المنهج النبوي في تنظيم دولة المدينة

المنهج النبوي في تنظيم دولة المدينة

الدكتور جبر الهلّول
أرسى النبي صلى الله عليه وسلم أسس دولة المدينة الثلاثة، بناء المسجد النبوي، ثم المؤاخاة بين الهاجرين والأنصار، ثم بعد ذلك وضع وثيقة المدينة التي كانت بمثابة الدستور لتلك الدولة الناشئة. واستكمالاً لهذه الأسس أخذ النبي صلى لله عليه وسلم بتنظيم دولة المدينة من نواحي عدة. هذه النواحي أعطت صورة واضحة عن المنهج النبوي الموحى به من الله عز وجل في تنظيم دولة رسالية مكلفة بنشر الدعوة في جميع أصقاع الأرض، ولتكون هذه الدولة المثل الأعلى لمن أن يقيم دولة قوية من الناحية الداخلية والخارجية.
وأهم هذه النواحي التي تناولها النبي صلى لله عليه وسلم:
1-     المنهج النبوي من الناحية العسكرية.
2-     المنهج النبوي من الناحية السياسية.
3-     المنهج النبوي من الناحية الاقتصادية.
4-     المنهج النبوي من الناحية الاجتماعية.
أولاً: المنهج النبوي من الناحية العسكرية:
بعدما أصبح للمسلمين دولة يقودها النبي صلى الله عليه وسلم جاء الإذن من الله بالسماح للمؤمنين بالقتال في قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير }(1). فمن الملاحظ أن هذا الإذن جاء في بداية المرحلة المدنية أي بعد انقضاء المرحلة المكية التي لاقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة الأذى والاضطهاد من مشركي مكة مدة ثلاث عشرة سنة دون أن يسمح له بقتالهم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل أن المسلمين في مكة لم ينتظموا في جماعة لها استقلالها وحريتها كما أصبحوا في المدينة التي أرسى النبي صلى الله عليه وسلم دعائمها. وهذا الانتظام يتطلب الحماية والوقاية من الأخطار المحدقة به فجاء الإذن من الله تعالى تحقيقاً لذلك.
وكان هذا الإذن بالقتال بداية لتشريع الجهاد في سبيل الله وتنظيم أحكامه. إذ بعد ذلك جاء الأمر من الله بالسماح للمسلمين بقتال من يعتدي عليهم بقوله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين  }(2)، ثم بعد ذلك جاء الأمر من الله تعالى بقتال المشركين كافة بقوله: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}(3)، وقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(4). وبذلك فرض الجهاد على المسلمين إلى قيام الساعة.
«ولقد شغلت آيات الجهاد حيزاً كبيراً في القرآن الكريم يكاد أن يبلغ نصف المدني وفي هذا دليل على أن هذا الموضوع كان من أهم مواضيع أو اهتمامات الرسول صلى الله عليه وسلم بل إن السيرة النبوية في العهد المدني تضمنت حيزاً عظيماً من الجهاد ووقائعه»(5).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الجهاد ويعبئ الجيش ويقوده بنفسه ويشرف على ترتيبه وخططه، في وقت كان المسلمون جميعاً يشكلون جيش دولة الإسلام الأولى الذي كان في حالة تعبئة عامة باستثناء من أعفاه القرآن الكريم من الخروج كالمريض والضعيف ومن كان فيه عجز جسدياً.(6)
إذاً اهتمام الرسول صلى لله عليه وسلم بإعداد المسلمين من الناحية القتالية، واعتبار ذلك من أولى أولويات دولة المدينة. دليل على أهمية هذه الناحية بالنسبة لوجود الدول وبقائها ونلاحظ ذلك في العصر الحاضر إذ الدولة التي تمتلك القوة العسكرية تستطيع أن تفرض سياستها على الآخرين وترهبهم. وهذا ما يحتم على دول المسلمين اليوم أن يهتموا بهذا الجانب ويقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي راح طيلة العصر المدني يعمل دون وهن على تعليم أتباعه فنون القتال وتدريبهم على استعمال السلاح رافعاً شعاراً واضحاً لا غموض فيه : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }(7)، معتداً في سعيه لتكوين (المقاتل المسلم) على أسلوبين متوازيين: التوجيه المعنوي والتدريب العملي في أولاهما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المقاتلين، يمنحهم أملاً يقينياً بالنصر أو الجنة...أما الأسلوب الثاني الذي اعتمده كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء: رجالاً ونساء وصبياناً وشباباً وشيوخاً، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعناً بالرمح وضرباً بالسيف ورمياً بالنبل ومنارة على ظهور الخيل، كما أكد على ضرورة تعلم القتال في كل ميدان براً وبحراً، تنفيذاً لشعار الله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} على إطلاق القوة.(8)
ويرجع اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإعداد الجيش إلى المهام المستقبلية التي تقع على عاتقه التي يجب عليه القيام بها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدرك عن طريق خبر السماء أن دولته الرسالية لن تكون بمنأى عن الأعداء الذين يحيطون بها من كل جانب. وهؤلاء الأعداء سيبقون على عدوانيتهم وكيدهم للإسلام إلى قيام الساعة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل»(9).
ويمكن لنا من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشرفة أن نجمل وظائف الجيش الإسلامي في دولة المدينة ـ والتي هي وظائف الجيش الإسلامي إلى قيام الساعة ـ بالتالي:
1-     دفع الاعتداء عن دولة الإسلام.
2-     الدفاع عن الدعوة الإسلامية وتأمين حرية انتشارها.
3-     نجدة المستضعفين من الرجال والنساء المسلمين الذين يعيشون في كنف دول غير إسلامية.
4-     محاربة المرتدين وتأديب ناكثي العهد.
5-     منع الفتنة في الدين أي محاربة من يسعى لإفساد المسلمين من الداخل وعلى كل المستويات الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك.
إذاً المنهج النبوي في تنظيم دولة المدينة من الناحية العسكرية الذي هو جزء من الجهاد في سبيل الله له أهميته الكبرى في بناء الدولة الإسلامية لاسيما أنه السبيل إلى أخذ بأسباب القوة الذاتية التي تمكن للإسلام وتجعل له الاستعلاء والسيادة والقيادة في العالم، ويكفينا أن تكون الغاية من الاهتمام بالجيش والاعتناء به قوله تعالى:{ ترهبون عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}(10).
ثانياً: المنهج النبوي من الناحية السياسية:
لقد اصطفى الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم ليكون رسولاً ونبياً للعالمين، ومكلفاً بتبليغ رسالة الإسلام إليهم. وهذه المهمة الرسالية للنبي صبغت حكومته في المدينة بالصبغة الدينية إذ «أصبح الدين دون الجنس المرجع الوحيد في تحديد العلاقات بين الحكومة والرعية ثم بين أفراد الشعب جميعاً»(11). وهذا لا ينفي عن حكومة النبي الصفة السياسية إلى جانب الصفة الدينية لأنه صلى الله عليه وسلم كانت له مهمة قيادية من خلال الشرع الإسلامي فقال تعالى:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(12). وهذا ما نصت عليه وثيقة المدينة بقولها: «وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم»(13). ويشمل هذا النص اليهود وجميع رعايا الدولة الذين عليهم الإقرار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم والرجوع إليه في الأمور التي لها أهميتها في شؤون الدولة.
لذا لا تناقض بين الصفة الدينية والصفة السياسية بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يمثل الزعامة السياسية بأرفع معانيها، لاسيما إذا كانت هذه السياسة تمثل أرقى سياسة عرفتها البشرية لأنها عملت على بناء أمة قيادية متحضرة تربطها فيما بينها المحبة والتآخي ويسودها العدل وتتمتع بالحرية التي تجعل من جميع رعايا الدول عنصراً فاعلاً في حركة الدول ونموها.
وباعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قائد دولة المدينة، لذلك، كانت من أولى الواجبات الملقاة على عاتقه وعي الظروف التي تعيشها المدينة وإدراكها، لكي يستطيع من خلالها التعامل مع الواقع في سبيل تغييره إلى الأفضل(14). ولذلك تجلت السياسة النبوية في تنظيم دولة المدينة من خلال توطيد دعائم الاستقرار السياسي، وبناء جبهة داخلية قادرة على الوقوف صفاً واحداً أمام أي عدو يهدد المدينة.
لذلك ندرك من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومن كتابة وثيقة المدينة التي شملت جميع رعايا الدولة من يهود ومشركي المدينة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على الاستقرار الداخلي لدولته وذلك لأنه يعلم أن الدولة التي تفقد هذه الميزة تبقى في اضطراب دائم يمنعها من بناء ذاتها، ويضعفها عن الوقوف في وجه عدوها(15). ولقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن مصدر القلق والاضطراب الذي يهدد المدينة يأتي من قبل اليهود لما كان لهم من دور بارز في حياة المدينة قبل الهجرة، وللحقد والكراهية التي يضمرونها له ولأتباعه. ولذلك لابد من ملاحظة هذا الوجود الخطر الذي يهدد الجماعة الإسلامية والذي قد ينقلب في أي لحظة مستغلاً أقسى الظروف للتعاون مع العدو الخارجي. ولا يجد النبي صلى الله عليه وسلم أن من الحكمة إخراجهم من المدينة لينضموا إلى عدو المسلمين مشكلين حلفاً أمام دولة حديثة النشوء وغير قادرة على مواجهة تلك القوة التي تجمعها مصالح مشتركة لمواجهة الإسلام وأهله بقوة مادية كبيرة من السلاح والمال والرجال التي يمتلك اليهود  جلها(16).
لذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتناول هذا الواقع «بحكمة النبي، وحزم القائد، وحنكة السياسي، وخبرة المربي، ليضع الحل المناسب الذي يجنب المسلمين ما يتوقع من يهود من الشر، حتى يشتد عودهم، وتقوى شوكتهم، ويصبحوا قادرين على مواجهة عدوهم، وتلخص هذا الحل في عقد معاهدة بين المسلمين من جهة، وبين اليهود من جهة أخرى»(17). وقد شكلت هذه المعاهدة تحالفاً عسكرياً سياسياً مع اليهود من خلال التناصر فيما بينهم على من يحارب أهل هذه الصحيفة والمقصود بهم اليهود والمسلمين معاً. وبذلك استطاع النبي صلى لله عليه وسلم أن يجر اليهود إلى جانبه أو على الأقل تحيدهم والتفرغ للعدو المباشر والرئيس وهو الوثنية المكية. ولذلك كانت هذه الخطوة الأسلوب الناجح للنبي في مواجهة أعداء الدعوة في كافة مراحل الصراع، إذ كان يعمل على تجميد خلافاته مع بعض الجماعات المضادة له من أجل التفرغ للعدو الرئيس، الذي تكون خطورته أشد على النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة.
فالمعاهدة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وبين اليهود تعد انتصاراً سياسياً باهراً للمسلمين، حيث كفت المسلمين شر اليهود فترة من الزمن تمكنوا فيها من تنظيم أوضاعهم والوقوف على أقدامهم في قوة ردعت أعداءهم، وأنزلت بهم هزيمة منكرة، ذاع صيتها في أنحاء الجزيرة العربية، فأرهبت كل من تسول له نفسه صد الناس عن هذه الدعوة، أو الوقوف في طريقها، حيث التزم بها اليهود ثمانية عشر شهراً تقريباً أي منذ عقدها حتى انتصر المسلمون في غزوة بدر، ثم كان بعد ذلك غدرهم ونقضهم لها(18).
كذلك كان من دعائم الاستقرار الداخلي التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أن أوجد السلطة القضائية القائمة على قواعد الشرع الحكيم، فكان يحكم بين المتخاصمين، وكان هذا الحكم ملزماً وتتولى السلطة التنفيذية المتمثلة به تنفيذه، محققاً بذلك العدل والمساواة والطمأنينة والسلام في المجتمع الإسلامي. و«لعل القضاء هو أبرز أجهزة الحكم التي أراق عليها النبي صلى الله عليه وسلم صبغة جديدة، مبتكرة، بل نستطيع القول: إن النبي أوجد القضاء في جزيرة العرب، بمعناها المصطلح عليه اليوم، ولم يكن معروفاً من قبل»(19).
ثالثاً: المنهج النبوي من الناحية الاقتصادية:
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالجانب الاقتصادي منذ وطئت قدماه أرض المدينة إذ لاحظ أن اليهود يحتكرون التجارة فيها ويستغلون أهلها الذين يعملون بشكل أساسي بالزراعة ويحتاجون إلى المال للإنفاق على أنفسهم ومزروعاتهم ريثما ينضج محصولهم، وليس لهم ذلك إلا عن طريق القروض الربوية من اليهود، وكانت ترهق كاهلهم وتجعلهم في المرتبة الثانية من حيث الأهمية الاقتصادية في المدينة. أما بالنسبة للمهاجرين الذين تركوا أموالهم ومساكنهم وأهليهم في مكة فقد أصبحوا في المدينة يشكلون طبقة فقيرة تحتاج إلى متطلبات الحياة الجديدة وتأمين فرص العمل لها، لكي تشكل البطالة العنصر المعوق أمام بناء الدولة. لذلك كانت أولى الخطوات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل بناء اقتصاد قوي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وذلك في خطوة للقضاء على التفاوت بين الأنصار الذين كانوا يمثلون طبقة تمتلك الثروة وبين المهاجرين الذين لا يمتلكون شيئاً(20). إذ بهذا التآخي استطاع المهاجرون أن يأخذوا دورهم في المساهمة بتنشيط الحياة الاقتصادية للدولة الناشئة، واستطاعوا في فترة قصيرة أن يمتلكوا زمام تجارة المدينة ويبعدوها عن التأثير اليهودي، وبالتالي استطاعوا هم وإخوانهم الأنصار ربط الإنتاج بالتجارة، وكأنها حلقة واحدة تنمي الاقتصاد وتقويه وتحرره من التابعية والعناصر المؤثرة. وبذلك استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسي «القاعدة الأساسية للاقتصاد الإسلامي القائم على التعاون والتكافل بين العناصر المشتركة في العملية الاقتصادية»(21).
وقد جاء تحريم الربا ليجعل من الاقتصاد الإسلامي اقتصاداً قائماً على أسس إسلامية وخالياً من الأمراض الجاهلية التي كانت تجعل من المال عنصراً مستغلاً لجهود وعرق الآخرين بدل من أن يكون أداة في إسعادهم. لذلك جاء الإسلام ليعالج مشكلة التفاوت والفقر في المجتمع الإسلامي بإعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً وذلك بطرق عديدة تساهم كلها في إتاحة الفرصة للفقراء للحصول على المال وعدم استغلال عرقهم فحرم الغش والاحتكار وأكل المال بالباطل، وجعل لهم نصيباً من زكاة المال، وزكاة الفطر، وحظاً من خمس الفيء والصدقات والكفارات وشجعهم على عمارة الأرض والعمل المنتج من خلال إحياء الأرض الموات واستصلاحها، وكل ذلك بهدف ردم الفجوة الاقتصادية بين فئتين من الناس هما الأغنياء والفقراء(22).
من ذلك كله نرى أن اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناحية الاقتصادية دليل على أهمية هذا الجانب في حياة الدولة. إذ بقدر ما تمتلك الدولة من القوة الاقتصادية بقدر ما ينعكس ذلك على مجمل نواحي الحياة، فيها حيث يعم الرخاء والازدهار وتصبح أكثر قدرة على امتلاك القوة الحقيقية التي تجعلها في مأمن من كل الأخطار التي تتعرض لها.
رابعاً: المنهج النبوي من الناحية الاجتماعية:
دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد استقرت عزيمته على بناء الدولة من كل النواحي ولا يتم ذلك إلا عن طريق التغيير الشامل لما هو موجود في المدينة من الفساد المستشري في أوضاعها، وإزالة المعالم التي من شأنها أن تثير الأحقاد بين سكانها، وإرساء قواعد جديدة للأمة التي يريد تكوينها، وذلك لكي تستطيع حمل أمانة الرسالة(23). فالرسول صلى لله عليه وسلم يدرك أن المجتمع القوي يكون قادراً على الصمود في وجه الأعاصير، وأن المجتمع المتماسك والمتراص يفرز جيشاً قوياً متراصاً، ولا يسمح هذا التماسك بوجود الثغرات التي تهدده من الداخل(24). لذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في بناء هذا المجتمع الإسلامي باتباع الخطوات التالية:
1-      قام النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وذلك ليزيل جميع الروابط الجاهلية من الطبقية والعصبية والإقليمية، التي تشكل عقبة في بناء أمة موحدة تتعاون على البر والتقوى وتنبذ الخلاف والإثم والعدوان، وأصبح المسلمون المتآخون في المدينة يشكلون قوة أخذت قريش تخشاها وتحسب لها  حساباً كبيراً(25).
2-      قام النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلص من الأخلاق الذميمة التي تحط من مكانة المجتمعات وتعوق نموها كالنزعة الفردية، والأنانية والحسد والبغضاء والحقد وإحلال مكانها الشعور بالجماعية وحب الخير للآخرين ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم وتفقد أحوالهم، وذلك لكي تزداد اللحمة بين أبناء الأمة الذين هم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. وهم متساوون في الحقوق والواجبات في دولة الإسلام كأسنان المشط. وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني مجتمع المحبة والصدق والإخلاص، مجتمع السلام والاستقرار، مجتمع تسوده الفضيلة بدل الرذيلة(25)، مجتمع أقدر على التفاعل والتعاون من أجل البناء والازدهار.
3-      قام النبي صلى الله عليه وسلم بإرساء دولة العدل والنظام وذلك بإحلال القصاص بدل الانتقام والثأر، ليشعر الجميع بالطمأنينة والاستقرار.
4-      قام النبي صلى الله عليه وسلم بإرساء نظام دعائم الأسرة لأنها تشكل اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي، وعلى قدر صلاحها يصلح المجتمع المؤمن ويقوى لمواجهة كل التحديات التي تقف في طريق نموه وتقدمه. ولذلك حض على الزواج ورغب فيه، نظم العلاقة الزوجية منذ بدئها إلى انتهائها بأحكام لا يأتيها الباطل لأنها من لدن عليم خبير.
5-      قام النبي صلى الله عليه وسلم بإنهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وذلك عن طريق التخلص من الرق الذي كان موروثاً من المجتمع الجاهلي بشكل متدرج، حيث حض على إعتاق العبيد وجعل ذلك كفارة لبعض نواحي التشريع الإسلامي.
من خلال ما سبق نجد أن هذه الخطوات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي جزء من تعاليم الإسلام كان لها أثرها في البناء الاجتماعي للمسلمين حيث نقل الفرد من السيف إلى المسالمة، ومن القوة إلى القانون، ومن الثأر إلى القصاص، ومن الإباحية إلى الطهر، ومن النهب إلى الأمانة، ومن الحياة القبلية إلى المسؤولية الشخصية، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن امتهان المرأة إلى إجلالها، ومن نظام الطبقات إلى المساواة.
والرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى من رسالته، وجه كل عنايته على إيجاد النظام الاجتماعي السليم مسترشداً بهدي السماء الذي يعشق المثل العليا، عاملاً على تحقيقها في إطار من التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع الإسلامي حتى ينعم الجميع بالأمن والرفاهية(26).
فالمنهج النبوي في تنظيم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة تناول جميع النواحي المؤثرة في حياة الدولة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك لأهميتها في إحداث التغيير الشامل نحو بناء دولة الحق والإيمان.





(1)     سورة الحج: الآية 39.
(2)    سورة البقرة: الآية 190.
(3)     سورة البقرة: الآية 193.
 (4)   سورة التوبة: الآية 5.
(5)   فايد حماد عاشور وسليمان مصلح أبو عزب: تاريخ دولة الإسلام الأولى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين،ط1، دار قطري بن الفجاءة، قطر، 1989. ص116.
(6)  أحمد الحصري: الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي، مصر.  ص70.
(7)   سورة الأنفال: الآية 60.
(8)   عماد الدين خليل: ص160-161.
(9)   أخرجه الترمذي برقم (2532) باب الجهاد.
(10)   سورة الأنفال: الآية 60.
(11)   محمد ممدوح العربي: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ط1، الهيئة المصرية العامة، 1988. ص185.
(12)  سورة النساء: الآية 65.
(13)  محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط5، دار النفائس بيروت، 1985. ص62.
(14)   أحمد راتب عرموش: قيادة الرسول (صلى لله عليه وسلم) السياسية والعسكرية،ط1، دار النفائس، بيروت، 1989. ص186.
(15)   محمد رواس قلعة جي: دراسة تحليلية لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته الشريفة، ط1، بيروت،1988. ص211.
(16)   محمد مختار الوكيل: المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى،ج2، دار المجتمع، جدة، 1989. ص31-32.
(17)   محمد مختار الوكيل: المرجع نفسه.
(18)  المرجع نفسه، 33.
(19)  منير العجلاني:عبقرية الإسلام في أصول الحكم، في الفقه الإسلامي، مصر. ص45.
(20)  محسن الموسوي: دولة الرسول، ط1، دار البيان العربي، بيروت، 1990.ص210-211.
(21)  المرجع نفسه: ص184.
(22)  محمد رواس قلعجي: المرجع السابق، ص216-217.
(23)  محمد مختار الوكيل: المرجع السابق، ص19.
(24)  محسن الموسوي: المرجع السابق، ص197-198.
(25)  فايد حماد عاشور، وسليمان مصلح أبو عزب: المرجع السابق، ص112.
(25)   المرجع نفسه، ص210.
(26) محمد ممدوح العربي: المرجع السابق، ص202.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
الاول