القضية السورية
ما بعد معركة فك الحصار عن مدينة حلب تختلف عما قبلها
الدكتور جَبْر الهلُّول
حُوصِرت حلب من قِبَلِ العدوان الثلاثي – روسيا وإيران والنظام - في السابع
عشر من شهر تموز الماضي بعد أكثر من شهرين من المعارك والقصف المستمر بكل أنواعه،
لكن في غضون سبعة أيام فقط وبعد عشرون يومًا على إطباق الحصار على المدينة تمكنت
المعارضة بفصائلها المجتمعة في غرفة "جيش الفتح" من خارج منطقة الحصار
ومن داخله غرفة "فتح حلب" من فك الحصار عن أحياء حلب الشرقية. التي أراد
النظام ومن معه أن يفرض واقعًا عسكريًّا جديدًا على مدينة حلب زاعمًا بأن المدينة
أصبحت بكليتها تحت سيطرته وقبضته وأنه من خلال الادّعاء بفتح ممرات للمدنيين
باتجاه القسم الغربي للمدينة الذي يحتله أراد الاستثمار السياسي بالإيحاء أنه
استطاع أن يُخرج المدينة من دائرة الصراع ويعرض الاستسلام على المقاتلين الموجودين
داخلها، وذلك ليثبت إعلاميًّا بأنه ما زال موجودًا وقادرًا على الحسم العسكري في
مناطق أخرى أقل شأنًا من مدينة حلب فتكون لاحقًا إدلب عندئذٍ تكون قد قُصمت ظهر
الثورة، ويُصبح عندئذ شريكًا فعليًّا في محاربة "الإرهاب".
لذلك نجد النظام بمجرد إنجازه خطوة حصار حلب أعلن عن قبوله المشاركة في
محادثات جنيف على اعتبار أنه ظن لوهلة أنه قد حسم الوضع الميداني في حلب وأن إدلب
ستأتي لاحقًا من خلال الشراكة العسكرية الأمريكية في ضرب "جبهة فتح
الشام" التي سارعت أمريكا ورسيا على إعلان أن الفك الارتباط لن يغير من حقيقة
تصنيفها ولن يحول دون ضربها، وبالتالي اعتبر النظام أنه بمجرد إطباق الحصار على
مدينة حلب أنه قد حسم طاولة المفاوضات لصالحه، وقبوله الذهاب إليها لا ليجتمع بوفد
المعارضة التفاوضي – هذا إذا قبل الذهاب بتلك الظروف الميدانية - الذي انتزعت من
يده أهم أوراق القوة التفاوضية التي تتعلق بحلب إلا ليأخذ منه صك الاستسلام الذي
يريده، ويوجه ضربة إلى الدول الإقليمية والدولية التي وقفت إلى جانب الثورة وبخاصة
تركيا التي ظن أن انشغالها في ترتيب بيتها الداخلي بعد محاول الانقلاب الفاشلة سيُضْعِف
من اهتمامها بالقضية السورية، وربما ستعود لتطلب ود النظام من خلال إعلان تحسن
علاقاتها بروسيا!.
إذًا، إن إعلان النظام عن موافقته
المشاركة في محادثات جنيف المقبلة جاء من دون شروط لاعتقاده أن شروطه قد فرضها مُسبقًا
من خلال حصاره حلب، على اعتبار أنه ظن بذلك قد نسف التفاهمات الدولية والإقليمية
ووجّه ضربة إلى الاتفاق الذي كان مُزمعًا أن تبدأ تنفيذ مساراته الثلاثة مع بداية
شهر آب الحالي. بطبيعة الحال ما كان ذلك ليحصل لولا التخطيط والغطاء الروسي الذي
أعطى النظام ومعه إيران والمليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات الضوء الأخضر
للتمادي في ذلك، وبخاصة أن النظام ومعه إيران وجَدَا أن الاتفاق الأمريكي الروسي
لن يكون لصالحهما، الذي كان من صلب مقترح الاتفاق انتهاء دور النظام عمليًّا
والانتقال إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية التي كيفما كان تشكيلها أو مدة مرحلتها
الانتقالية ستنهي دور "الأسد" أو تضعفه على الأقل. كما وجدت روسيا في
التمادي بالحصار فرصة مشجعة للضغط لتعديل شروط الاتفاق لصالحها أكثر فسارعت مخادعة
أمريكا شريكتها في الاتفاق حول سوريا من خلال العودة مرة أخرى لفرض معادلة القوة
على الأرض، في خطوة أرادت بها الانتقام والرد على الخديعة الأمريكية في ريف حلب
الجنوبي وريف اللاذقية والتفرد الأمريكي في محاربة الإرهاب من خلال "تنظيم
الدولة" في مدينة منبج في ريف حلب الشرقي.
إن المعادلة السياسية "الطرفيَّة الأحادية" التي فرضها حصار حلب
لصالح حلف روسيا اعتمدت من دون شك على عمليات حسابية خاطئة إذ جاء رد "جون
كيري" سريعًا الذي اعتبر أن حصار حلب والعمل على فتح ممرات آمنة خديعة روسية تحتم عليه إعادة النظر في مقترح الاتفاق بينهما،
وبخاصة أن الإعلان عن فتح ممرات داخل مدينة حلب المحاصرة هي من صلاحيات الأمم
المتحدة وفق ما أعلنه دي ميستورا.
فالخطوة الروسية قُرئت سريعًا بأنها ضربة من موجهة لمقترح الاتفاق الأمريكي
الذي كان ينتظر الرد الروسي عليه بالإيجاب وليس بالخديعة العملية التي تجاوزت
مفهوم الحصار لتفرض معادلة الانكسار في حرب الإرادات الدولية والإقليمية، لذلك لم
يتأخر الرد الأمريكي بأن وضع الاتفاق جانبًا وترك خيار الرد وتصحيح معادلة التوازن
للأطراف الإقليمية والمحلية وفق حسابات القوة على الأرض نفسها وبالطريقة ذاتها
لتثبت أن الحل لا يمكن أن يكون عن طريق "الطرفية الأحادية" بل لابد من
وجود طرفين على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي أيضًا، وإذا أرادت روسيا أن
تخادع بتلك الطريقة فعليها أن تعلم قرار منع الحسم العسكري في سوريا لصالح الثورة
هو قرار دولي تمسك به بقوة وأن المعادلة "الطرفية الأحادية" هي التي
تتحكم بها في المنطقة، ولكن روسيا يبدو أنها لم تستوعب الدرس الأمريكي الذي دفع
بها وشجعها على الدخول في المستنقع السوري بعد!.
ولعل الصدمة الروسية من قساوة
الدرس الأمريكي الجديد كانت صمتًا سياسيًّا وإعلاميًّا على معركة فك الحصار وسرعة
إنجاز خطواته ومراحله مقارنة بعملية إطباق الحصار التي قادتها وأشرفت على تنفيذها،
فقد فوجئت بسرعة الرد العمليّ على خطتها التي انقلبت رأسا على عقب، وأربكت خطواتها
في كفية العودة السريعة إلى الاتفاق مجددًا بعدما انكشف خديعتها وأسباب تأخرها في
الإيجاب عليه، وفشل خطة حصارها لمدينة حلب سياسيًّا وعسكريًّا. حيث لم يكن فك
الحصار الذي انطلق من جنوب وجنوبي غربي حلب ليفك الحصار من جهة الشرق مقابل الحصار
الذي فرض من جهة الشمال ليعد التوازن الميداني فحسب بل إنه وجه ضربة قوية لمرتكزات
القوة العسكرية للنظام ومن معه في قلب معقله وحصنه الذي راهن على بقائه في حلب
خلال السنوات التي مضت ليس للدفاع عما هو تحت سيطرته منها بل بزعمه ليسترد السيطرة
على باقي أجزائها، وربما أوهم الروس مرة أخرى بقدرته على استرجاع جميع المناطق
المحررة إذا ما أمّنت له الغطاء الجوي المطلوب والحماية السياسية في البقاء فيث
السلطة ريثما ينجز ذلك، ويتمكن من سحق الثورة وإعادة سيطرته على كل الجغرافيا
السورية بدءا من "حلب أولا" الشعار الذي اتفق عليه وزراء الدفاع الثلاثة
الروسي والإيراني والنظام أثناء اجتماعهم في طهران تحضيرًا لمعركة حصار حلب ومن ثم
إعادة احتلالها مرة أخرى. لكنها خديعة الوهم التي استظلت تحتها الاستراتيجية
الروسية العسكرية في سوريا سرعان ما سقطت وأسقطت موقفها وأضعفته أمام الجانب
الأمريكي الذي ما فتئت تسعى لكي تحصل على شراكة عسكرية محدودة معه تكون مغنمها
الكبير من تدخلها العسكري في سوريا.
إنه بالتأكيد معادلة الحصار لا تساوي معادلة فك الحصار في النتيجة التي تم
التوصل إليها في معركة حلب لاسيما من خلال حرب الإرادات التي أثبتت أن إرادة الشعب
السوري ما زالت قوية في التحدي وأن الفصائل العسكرية ما زالت تملك خيارات الحسم
الجغرافي بل والعسكري، وأن الأطراف الإقليمية الداعمة للثورة ما زالت حاضرة بقوة
وقادرة على التغيير لصالح الثورة، ولعل تصريح وزير الخارجية التركية الذي دعا إلى
جولة رابعة للمفاوضات بعد فك الحصار فيه إشارة واضحة على ذلك، ورد غير مباشر على
موافقة النظام على حضور مفاوضات جنيف في آخر الشهر.
إنه من الأهمية بمكان قراءة ما يجري في حلب حاليًّا لا سيما معركة "ملحمة
حلب الكبرى" لفك الحصار وما سينتج عنها قراءة مختلفة عن المعارك السابقة
لأنها جاءت بعد الإعلان عن قرب توقيع الاتفاق الأمريكي الروسي بمساراته الثلاثة
وبدء تنفيذه على الأرض. فمعركة حلب تبدو الجولة الأخيرة بهذا الحجم من حيث
الإمكانيات التي وضعت فيها محليًّا وإقليميًّا، وبخاصة إذا ما عاد الاتفاق من جديد
للتطبيق بعد ترتيب كل الأطراف أوراقها النهائية بناء على المتغيرات الميدانية التي
فرضتها معركة الحصار ومن ثم معركة فك الحصار، الأمر الذي يحتم على المعارضة وبخاصة
العسكرية العمل على استثمار هذه المعركة وعدم التفريط بنتائجها القوية التي قد
يصعب تكرارها مرة أخرى في المنظور القريب ضمن الظروف الدولية والإقليمية والمحلية
التي ساهمت في تحقيق هذا الانتصار الكبير وساعدت في إنجازه والتعامل في المفاوضات
السياسية القادمة بمنطق القوة من خلال المعادلة العسكرية التي فرضتها في حلب والتي
يمكن أن تفرضها في أماكن أخرى محاصرة إذا وجدت الإرادة ذاتها في إدارة الصراع.
إن النتائج السياسية التي ستترتب لمعركة ملحمة حلب الكبرى ستكون بحجم
النتائج التي ستقف عندها هذه المعركة المفصلية في تاريخ الثورة السورية وستكون
العامل الحاسم في سياقات الحل السياسي، وأن المواعيد سواء للاتفاق الأمريكي الروسي
أو المفاوضات في جنيف القادمة سيتم جدولتها بناء لما ستنجلي عنه غبار هذه الملحمة
الكبرى وتستقر عنده حدود الجغرافية السياسية لكل الأطراف.
لكن التحدي الأبرز محليًّا والذي له التأثير الكبير في الاستثمار السياسي
المستقبلي لهذه المعركة يقع على عاتق الفصائل والقوى التي شاركت فيها التي استطاعت
على الرغم من كل المراهنات الدولية والإقليمية على الصدام فيما بينها قبل بدء هذه
المعركة أن توحد جهودها وتغلق جزءا كبير من خلافاتها الأيديولوجية والعسكرية
والسياسية لتخوض معركة بهذا الحجم وتحقق هذه النتائج الكبيرة عليها أن تستفيد من
هذه التجربة الناجحة محليًّا في تشكيل "جسم جديد" سياسي عسكري يخدم
القضية السورية ويخفف عنها وطأة الأجندات الخارجية وتكاليفها التي دفع فاتورتها الشعب
السوري، وتأخر النصر بتبعاتها، ويعمل على استثمار النصر الكبير بدلًا من تقاسمه كما
كان في معارك تحرير كبرى مثلما حصل في مدينة الرقة وإدلب.

1 التعليقات:
شاركنا التعليقاتنسأل الله أن يكون هناك استثمارا سياسيا ناجحا بحجم النصر العسكري الكبير وأن يكون للثوار كلمتهم الاقليمية لأنهم بالفعل الأقوى ميدانيا ...برسم السياسين ...ما أنتم فاعلون؟
ردالإبتساماتإخفاء الإبتسامات