معركة حلب
الموازنة بين الحصار وفك الحصار
الدكتور جبر الهلُّول
إنّ المُتابع لمُجريات الأحداثِ الميدانيّةِ وتداعياتها
لا يستطيع إلا أنْ يقف عند حدثٍ مفصليٍّ في تاريخ الثورة السورية يتعلقُ بمعركةِ
فك الحصار عن مدينة حلب، وهذا الحدث لا يُقارن مع مدنٍ مُهمّة استراتيجيةٍ أخرى
كمدينة حمص التي تعرضت لحصارٍ مُطبقٍ من قبل النظام أدى إلى خروجها عن دائرة
الصراع لصالحه، وكذلك بعض المناطق التي مازالت محاصرة كالغوطتين في ريف دمشق
اللتين لم يثنهما الحصار عن الصمود في وجه النظام الذي بات يَستغلّ الخلافات
والصراعات الداخلية كنتيجة للحصار ليتقدم ببطءٍ فيها ويقضم مزارعها وبلداتها مما
سيُضْعف صمودها تحت الحصار وسيُجبرها هذا الواقع الميداني في المستقبل على السقوط
المُتدرّج لجزء منها، ويُجبر الآخر بالتبعيّة على هُدنٍ ومصالحاتٍ محليةٍ تُؤدّي
بها في النهاية إلى الخروج عن دائرة الصراع أيضًا لصالح النظام.
فالحصار الذي تعرّضتْ له حمص وباقي المناطق على أهميته
وخطورته لم يكن ليُقارن بالحصار الذي وقع على مدينة حلب وتداعياته وخطورته
مكانيًّا وزمانيًّا، لأنه لم يتعلق بمستقبل المدينة وخروجها من دائرة الصراع بقدر
ما كان هو مرتبط بمستقبل الثورة السورية وحسْمِها عسكريًّا لصالح النظام وحلفه
العدواني على الشعب السوري. هذه النتيجة الحتمية من حصار المدينة كانت الدافع
الأساس وراء معركة فك الحصار التي كانت الخيار الوحيد أمام جميع القوى الثورية على
الرغم من اختلافاتها الأيديولوجية وأجندتها المتعددة، فمعركة فك الحصار كانت معركة
وجودية فاصلة بين استمرار الثورة وبين استسلامها وشكل عامل الزمن التحدي الأكبر
أمامها.
فعندما فُرض الحصار في السابع عشر من تموز الماضي عن
طريق الكاستيلو الذي كان مُتوقعًا كنتيجة طبيعية للمعركة الهمجية التي حشد لها
النظام وإيران وروسيا بشكل كبير وتخطيط طويل كان يجري في المقابل الإعداد لمعركة
فك الحصار من مكان آخر لم يكن في حسبان النظام، إذ بعد هجومٍ مُباغتٍ ومُفاجئٍ من
حيث المكان وإعداد القوة بتكاتف العَدد والعُدد، نجحت "غرفة جيش الفتح"،
بالتعاون مع غرفة علميات "فتح حلب"، في إحداث ثغرة مهمة في أقوى قلاع
النظام العسكرية وتمكنت من خلالها كسر الحصار الذي فرض على المدينة في معركة
استغرقت أقل من أسبوع. ومثّل هذا الهجوم النوعي بكل المقاييس نقطة فارقة في مسار
الثورة السورية، لاسيما بعد التدخل العسكري الروسي في (30/9/ 2015) الذي غير
معادلات الصراع على الأرض، وأضفى بعدًا مغايرًا في تفاعلاته الدوليّة والإقليمية
لصالح النظام وحلفائه. إذ لا يُمكن اعتبار معركة فك الحصار هو رد فعل على الحصار
وأن رد الفعل لا يساوي الفعل، بل إن معركة فك الحصار كانت فعلًا مُغايرًا تمامًا
لمعركة الحصار بكل المقاييس وليست رد فعل وإن جاءت بعد إطباق الحصار من قبل النظام
الذي كان يعد مرحلة نهائية من مراحل عمل فيها النظام على إعادة احتلال حلب.
فمعركة فك
الحصار وإن جاءت تتمة لمعركة إعادة تحرير ريف حلب الجنوبي بعد التدخل العسكري
الروسي من النظام وإيران بالدرجة الأولى إلا أنها جزءٌ مُتممٌ ومُهمٌّ لمعارك
التحرير الكاملة لمدينة حلب وإبعادها عن هاجس الحصار دفعة واحدة. لذا فقد شكلت هذه
المعركة خسارة حقيقية للنظام في حلب الذي لم يخسر مثلها منذ 2012، ذلك عندما قرّرت
الفصائل العسكرية إدخال المدينة بالقوة إلى ركب الثورة، عبر هجوم عسكري وقف عند
أبواب قلعتها. وقتها أدرك النظام حقيقة الخطر إذا ما تحررت عاصمة الشمال
الاقتصادية من يده وأصبحت بنغازي سوريا فوضع خطة استراتيجية في أواخر 2013 من أجل
استعادة السيطرة واحتلال ما تحرر من المدينة وريفها سميت "دبيب النمل"
تمكن من خلالها بعد ما يزيد عن عامين وبعد قرابة عام من التدخل العسكري الروسي
وبوجود عشرات المليشيات المتعددة الجنسيات بالإضافة إلى وجود الثقل العسكري
الإيراني الكبير من إطباق الحصار على مدينة حلب.
إذًا، لا يمكن
القول: إن معركة فك الحصار هي رد فعل على معركة الحصار، لأن ذلك يُقلّل من شأن
أهمية المعركة الاستراتيجية التي هي جزء لا ينفصل عن معركة تحرير المدينة بشكل
كامل ومرحلة من مراحلها في إطار معارك الحسم الجغرافي السياسي، بخلاف ما هي
بالنسبة إلى النظام التي هي جزء من المرحلة النهائية من معارك الحسم العسكري
للقضاء على الثورة انطلاقا من إعادة احتلال كامل مدينة حلب، وبخاصة إذا علمنا أن
التخطيط لكلا المعركتين كان معد مسبقًا - وإن كان النظام أقدم بكثير من الثوار في
وضع استراتيجيته لها - وأنهما تتمة لمراحل سبقت سواء بالنسبة إلى النظام، أو
بالنسبة إلى الفصائل الثورية.
فالموازنة بين معركة فك الحصار ومعركة الحصار لا تنطلق
من قاعدة الفعل ورد الفعل بمعنى لا يكمن اعتبار أن ما قام به النظام يُشكل
انتصارًا له وأن ما قام به الثوار لا يشكل انتصارًا ما لم يتم تحرير المدينة بكاملها.
إذ يكفي أن معركة فك الحصار أفشلت استراتيجية "دبيب النمل" التي عمل
عليها النظام بمشاركة عملية من قبل روسيا وإيران من أجل القضاء على الثورة، وحطمت
إمكانية النظام ومن معه بالعودة إلى معركة الحسم العسكري مرة أخرى، وجعلت من معركة
الحسم الجغرافي لصالحها في هذه المعركة التي هي جزء من معركة تحرير المدينة،
وبخاصة أنها جاءت من خلال سيطرتها لأول مرة على نقاط استراتيجية لم تسقط من قبل من
قبضة النظام وتم تحريرها بعدما كانت حصنًا منيعًا يعتدّ بها النظام ويعتبرها رمزًا
من رموز جبروته وطغيانه. كما أن معركة فك الحصار غيرت من معادلة الصراع على
المستوى الدولي والإقليمي والمحلي لصالح الثورة وستُعيد الحراك السياسي من جديد
على قواعد تناسب المتغيرات المستجدة إذا أُحْسن استثمارها وأُكملت مرحلة تثبيت
الانتصار فيها ولم تتعثر خطواتها أو تتصادم فيما بينها أو تتحول إلى معارك استنزاف
جانبية.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات