الأسس التي قامت عليها دولة المدينة المنورة

الأسس  التي قامت عليها دولة المدينة المنورة  
الدكتور جبر الهلول  
تحتذي  الدول بعضها حذو بعض في بنائها، ووضع أنظمتها من أجل الوصول إلى القوة التي تمكنها من البقاء في ظل معترك دولي متنافس ومتصارع يهدد القوي فيه الضعيف وينذره بالفناء.
أما دولة المدينة وإن كانت تلتقي مع هذه الدول في دخولها المعترك الدولي إلا أنها تختلف عنها في مبناها ومعناها!. أما من ناحية المبنى فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام دولة المدينة على أسس ومناهج وحدوية لم يقلد فيها أحداً، بل كانت هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً لا يأتيه الباطل. وذلك لتكون دولة المدينة هي الدولة الأنموذج بالنسبة للمسلمين وللعالمين التي يجب أن تُحتذى في تنظيمها وبنائها وأهدافها، لاسيما أن هدفها علوي، يسعى لنشر نور الهداية الربانية في جميع أصقاع الأرض، وذلك لينتشل الإنسانية من الأرجاس والرذائل التي لحقت بها، ويوصلها إلى مكارم الأخلاق وعالم الفضيلة. ولكي تقوم دولة المدينة بهذه المهمة العظيمة سعى النبي صلى الله عليه وسلم لبناء دولة نموذجية في كل شيء لتصبح سنة جارية في التاريخ، متحدية في ذلك الحين الدولتين المتحضرتين الساسانية والبيزنطية(1). وذلك كله بفضل الأسس القوية الوحدوية التي أقامها عليها. وتلك الأسس تعد «قواعد كلية ومبادئ عامة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وافية بحاجات البشر على طول الزمن وتعدد الحاجات والمطالب، تحقق فيها العدل والمساواة بين البشرية وتعاون الإنسانية على الخير»(2).
والأسس الوحدوية التي قامت عليها دولة المدينة هي:
1-                     بناء المسجد النبوي.
2-                     المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
3-                     وثيقة المدينة أو دستور دولة الإسلام الأولى.
أولاً: بناء المسجد النبوي:
شرع النبي صلى الله عليه وسلم منذ وصوله المدينة ببناء المسجد في المكان الذي بركت فيه ناقته. وعَمِلَ النبي صلى الله عليه وسلم في بنائه ليُرغّب المسلمين في العمل فيه من المهاجرين والأنصار حيث قال قائلهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل         لذاك منا العمل المضلل
وهكذا «أو بمثل هذه البساطة تم بناء المسجد النبوي، وبروح التعاون الأخوي والعمل الجماعي رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان هذا المسجد الذي صار موئلاً لأعظم رجال عرفتهم الإنسانية، والذي خرّج أرحم القادة وأشجعهم، وأعظم الأبطال وأفضلهم، وأعظم الخلفاء وأرأفهم..»(3). ووضع من خلاله أرقى الأسس وأقواها في كيفية صناعة الأمة وتوحيدها دينيناً ودنيوياً. ولإدراك أهمية الخطوة الأولى التي قام الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى أثرها في بناء الأمة الإسلامية والحرص على وحدة تكوينها وأهدافها وغاياتها لابد من الوقوف على الوظيفة التي أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم للمسجد الذي بناه:
- فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مركزاً للعبادة والتعليم والتوجيه والإرشاد والتفقه في الدين، وذلك بتبليغ الوحي وتوضيحه للمسلمين في خطب الجمعة ومجالس العلم وفي كل فرصة تسنح له. ولهذا أصبح المسجد النبوي النبع الدافق الذي يغذي القلوب والأرواح بعبادة الله عز وجل من صلاة وذكر وقراءة قرآن، ويغذي العقول المؤمنة بالعلم والمعرفة الشاملة التي تزيدهم من الله قرباً، وتجعلهم أقدر الناس وأحرصهم على حمل الأمانة ونشر تعاليم الإسلام في المكان الذي يحلون فيه(4).
- جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مركزاً لإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وهو أشبه ما يكون بدار الحكومة، إذ في المسجد كان النبي صلى لله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين أثناء صلاتهم وذكرهم لله تعالى للتشاور والتفاهم والدراسة والتخطيط للدعوة وتدبير شؤون المسلمين، وفي المسجد كان يستقبل الوفود التي تجيء لأغراض مختلفة كإعلان الإسلام، أو عقد معاهدة، أو طلب معونة، لذلك كان المسجد أشبه بقاعة استقبال رسمية مفتوحة ومهيأة في جميع الأوقات والأحوال لجميع الوافدين.(5)
- كان المسجد النبوي مركزاً للقيادة العسكرية، حيث كانت تنطلق منه ألوية الجهاد بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بمن ينيبه عنه، وبه كانت تستقبل قوافل النصر والاستشهاد في سبيل الله.
- كذلك كان المسجد النبوي بيت مال المسلمين حيث كان يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات والأموال فيه ويوزعها على مستحقيها.(6)
- جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مركزاً للقضاء إذ كان يفصل فيه بين المتخاصمين بما أنزله الله عليه(7).
- كذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مركزاً لتعليم المسلمين أمور دينهم وتدارسها معهم، كم كانوا يسمعون آيات القرآن الكريم كما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
- كذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مكاناً لعلاج المرضى والجرحى في أيام الحرب بخاصة.(8)
- كذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مكاناً مخصصاً لإيواء الضعفاء والمساكين الذين لا سكن لهم من أهل الصفة، وأصبح كل من يحتاج مالاً أو طعاماً أو مساعدة ما يلتقي  بأهل الخير في باحة المسجد لسد حاجاته الحياتية.(9)
 فمن خلال معرفة أهم الوظائف التي أداها المسجد النبوي نجد أن المسجد النبوي أصبح الرئة التي يتنفس من خلالها المجتمع الإسلامي والذي يجد فيه الفرد المسلم متنفساًُ لقضاء احتياجاته الدينية والدنيوية، فقد كان لهذا المكان أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية لتكوين أمة موحدة ذات أهداف واحدة.
والأهم من كل ذلك كان وجود المسجد يوحي للمسلمين بالكثير من المعاني ويرسخ لديهم أفكاراً عن ضرورة القيادة المركزية والنظام ووحدة الصف الواحد وعلى أساس هذه الأفكار المترسخة في الوجدان قامت دعائم الدولة الإسلامية، فأصبح المسلمون يتعاملون مع القائد بصورة مختلفة عما كانوا يتعاملون مع رئيس العشيرة.. ومن هنا فقد كان المسجد نقطة التغيير الأولى باتجاه تنظيم المسلمين في الإطار الجديد إطار الدولة الإسلامية التي لا ينفصل فيها الدين عن السياسة.(10)ومن هنا كانت نقطة التغيير في حياة المسلمين وإذابة الفوارق العصبية والعشائرية ونزع بذور الشقاق من صدور المسلمين فأمسى الأوسي والخزرجي والأنصاري والمهاجر، والغني والفقير والقائد والجندي في يجتمعون في مكان واحد لبناء الدولة الواحدة التي ستقوم بأعباء الدعوة لا فرق فيها بين عربي وأعجمي أو أبيض وأسود إلا بالتقوى. فكل متنافس في خدمة الإسلام والدفاع عنه حيث لانتماء عندهم إلا إلى الإسلام. فوحدة العقيدة والانتماء اجتمعت في مكان واحد ضمن صفوف منتظمة بإمام واحد لتكون أمة واحدة رسالية في جزئياتها وكلياتها للبشرية جمعاء.
فنواة دولة الإسلام الأولى التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم قامت على أساس المسجد النبوي الذي يجمع الكل لا على أساس مساجد متعددة تحمل عناصر الفرقة والتمزق في الأمة، بحيث لم يكن هناك مسجد الخزرج ومسجد الأوس، أو مسجد الأنصار ومسجد المهاجرين، كما هو حال المسلمين اليوم حيث اصطبغت الكثير من مساجدهم صبغة مذهبية وعنصرية تعمل على إذكاء الفرقة بين المسلمين، وتكفير بعضهم بعضاً.
إذاً من خلال المهام العظيمة التي أداها المسجد النبوي الذي كان أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ندرك الأهمية العظيمة للمساجد في صناعة الوحدة الإسلامية وفي الدفاع عن المسلمين والإسلام الذي حض على إنشائها وعمارتها خارجياً ببنائها وتأثيثها وتنظيمها، وداخلياً بالحث على التردد إليها لتكون المركز الأساسي في حياة المسلمين حيث قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}(11).
لذلك ليست المساجد مركزاً للعبادة فحسب كما هي اليوم حيث فقدت أغلب وأعظم وظائفها التي كانت تقوم بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان المسجد مكاناً عاماً للخدمة الدينية والدنيوية على السواء، وذلك بشكل يحافظ على قدسية المسجد وكرامته. ويجعله في الوقت نفسه مكاناً تدب فيه الحركة والنشاط لعمل الخير العام بكل ألوانه، ومساهماً بشكل أساسي في توحيد المسلمين وحل الخلافات فيما بينهم (12).
ثانياً: المؤخاة بين المهاجرين والأنصار:
تلت بناء المسجد النبوي خطوة مهمة لتعزيز الوحدة بين المسلمين وهي المؤاخاة بين المهاجرين، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «تآخوا في الله أخوين أخوين. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: هذا أخي»(13). هذه المؤاخاة تعد من أعظم الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام الأولى، إذ آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة، وعلى أن يتوارثوا فيما بينهم بعد الممات، بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية في ذلك أقوى من أثر قرابة الرحم.(14) لذلك شكلت قاعدة التآخي أساساً مهماً في قيم الأخلاق الإسلامية التي توحدهم وتجمعهم على الحق، وبها حدد الله تعالى علاقة المؤمنين في الآية الكريمة: {إنما المؤمنون أخوة}(15). والأخوة في الله أدوم وأبقى حتى من الأخوة في النسب والولادة، لأن أخوة الولادة تنتهي وتنقطع باختلاف الدين والعقيدة ولكن أخوة الإيمان دائمة في الدنيا والآخرة.(16)
 ولهذا نجد أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت السبيل الوحيد أمام النبي صلى الله عليه وسلم لصياغة مجتمع متماسك متراص كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً بوشائج قوية من المحبة والتعاون والإيثار، وذلك ليكون قادراً على مواجهة التحديات الكامنة في كل جانب ومواجهة مشركي مكة الذين سيحاولون بكل جهدهم الوقوف بوجه النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته من الانتشار، وأن يكون له دولة قوية موحدة تهدد نفوذهم ومصالحهم لاسيما في مكة المكرمة. وكذلك هناك اليهود الذين عاثوا فساداً في المجتمع المدني بإثارة العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج وذلك للسيطرة على المدينة مادياً ومعنوياً، لن يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يتولون زمام الأمور ويصلحون ما أفسدوه.
ولذا نجد أن لعملية التآخي أبعاداً متعددة، وبخاصة بعد مرورها بمراحل ثلاث كما هو معروف ومشهور إذ قام النبي صلى لله عليه وسلم بإصلاح ما بين قبيلتي الأوس والخزرج فأزال ما في نفوسهم من غل وبغضاء وما ورثوه من الجاهلية من الخصومة والحروب، تلك الخصومة التي كان يذكيها اليهود فوحد بين الأوس والخزرج باسم جديد وفكر جديد وعرفوا بالأنصار الذين نصروه وأيدوه وعز بهم الإسلام ويمكن اعتبار هذه العملية هي المؤاخاة الأولى بين الأوس والخزرج وسموا بالأنصار ثم المؤاخاة الثانية بين المهاجرين بعضهم لبعض، والمؤاخاة الثالثة كانت بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة بين هؤلاء على الحق والمواساة والتوارث بعد الموت من دون ذوي الأرحام بحيث يرث المهاجر أخاه الأنصاري ويرث الأنصاري أخاه المهاجر ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه وتعالى قوله في سورة الأحزاب: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وذلك بعد أن عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة ثم جعل الله سبحانه المؤمنين كلهم إخوة في كل زمان ومكان.(17)
الأبعاد الوحدوية في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
1-    البعد الاجتماعي الوحدوي للمؤاخاة:
أراد النبي صلى الله عليه وسلم صهر المسلمين من المهاجرين والأنصار في بوتقة واحدة بوتقة التآخي في الله وذلك ليذيب جميع عناصر التمايز العصبية والقبلية، ومن ثم جميع الفوارق الاجتماعية لاسيما أن المهاجرين كانوا يشكلون عنصراً جديداً في المدينة المنورة، فقد تركوا أهلهم وأموالهم في مكة، وهذا سيشكل عنصراً سلبياً في حياتهم الجديدة ويشعرهم بالغربة وتدني المستوى الاجتماعي لهم مع الأنصار الذين يعيشون وسط أهلهم وينعمون بالاستقرار النفسي والمادي. ولهذا جاء التآخي ليجعل من المهاجرين والأنصار وحدة اجتماعية متماسكة تسودها المحبة والتآلف وتكون القاعدة الصلبة لنواة الدولة الإسلامية. «ومن أجل هذا اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساساً لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم. ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة. ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك "الأرضية" الأولى، ألا وهي الأخوة الإسلامية ولولا هذه الأخوة العظيمة التي تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع الإسلامي ودعم كيانه»(18).
2-    البعد الوحدوي السياسي للمؤاخاة:
إن عملية التآخي بين المهاجرين والأنصار جعلت منهم قوة كبرى لها أهميتها، يحسب لها أعداؤها من المشركين في مكة واليهود في المدينة حساباً كبيراً. ولهذا خطى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخطوة لإذابة «الفروقات والحساسيات بين أبناء الشعب الواحد ليصبح هذا الشعب نسيجاً مترابطاً واحداً لأن الأمة الموحدة هي القادرة على الوقوف على أقدامها. فالوحدة هي عنوان قوة وصحوة لكل أمة. وبالنسيج المتكامل تستطيع الأمة أن تخطو خطوات منتظمة إلى بناء حضارتها وتقدمها»(19). وبالتالي استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمن بهذه الخطوة وحدة المسلمين وذلك ليكونوا قادرين على تحمل مسؤولياتهم تجاه دولتهم الناشئة، ومحصنين من الفتن الداخلية التي تنشب عادة في الدول نتيجة التفرقة وتعدد فصائل أبنائها واختلاف مستوياتهم وتعدد أعراقهم ولغاتهم.
3-    البعد الاقتصادي الوحدوي للمؤاخاة:
كان للتآخي بين المهاجرين والأنصار بعداً اقتصادياً ذا تأثير كبير في حياة دولة الإسلام الأولى، إذ حقق هذا التآخي التوازن الاقتصادي بين المهاجرين والأنصار، وذلك عن طريق جعل حق الميراث منوطاً بهذا التآخي من دون حقوق القرابة والرحم. بل دفع هذا التآخي الأنصار إلى اقتسام أموالهم وأهليهم مع المهاجرين، «وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض على عبد الرحمن بن عوف أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها»(20).
فقد استطاع النبي عن طريق التآخي أن يعالج مشكلة كبيرة كانت من الممكن أن تهدد الوحدة الاقتصادية في الدولة الناشئة وتجعل فيها أزمة اقتصادية تؤدي إلى إضعافها وانهيارها. وهذه المشكلة كانت  قبل الهجرة تكمن بوجود الأنصار الذين يعملون بالزراعة وبوجود اليهود الذين يعملون بالتجارة التي تجعلهم يتحكمون باقتصاد المدينة بالإضافة إلى القروض الربوية التي كانت تثقل كاهل الأوس والخزرج بسبب حاجتهم إلى المال للإنفاق على زراعتهم. أما بعد الهجرة فقد قدم المهاجرون إلى المدينة وقد تركوا أموالهم وأهليهم ومنازلهم وكان أغلبهم من الفقراء والعبيد، وهذا يشكل تفاوتاً كبيراً بين الأنصار الذين يعيشون في منازلهم ويعملون في أراضيهم وهذا يجعلهم يعيشون حياة شبه مستقرة لولا استغلال اليهود لجهودهم وعرقهم، وبين المهاجرين الذين يحتاجون إلى مساعدة وتأمين موارد رزق لهم، لاسيما أن المهاجرين كانت خبرتهم بالتجارة ولا خبرة لهم بالزراعة لأنهم لم يعهدوها في مكة. لذلك لم يكن أمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا التآخي الذي دمج فيه الأنصار والمهاجرين في حلقة اقتصادية واحدة جعلت الأوسي والخزرجي يزرع والمهاجر يبيع أو يعمل بالأرض بالإيجار، وكان هذا إلغاء لدور اليهود الاقتصادي في المدينة وتهميشه(21)، وبتلك الخطوة جعل من القوة الاقتصادية بيد المسلمين لتكون الأداة الفاعلة والقوية في بناء الدولة الإسلامية الموحدة. وهذا يرشدنا إلى عامل مهم في حياة الدول إذ بقدر ما يكون الاقتصاد قوياً ومحرراً من السيطرة الغربية والتبعية للآخر غير المسلم تكون الدولة موحدة وقوية، وبقدر ما يكون ضعيفاً ومسيطراً عليه كما هو الحال في معظم الدول الإسلامية المعاصرة تكون الدولة ضعيفة ومنهكة وممزقة ومهددة في كل حين بالجوع والحرمان وفقدان السيادة والسلطان.  
ثالثاً الوثيقة أو دستور دولة الإسلام الأولى:
قام النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بنى للمسلمين مسجداً، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم. وهذا الكتاب الذي سمي بوثيقة المدينة، أو الصحيفة، أو المعاهدة بين المسلمين وغير المسلمين، أو ما سمي بلغة العصر الحاضر دستور المدينة، أو دستور دولة الإسلام الواحدة الموحدة. وقد شكلت هذه الخطوة الأساس الثالث الوحدوي الذي قامت عليه دولة الإسلام الأولى، واستكمالاً لما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من خطوات وحدوية سابقة. إذ بعد أن أصبح للمسلمين مركزاً واحداً متمثلاً بالمسجد النبوي، وبعد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كان لابد من تنظيم شؤون المسلمين فيما بينهم وعلاقتهم بالدولة وتنظيم علاقة الطوائف الأخرى الموجودة في المدينة والمتمثلة بشكل أساسي باليهود بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات تجاه دولة الإسلام. وفي هذا إشارة واضحة إلى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين وإعطائهم الدور بالمشاركة الفاعلة في بناء الدولة جنباً إلى جنب مع المسلمين، وعدم إهمالهم خشية أن يكونوا عامل هدم فيها مستقبلاً من خلال تعاونهم مع الأعداء المتربصين بالدولة الإسلامية الناشئة.
وللتأكيد على الجانب الوحدوي في الوثيقة نجدها قد نصت على اعتبار أن الأطراف في هذه الوثيقة أمة واحدة، فقد جاء في مقدمة موادها(22): «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس». وقد نصت بنود هذه الوثيقة على عوامل الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف فيما بينهم، ومن ذلك «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد».
إن الناظر المتفحص إلى هذه المعاهدة يجد أنها قد صيغت بدقة بالغة التفاصيل، إذ تناولت جميع الأمور التي تحتاجها الدولة لتكون دولة موحدة قوية وقادرة على حمل رسالة الدعوة في سبيل الله والدفاع عنها. ومن يعد إلى بنود هذه الوثيقة يجد أنها قد تضمنت أموراً في غاية الأهمية تصب فوائدها في خدمة دولة الإسلام ووحدتها، وكيفية المحافظة عليها. ومن أهم هذه الفوائد:
- استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يوحد بين المسلمين من قريش ويثرب تحت راية الإسلام ويجعل منهم بهذا الدين أمة متميزة من دون الناس، يسود بين أبنائها النصح والتناصح والتناصر على محاربة أعداء هذا الدين وهذه الأمة.
- أعطت هذه الصحيفة للمؤمن هوية مميزة إذ لا يجوز مساواته بالكافر أثناء القصاص، فلا يجوز قتل مؤمن بكافر، كذلك لا يجوز مساعدة الكافر ومناصرته على محاربة مؤمن.
- كذلك حرصت هذه الوثيقة على وحدة الصف بين المسلمين، إذ لم تجز لأحد منهم أن يوقع اتفاق سلام مع الأعداء من دون المؤمنين جميعاً ـ وهذا بطبيعة الحال موجه لقادة المسلمين ومن بيده زمام الأمور ـ مما يشكل خرقاً لصف المسلمين وإضعافاً لموقفهم من الناحية المادية والمعنوية أثناء المواجهة.
- اشترط في هذه الصحيفة على المؤمنين التحاكم إلى الله وإلى رسوله عند نشوب أي خلاف فيما بينهم، وذلك نبذاً للشقاق والانقسام الذي يضعف وحدة الأمة.
- نظمت الصحيفة العقوبات ضد المفسدين وخصوصاً قضايا الأخذ بالثأر بحيث تحول مبدأ الأخذ بالثأر إلى مبدأ القصاص والعقاب ويعتبر تفويض حق التأديب إلى الجماعة بدلاً من الفرد انتقالاً مهماً من مجتمع الجاهلية إلى مجتمع الإسلام.
- أعطت هذه الصحيفة لليهود حرية الدين والتملك، وجعلتهم بسبب السكنى المشتركة مع المسلمين أمة واحدة لهم ما لها وعليهم من حقوق وواجبات تجاه دولة الإسلام. وحدت العلاقة فيما بينهم وبين المسلمين على أساس أنهم رعايا دولة واحدة، يسود فيما بينهم النصح والنصيحة والبر والتعاون والتناصر علة من حارب أهل هذه الصحيفة، والدفاع عن المدينة عند تعرضها لأي اعتداء.(23) 
-إن أي حدث أو اشتجار يخاف فساده بين أهل هذه الصحيفة من المسلمين واليهود والمشركين يردّ إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على خضوع جميع رعايا دولة الإسلام الأولى إلى سلطة واحدة واعترافهم بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم.
إن ما ورد في وثيقة المدينة من معايير الحكم والدولة ومن أسس يقام عليها المجتمع الإسلامي الموحد، قد مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يرسي بتلك الأسس قواعد الدولة، وأن يصنع نواة الأمة الإسلامية الموحدة التي أخذت تتوسع وتنتشر مع مرور الزمن. وتظهر أهمية ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من عمل من تأمل الأوضاع العامة التي كانت سائدة جزيرة العرب حيث النزعة الفردية والفوضى التسلطية القبلية واللاقانون. وفي قلب هذا المجتمع بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة مجتمع جديد يقوم على النظام العادل وأخذ يرسي دعائم دولة موحدة تقوم على سيادة القانون الإلهي الذي لا يأتيه الباطل، وليس على سيادة أهواء قبلية أو عشائرية أو ما شابه ذلك.





(1)  محسن الموسوي: دولة الرسول، ط1، دار البيان العربي، بيروت، 1990. ص193.
(2)  أحمد الحصري: الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي، مصر. ص68.
(3)  فايد حماد عاشور، وسليمان مصلح أبو عزب: تاريخ دولة الإسلام الأولى في عهد الرسول(ص) والخلفاء الراشدين، ط1، دار قطري بن الفجاءة ، قطر، 1989.ص 106.
(4)  عبد الله المشد: وظيفة المسجد المعاصر، مجلة الفكر الإسلامي العدد (6) صفر، 1970. ص53-55.
(5)  المرجع نفسه، ص55-56.
(6) المرجع نفسه، ص57.
(7) محمد ممدوح العربي: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ط1، الهيئة المصرية للكتاب، 1988. ص164.
(8) عبد الله المشد، المرجع السابق، ص57.
(9) المرجع نفسه، ص176.
(10) المرجع نفسه، ص176-177
(11) سورة التوبة: الآية (18).
(12) عبد الله المشد، المرجع السابق، ص59.
(13) عبد السلام هارون: تهذيب سيرة ابن هشام، ص103.
(14) محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، ط8، دار الفكر ، دمشق، 1980.ص199.
(15) سورة الحجرات: الآية (10).
(16) أسعد السحمراني: الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، ط1، دار  النفائس، بيروت، 1988. ص 112.
(17) فايد حماد عاشور ومصلح أبو عزب: المرجع السابق، ص 111.
(18) محمد سعيد رمضان البوطي: المرجع السابق، ص201.
(19) محمد ممدوح العربي: المرجع السابق، ص 166.
(20) البوطي: المرجع السابق، ص202.
(21) محسن الموسوي: المرجع السابق، ص183-184.
(22) انظر: مواد هذه الوثيقة في كتاب محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط5، دار النفائس، بيروت، 1985. ص57-64.
(23)  وهذا بخلاف اليهود المعاصرين الذين يحتلون فلسطين وقد جاؤوا من أصقاع الأرض للممارسة الاعتداء على المسلمين وحقوقهم. 
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »