود عن الخيانة فقدموا للرسول r شاة مسمومةَ فقد ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري: «لما فتحت خيبر أهديت للنبي r شاة فيها سم، فقال النبي r: (اجمعوا إليّ من كان ها هنا من يهود). فجمعوا، فقال: (إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه). فقالوا: نعم، قال لهم النبي r: (من أبوكم). قالوا: فلان، فقال: (كذبتم، بل أبوكم فلان). قالوا صدقت، قال: (فهل أنتم صادقين عن شيء إن سألت عنه). فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: (من أهل النار؟). قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي r: (اخسؤوا فيها، والله لا نخلفنكم فيها أبداً). ثم قال: (هل جعلتم في هذه الشاة سُماً). قالوا: نعم، قال: (ما حملكم على ذلك). قالوا: أردنا إذا كنت كاذباً نستريح. وإن كنت نبياً لي يضرك»([29]).
هكذا كان مسلك اليهود مع النبي r، وهكذا كان تعاملهم مع المعاهدة التي انضموا إليها طواعية، وهكذا هو سلوكهم وممارستهم في كل زمان ومكان، فعندما «يظنون أنفسهم في أمان يسبون ويتطاولون، وعندما تواتيهم الفرصة يقتلون ويفجرون، فإذا ضاق الخناق حول رقابهم يتباكون ويتذللون، فهم يتلوّنون لكل حالة بالشكل الذي يظنونه نافعاً لهم،أما العهود والمواثيق والقيم الخلقية، والمعاني الإنسانية فلا حساب لها في ميزانهم»([30]).
ومن خلال استرشادنا بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية يمكننا أن نقول: بأن جميع العهود والمواثيق التي أبرمها اليهود والتي سيبرمونها مستقبلاً سوف يكون مصيرها النقض والخيانة والغدر، وهذا ديدنهم إلى قيام الساعة.
وإذا علمنا يقيناً أن صفة نقض العهد والميثاق عند اليهود طبيعة وعادة متأصلة فيهم وهي ديدنهم في كل زمان ومكان، والقرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ شاهد عليهم بذلك، فهل يجوز لنا بعد ذلك كله أن نتعاقد معهم، ونبرم اتفاقيات ومعاهدات وبخاصة بعدما استعمروا فلسطين وانتهكوا حقوق المسلمين فيها ويمارسون اعتداءاتهم المستمرة عليهم، ويضعون الخطط ويحيكون المؤامرات بهدف السيطرة على المسلمين من جميع النواحي السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية... ومن أجل تحقيق أحلام دينية مزعومة في بناء "إسرائيل الكبرى" جغرافياً و"إسرائيل العظمى".! اقتصادياً؟! لذا لا يجوز لنا أن نحسن الظن بكل ما يقومون به، فإذا كانوا قد غدروا بالنبي وبأنبيائهم عليهم السلام من قبل، عندما لم تكن لهم قوة الغلبة ولم يكن لهم سلطان ودولة، فكيف حال غدرهم ومكرهم عندما أصبح لهم اليوم قوة مادية ومعنوية مدعومة من أقوى قوة عالمية أرضية، وأصبح لهم كيان أشبه ما يكون بترسانة عسكرية مدججة بأحدث الأسلحة، بينما المسلمون متفرقين، والفلسطنيون منهم منقسمين، ومن كان يمتلك منهم سلاحًا مقاومًا لمواجهة الغدر اليهودي، وإن كان لا يقارن بسلاح اليهود يجب نزعه منهم؟!.

([1])  محمد مختار الوكيل: موسوعة المدينة المنورة التاريخية، يثرب قبل الإسلام، ط2، الجزء1، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة 1409-1989، ص 14-15.
([2])  محسن الموسوي: دولة الرسول، ط1، دار البيان العربي، بيروت، 1410-1990، ص 162.
([3])  برهان زريق: الصحيفة، ميثاق الرسولr، ط1، دار النمير للنشر والتوزيع دمشق 1996، ص 521.
([4])  سورة البقرة: الآية 89.
([5])  يوتغ: يهلك
([6]عبد السلام هارون: تهذيب سيرة ابن هشام، ط21، مؤسسة الرسالة بيروت 1413-1992، ص 101-103.
([7])  د. برهان زريق: المرجع السابق، ص 532.
([8])  المرجع نفسه، ص 534.
([9])  أحمد الزغيبي: العنصرية اليهودية، ط1 العبيكان، الرياض، 1998. مجلد 2، ص 84-85.
([10])  سيد قطب: في ظلال القرآن، ط7، دار الإحياء العربي، بيروت، 1987.  مجلد 1، ص 515.
([11])  محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في القرآن والسنة، ط1، دار الزهراء، مصر، 1987. ص 256.
([12])  أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي: سنن أبي داود، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، لا. ت. كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة، حديث رقم (3001) مجلد (3) ص 154-155.
([13])  أحمد الزغيبي: المرجع السابق، مجلد 2، ص 418-419.
([14]) عبد السلام هارون: المرجع السابق، ص 125 .
([15])  عبد السلام هارون: المرجع نفسه، ص 125.
([16])  عبد السلام هارون : المرجع نفسه، ص 145-146.
([17]مختصر صحيح البخاري: المسمى التجريد الصريح المشهور بـ (مختصر الزبيدي)،ضبطه وعدله ورقمه مصطفى البغا: دار العلم الإنسانية، دمشق-حلبوني، سوريا، ص 3، 1988، رقم الحديث 1537.
([18])  محمد سيد طنطاوي: المرجع السابق، ص 272.
([19])  سورة الأحزاب: الآية 9.
([20])  سورة الأحزاب: الآية 25.
([21])  عبد السلام هارون المرجع السابق، ص 153.
([22])  محمد سيد طنطاوي: المرجع السابق، ص 291.
([23])  عبد السلام هارون: المرجع السابق، ص 158-159.
([24])  مجلة الوعي اللبنانية: العدد (124 جمادى الأولى 1418-أيلول 1997. ص 22-23.
([25])  مختصر صحيح البخاري: كتاب المغازي رقم الحديث 1553، ص 523.
([26])  عبد السلام هارون: المرجع السابق، ص 161-162.
([27])  أحمد الزغيبي: المرجع السابق مجلد2، ص 459-460.
([28]) عبد السلام هارون : المرجع السابق،ص 186.
([29])  مختصر صحيح البخاري: رقم الحديث 1281، ص 425.
([30])  محمد سيد طنطاوي: المرجع السابق، ص 992.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »