قراءة في قواعد الحرب
وأهدافها
(في الفكر الديني الإسلامي والفكر
الديني اليهودي)
الدكتور جبر الهَلّول
المبحث
الأول
القواعد الأخلاقية في الحرب في الإسلام واليهودية
إن قواعد الحرب الأخلاقية ليست ذات
معيار واحد عند الشعوب حتى يُنظر إلها نظرة واحدة، فهي تخضع إلى مجموعة من القيم
والمفاهيم الخاصة لكل مجموعة بشرية أو شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، يُلتزم بها
في الحروب على أنها المثل العليا والقيم السامية التي تنطلق منها في الحياة. لذا
لا يمكن لمجموعة بشرية أو أمة من الأمم أن تحكم على الأخرى بمنظارها وقيمها بأن
سلوكها وممارساتها غير أخلاقية في أي مجال في الحياة لاسيما في الحروب التي هي في
الأصل ظاهرة إنسانية اجتماعية تتمثل فيها أخلاق الشعوب وقيمهم ومبادئهم. ولإيضاح
التفاوت في المعيار الأخلاقي بين الأمم والشعوب لاسيما في الحروب، وبخاصة تلك
الحرب التي انطلقت رحاها بين المسلمين واليهود مع بدايات الإسلام الأولى، ثم تجددت
اليوم على يد الصهاينة اليهود الذين اغتصبوا أرضًا عزيزة على المسلمين، وينطلقون
من خلالها بخوض حرب تمثل قمة الأخلاق المستوحاة من العقيدة اليهودية التي لا تلتقي
بأي حال مع العقيدة الإسلامية التي شرّعت الحرب للمسلمين على أنها ضرورة اقتضتها
الدعوة الإسلامية. وللتعرف على ذلك لابد من الوقوف عند مفهوم الحرب
ومبادئها وأهدافها في كل من الإسلام واليهودية.
·
مفهوم الحرب في الإسلام:
إن تحديدًا دقيقًا لمفهوم الحرب في الفقه
الإسلامي فيه صعوبة بالغة، حيث لم يرد في كتب علماء المسلمين الأوائل لفظة الحرب
أثناء تناولهم قتال المسلمين الكفار، وذلك لما في هذه اللفظة من معنى الصراع
والتناحر والاستيلاء على ما يملكه الغير، وإنما عبّروا عن هذا بلفظ الجهاد([1]). وذلك لما في معنى الجهاد من شمولية وأهداف سامية عادلة، وبخاصة
أن معنى الجهاد يتضمن معنى الحرب وليس العكس. ومن هنا لا يمكن إدراك مفهوم الحرب
الذي تناوله العلماء المعاصرون في مؤلفاتهم إلا من خلال مفهوم الجهاد في الفقه
الإسلامي.
مفهوم الجهاد في سبيل الله:
تناول علماء المسلمين بحث مفهوم الجهاد
وأحكامه وفضائله في مؤلفاتهم في أبواب المغازي والسير.
أ-
الجهاد لغة: جاهد العدو ومجاهدة وجهادًا، قاتله وجاهد في سبيل
الله، وفي الحديث الشريف: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". والجهاد
محاربة الأعداء، والمبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل، والمراد
بالنية إخلاص العمل لله أي أنه لم يبق بعد فتح مكة هجرة لأنها قد صارت دار
الإسلام، وإنما هو الإخلاص في الجهاد وقتال الكفار. والجهاد المبالغة واستفراغ
الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء([2]).
ب-
الجهاد شرعًا: عرفه الشوكاني بقوله:
«بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما
مجاهدة النفس فعلى دفع ما يأتي به عن الشبهات وما يُزينه من الشهوات. وأما مجاهدة
الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما الفساق فالبيد ثم اللسان ثم القلب»([3]).
فمن خلال تعريف الجهاد
لغة وشرعًا نجد أنهما يتفقان في بذل الجهد واستفراغ الوسع في قتال الكفار ويكون
ذلك باليد أو اللسان أو القلب وإلى هذا المعنى ذهب معظم الفقهاء. ويتضح ذلك من
استعراض بعض التعريفات للجهاد:
فقد عرفه ابن عرفة من المالكية بقوله: «هو
قتال المسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى أو حضوره له، أو دخوله أرض
له»([4]).
وقال الباجوري: «الجهاد أي القتال في سبيل
الله مأخوذ من المجاهدة وهي مقاتلة لإقامة الدين وهذا هو الجهاد الأصغر وأما
الجهاد الأكبر فهو مجاهدة النفس»([5]).
فمن خلال ما سبق نجد أن الجهاد يلتقي مع الحرب
في أن كليهما قتال، ولكن هذا القتال في الجهاد يأتي بعد مرحلة مهمة وهي
محاولة حقن الدماء بالطرق السلمية ولا يتم اللجوء إلى الحرب «إلا عند اقتضاء الأمر
للمحافظة على الدعاة وتحصين البلاد لتحقيق السعادة الشاملة للبشرية في دنياها
وأخراها كما ارتضاها الإله الحكيم، وكل جهد يبذل في هذا المضمار فهو في سبيل الله
وحده ولإرضائه فقط من دون أن يشوب نوايا المسلمين نزعة مادية أو هوى شخصي أو تسلط
على رقاب العالم وسيادة الأمم»([6]).
فالجهاد لا يكون إلا لإقامة المجتمع المسلم
الذي تعلو فيه كلمة الله أكبر، الله أكبر من كل ظلم واعتداء، الله أكبر تبسط على
أجزاء الدولة الإسلامية للمحافظة على كيانها ووجودها من أي خطر يهددها أو يهدد
الدعوة الإسلامية، ويحاول أن يقف حجر عثرة في سبيل استمرارها عندئذ لابد للحق أن
يعلو ولابد للباطل أن ينزاح عن طريق الدعوة أولًا وبعد استنفاد الطرق السلمية لابد
من مقاتلة الممانعين والواقفين في وجه الدعوة أملًا بجلب المصالح ودفع المضار.
ونخلص إلى أن الحرب في الإسلام ما هي إلا جزء
من الجهاد الإسلامي في بعده الديني، وتعني مقاتلة كل من يهدد الأمة الإسلامية في
دينيها وأمنها ويقف في طريق الدعوة ويعوق حرية انتشارها وازدهارها على كل
المستويات التي تحتاجها الأمة بعد استنفاد كل الطرق السلمية في تحقيق ذلك.
·
مفهوم الحرب في اليهودية:
إن مفهوم الحرب في الفكر الديني اليهودي مرتبط
بمفهوم ومعنى اسم الإله المحارب عند اليهود "يهوه" الذي يأذن بالحرب أو
يمنعها([7])،
وهو الذي يقود المعارك مع شعبه الخاص اليهود لتمكينهم من الأرض التي وعدهم بها على
سبيل التفرد الخاص، وهو يحقق لهم النصر، أو يلحق بهم الهزيمة عقابًا على عدم
التزامهم وصاياه وأوامره.
فمفهوم الحرب في اليهودية لا يخرج عن بعده
الديني مهما تعددت أهدافها، وطالما أن "يهوه" هو الذي شرعن قواعدها
ومبادئها فعلى اليهود الذين هم جنود الرب المحارب أن يلتزموا بها ولا يخرجوا عنها
إلى قوانين وضعها الأغيار الذين هم بالأصل أعداء "شعبه الخاص" "شعب
الله المختار" المكلفين باستئصال الأغيار أو استخدامهم، وذلك بحسب طبيعة
المغايرة التكوينية البنيوية بين الطرفين التي هي كالفرق بين الإنسان والحيوان.
وإذا كانت الطبيعة الإنسانية شكلًا ومضمونًا هي حكر على اليهود وحدهم وفق العقيدة
اليهودية، فإن الطرف الآخر الأغيار "الغوييم" وإن أخذ مفهوم الإنسان
شكلًا فإن التعامل مع بنيته الحيوانية الدونية تقتضي مراعاة خطورتها على شعب الله
المختار وطموحاته لا سيما الذين يسكنون أرض كنعان التي منحها "يهوه" لهم
لإقامة مملكته التي ستنقاد إليها جميع شعوب الأرض في "العصر الخلاصي".
فمهوم الحرب في اليهودية له قداسة دينية تجعل من
اليهودي ينظر إليها على أنها قمة القيم والمثل الأخلاقية ومعيار الالتزام بأوامر
الرب التي تتمحور عليها حياته وجودًا وعدمًا، وقد عبر عن ذلك مناحيم بيغن بقوله: «لهذا نحن
نحارب.. ولهذا أيضاً نحن موجودون "نحن نحارب.. إذن نحن موجودون".. وإذا
لم نحارب سوف نفنى.. الحرب هي الطريق الوحيد للخلاص.. والحرب أيضًا هي الطريق
الوحيد الذي يجعلنا – نحن الإسرائيليين – لا نتحول إلى قطيع من الرقيق.. وإنما إلى
أسياد ومسيطرين! »([8]).
·
القواعد الأخلاقية للحرب في الإسلام
واليهودية:
فعندما خاض المسلمون حروبهم التزموا أسمى القواعد
الإنسانية والأخلاق الرفيعة، ولقد كانوا مضرب المثل في معاملتهم لأعدائهم، وترفعهم
عن دناءات عدوهم وألوان الغيظ والحقد والكراهية والتعصب، والسبب أنهم التزموا القواعد
الأخلاقية المستوحاة من الرسالة السماوية، ليكون دعاة هداية للبشرية لا أن يكونوا
دعاة قتل وتدمير واستئصال للآخر.
فالحرب في الإسلام اتسمت بالرحمة
وبالرفق مع الأعداء فهي تسعى إلى المحافظة على الأنفس لا باستباحتها من غير ضرورة،
كما «أن التخريب والإفساد لا يجوز إلا لضرورة حربية، وهذا موضع اتفاق لا خلاف فيه»([9])، لأنه مأخوذ من وصية النبيr في الحديث الشريف الذي رواه سليمان بن بريدة
عن أبيه رضي الله عنهما: «كان رسول اللهr إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في
خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا بسم الله وفي سبيل
الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا
وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ـ أو خلال ـ فأيتهن
ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم
وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن
لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم
أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون
لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فاسألهم الجزية،
فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل
حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه،
ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم خيرًا من أن
تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا
تنزلهم فإنك لا تدري أصبت حكم الله فيهم أم لا، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم»([10]). فهذا الحديث الشريف كان الأساس في المنهج
الأخلاقي الذي سار على هداه القادة المسلمون في كل فتوحاتهم وحروبهم.
كما أن هناك قاعدة عظيمة أمر الله تعالى
بها المسلمين في رد الاعتداء ألا وهو المعاملة بالمثل فقال: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}([11]). وعن هذا القاعدة قال محمد أبو زهرة في
كتابه (العلاقات الدولية في الإسلام): «من المقرر أن المعاملة بالمثل تُتخذ مبدأً
أساسيًّا في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم في الحرب والسلم على السواء،
ولكن اتخاذ ذلك المبدأ تقيد بالفضيلة، فإذا تعارض مع الفضيلة، أُهمل وأتّبعت
الفضيلة، لأنها المبدأ الثابت المقرر الذي لا يقبل التخلف كيفما كانت الحال.
وقد يَعجب بعض الناس من أن الفضيلة تحكم
في وسط السيوف وحيث يستباح الإنسان، فإنه حيث استبيح لا يبقى من القيود شيء يحترم،
ولكن نقول: إنها حرب مُقيدة بقانون السماء، وهي حرب الفضيلة المقاومة للرذيلة
المعتدية، وليس من المعقول أن يكون باعث الحرب الدفاع عن الفضيلة وتُنتهك حرماتها
في الميدان من أهلها مجاراة للمعتدين ولذلك كانت الحرب من جانب المسلمين مُقيدة
بالفضيلة لا تعدوها ولو جاوز حدودها المعتدون»([12]).
أما بالنسبة للقواعد الأخلاقية في
الحروب عند اليهود التي تشكل قمة القيم التي تمتعوا بها خلال وجودهم في التاريخ
فإنها مستمدة من فكرهم الديني الذي اتكأت عليه الصهيونية في جميع أفكارها وممارساتها،
فلم تترك منه جزئية من الجزئيات إلا وتمسكت بها فكرًا وعملًا في خدمة أهدافها
الاستعمارية في فلسطين التي أصبحت المكان الذي يستطيعون من خلاله أن يُظْهروا
أخلاقياتهم ومبادئهم الخاصة التي تُميزهم عن باقي البشر جميعًا، وأن يستطيعوا أن
يقدموا القرابين والأضاحي البشرية التي لا حصر لها من دماء أبنائها إكرامًا لإلههم
"يهوه" عساه أن يرضى عنهم ويُملِّكهم الأرض إلى الأبد!!.
فإذا كانت الحرب في الإسلام وسيلة
اقتضتها الدعوة الإسلامية فإن الحرب بالنسبة لليهود وسيلة وغاية في حد ذاتها، وما
يقوم به اليهود في فلسطين يعطي الصورة الحقيقة لقواعدهم الأخلاقية في الحرب قديمًا
وحديثًا، تلك الأخلاقية الفريدة التي احتكرت الآدمية وكل الحقوق التي تتبعها
لنفسها، وهتكت واستباحت الآخر فسلبته كل حقوقه التي تتعلق بآدميته، وتعاملت معه
كحيوان مفترس إذا ما قضتْ عليه غمرتها نشوة السعادة والانتصار، واعتقدت أنها على
قدر استئصال تلك "الحيوانات" من البيئة التي تمتلكها يُوهب لها مزيد من
الحياة. فحياتها ارتبطت أخلاقيًّا بوجود الآخر وعدمه، حيث يُشكل وجوده عدمًا لها،
وعدمه وجودًا لها. ومن هذا التصور يمكننا أن ندرك بداهة جميع القواعد التي يلتزم
اليهود في حروبهم قديمًا وحديثًا، حيث نجد أنها تنسجم مع أخلاقياتهم في أرقى
مستواها التوراتي والتلمودي. فكل شيء مباح في تعاملهم مع الآخر طالما أنه يُعزز
وجودهم ومكانتهم ويُحطّ من مكانة الآخر ويساعد على إقصائه عن طريق أهدافهم
وطموحاتهم المبنية على أنقاضه. فالشيء الوحيد الذي يجب عليهم عدم القيام به أثناء
الحرب هو عدم الاكتراث لحياة الآخر، مهما كانت صفته وقوته وضعفه، المهم أن تُفرّغ
الأرض منه لكي يعيش مكانه يهودي جاء من مكان بعيد ليحيى في أرض
"الأجداد" "أرض اليمعاد"!. فالأساليب كلها مباحة، والوسائل
كلها مشروعة طالما تحقق الغاية الأساسية في بناء الدولة اليهودية المترامية
الأطراف جغرافيًّا واقتصاديًّا.
·
مقارنة بين القواعد الأخلاقية في الحرب في
الشريعة الإسلامية واليهودية:
لقد
فرقت الشريعة الإسلامية أثناء الحرب بين المحاربين وغير المحاربين وبين الرجال
والنساء والأطفال وكبار السن وأعطت لكل حكمه أثناء القتال وبعده وفق ما تقتضيه
ظروف المعركة وموقف الأشخاص وتأثيرهم فيها وذلك لأن الحرب ضرورة من الضرورات لذلك
تقدر بقدرها.
أما
بالنسبة لليهودية فإنها لم تعرف مثل هذا التقسيم سوى التقسيم الذي قسم البشر إلى
قسمين يهود وغير يهود، بحيث يترتب على هذا التقسيم آثار في علاقات كل منهما لم
ترتق في يوم ما إلى مستوى علاقات السلم التي تسود بين الشعوب عادة. بل من خلال هذا
التقسيم دخلوا في حالة حرب مستمرة مع غيرهم لم يعد فيها للسلم طريق سوى فناء أحد
الطرفين. كما أصبح من خلال هذا التقسيم كل غير اليهود محاربين صغارًا وكبارًا رجالًا
ونساءً لا يوجد تفريق بين أحد منهم فالكل يستحق القتل والإفناء، وكل عمل يقوم به
اليهودي تجاه الآخر يعتبر عملًا مقبولًا عند إلهه "يهوه"، وهو كمن يقدم
قربانًا. ونستدل على ذلك بنصوص من التلمود:
-
«كل من يسفك دم شخص غير تقي (غير
يهودي)، عمله مقبول عند الله، كمن يقدم قربانًا إليه.
- الأضحية
الوحيدة المفروضة هي إزالة النجسين من وسطنا»([13]).
-
«من يصب زيتًا فوق غُوي (مفرد غوييم)،
وفوق أجساد ميتة يعفى من العقاب. هذا شرعي بالنسبة للحيوان لأنه ليس بشرًا»([14]).
- قال
أحد حاخاماتهم: «إن الكاهن يمكنه أن يبارك الشعب بتلك اليد، إذا كان المقتول
غير يهودي، حتى لو حصل القتل بقصد وسبق إصرار ويستنتج من ذلك أن قتل غير اليهودي
لا يعد جريمة، بل فعلًا يرضي الله (يهوه).
- وقال
أحد حاخاماتهم أيضًا: الشفقة ممنوعة بالنسبة للوثني، فإذا رأيته واقعًا في نهر
أو مهددًا بخطر، فمحظور عليك أن تُنقذه منه لأن الشعوب السبعة التي كانت في أرض
كنعان المطلوب من اليهود قتلها، لم تقتل عن آخرها، بل هرب بعض أفراد منها واختلطوا
بباقي أمم الأرض، ولذلك قال "ميما نود": إنه يجب قتل الأجنبي، لأنه من
المحتمل أن يكون من نسل هذه الشعوب السبعة، وعلى اليهودي أن يقتل من يتمكن من
قتله، فإذا لم يفعل ذلك كان مخالفًا للشرع، ومن ينكر شيئًا من المعتقدات اليهودية
يعتبر كافرًا»([15]).
هذه
الأحكام التلمودية استنبطت بشكل أساسي من توراة اليهود والأسفار الأخرى التي لحقت
به، التي جعلت من قتل الغير فريضة دينية "وزكاة للرب"([16])، وهذه الفريضة لا تتعلق بالأصل في حالة
ظرفية معينة وإنما هي واجبة في كل الأوقات. لكنها تتفاوت بين حد أدنى وحد أعلى من
القتل وذلك في حالتين: الحالة الأولى تنطبق على غير اليهود الذين ليسوا في حالة
حرب مباشرة معهم، أم الحد الأعلى فإنه يكون في حالة الحرب التي يجب فيها قتل جميع
المنتسبين إلى غيرهم([17]).
إن
هذا السلوك من اليهود هو تعبير عن خبيئة نفوسهم، لا يظهر إلى العلن إلا إذا قويت
شوكتهم، ووقعت الشعوب تحت سيطرتهم وسلطانهم. ومن هنا اختلف تعاملهم مع الشعوب
المغلوبة عنه مع الشعوب الغالبة، حيث في الأولى الحرب علنية صريحة أما في الثانية
حرب خفية تنطوي على خديعة ومكر لا يقل خطورة عن الحرب العلنية إلا في مظاهر
الوحشية في القتل. وحتى لا تبدو هذه الأحكام عامة عند اليهود يطبقونها أينما حلوا
وارتحلوا، هناك تفريق في شريعتهم بين الأرض التي دخلوها وهي وفق عقيدتهم الدينية
أرض الميعاد، وبين تلك التي دخلوها وهي خارج حدود تلك الأرض.
أما
الأرض التي دخلوها على أنها أرض الميعاد، فإن جميع الأحكام السابقة تُطبق عليها
دون استثناء، أي تحت قاعدة: « فلا تُبقوا أحدًا
مِنها حيًّا بل تُحَلِّلونَ إبادَتَهُم »([18]).
أما
الأرض التي يدخلوها وهي خارج أرض الميعاد فإن لها حكمان:
- إذا
دخلوها صلحًا: فإن كل الشعب الموجود فيها يجب أن يسخر لخدمتهم، وكأنهم هم الأسياد
والآخرون عبيدًا لهم.
- أما
إذا دخلوها عنوة: فيقتل جميع الذكور فيها، وتسبى النساء والأطفال، وتسلب الممتلكات
جميعها([19]).
أما بالنسبة للشريعة الإسلامية فهناك
تفصيل في أحوال أشخاص العدو يختلف عما جاء في اليهودية، إذ لا خلاف بين الفقهاء في
جواز قتلهم متى ظفر بهم، وقد ذكر ذلك السرخسي في قوله: «قاتلوا من كفر بالله في
دليل فرضية القتال، وإنهم يقاتلون لدفع فتنة الكفر ودفع شر الكفار، وهذا عام لحقه
خصوص. فالمراد من كفر بالله من المقاتلين ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حين رأى
امرأة مقتولة يوم فتح مكة استعظم ذلك وقال: هاه ما كانت هذه تقاتل، وإلى ذلك أشار
في هذا الحديث ولا تقتلوا وليدًا»([20]).
وكذلك قال الماوردي: «يجوز للمسلم أن
يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربًا وغير محارب»([21]).
كما أن الكاساني قال: «إن كل من كان من
أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أو لم يقاتل وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل
قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك»([22]).
إذًا لا يجوز قتل النساء والولدان لقوله
صلى الله عليه وسلم: "ولا تقتلوا وليدًا"، ولنهي صلى الله عليه وسلم عن
قتل النساء ما لم يقاتلن، فعن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة
مقتولة في يوم الخندق، فقال: من قتل هذه قال رجل: أنا يا رسول الله. قال ولم؟ قال:
نازعتني قائم سيفي. قال: فسكت. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة
مقتولة، فقال: ما بالها قُتلت وهي لا تقاتل. وهذا يدل على أنه إنما نهى عن قتل
المرأة، إذا لم تقاتل ولأن هؤلاء إنما لم يقتلوا لأنهم في العادة لا يُقاتلون([23]) وكذلك لا يجوز قتل الشيخ
الفاني الذي لا يرجى منه قتال ولا رأي ولا نسل وهذا ما ذكره السرخسي فقال أيضًا:
«أما إذا كان له رأي يقتل ألا ترى أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة
وستين سنة وقد ذهب بصره ولكنهم أحضروه ليستعينوا برأيه وأشار إليهم بأن يرفعوا
الثقل إلى عليا بلادهم ويلقوا المسلمين على متون الخيل بسيوفهم فخالفوه في ذلك...
وبذلك يكون السرخسي قد جمع بين الأحاديث الواردة في قتل الشيخ الفاني وتلك التي
تنهى عن قتله، مثل الحديث الشريف :«أن رسول الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال لا
تقتلوا وليدًا ولا النساء ولا الشيخ الفاني الكبير»([24]). وكذلك الحديث الشريف: «اقتلوا شيوخ
المشركين واستحيوا شروخهم». والمراد بالشيوخ البالغين وبالشروخ الاتباع من الصغار
والنساء. ([25])
ولكن «هؤلاء الذين لا يجوز قتلهم إلا
إذا قاتلوا أما أثناء الإغارة على بلد العدو وتبييته فقد يقتل هؤلاء ويصابون فإن
ذلك جائز لما رواه الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسأل عن الديار من ديار المشركين، يبيتون فيصيبون نسائهم وذراريهم،
فقال: هم منهم»([26]). وهذا القتل لم يكن بقصد، والعمد غير جائز
فيهم([27]).
وكذلك
يحرم الإجهاز على الجريح، وتتبع الفار وذلك لأن الحرب عملية جراحية، لا يجب أن
تتجاوز موضع المرض بمكان. ([28])
وكذلك
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة عن المَثلة بقوله: «لا
تغدروا ولا تُمثلوا»([29]).
أما
في اليهودية فليس هناك قواعد أخلاقية في الحرب كما عرفتها الشريعة الإسلامية، فهي
لم تمنع أو تقيد عملية القتل، فكل شيء مباح في سبيل تحقيق الهدف. بل ربما بعض
أساليب القتل التي تمتاز بشراسة معينة تكون أكثر أجرًا وبركة عند الإله
"يهوه"!. كما في النص التلمودي القائل: «من يصب زيتًا فوق غوي (مفرد
غوييم)، وفوق أجساد ميتة يعفى من العقاب، هذا شرعي بالنسبة للحيوان لأنه ليس بشرًا»([30]). ولا يقل صب الزيت فظاعة عن عملية تقتيل
الأسرى بالنوارج والمناشير تعبيرًا عن الحقد الذي يستشري في صدورهم، ومثل هذا
السلوك لا يأتي من عاميتهم أولًا، ولكن يأتي من صفوتهم وقادتهم، ثم بعد ذلك يصبح
منهجًا متبعًا من قِبلهم. فحين حارب داود ربَّة بني عمون (عمان اليوم): «أخرج
الشعب الذين بها، ونشرهم بمناشير ونوارج حديد وفؤوس»([31]) كما أباحت اليهودية لليهود بقر بطون الحوامل،
كما جاء في (سفر الملوك 15: 16) أن ملكهم "منحيم" هاجم مدينة
"تفصح" وذبح كل أهلها وأهلك ما بها وشق بطون جميع حواملها. ([32])
كما أن القتل الجماعي والمجازر الوحشية
تمثل أقصى درجات الأخلاق لدى اليهود، وأقصى درجات الالتزام بأوامر
"يهوه": «فاذهب الآن واضرب بني عماليق، وأهلك جميع ما لهم ولا تعف عنهم،
بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير». وجاء في
التلمود أيضًا: «اقتلوا جميع من في المدن من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر
والغنم والحمير بحد السيف». فتركيز الأوامر الدينية اليهودية على القتل الجماعي
والمجازر الوحشية والتزام اليهود بها جعل من هذه القاعدة غاية مقدسة في الحرب، بل
هي من أسمى الغايات لديهم، وأقصر الطرق لبولغ الهدف عندهم.
كما إن اقتران الإبادة الجماعية
بالمجازر الوحشية له مغزاه وأهميته، إذ كان لهاتين العمليتين هدفان بارزان يعتبران
بمثابة الدعامتين الأساسيتين اللتين قامت عليهما دولة "إسرائيل" في
الماضي والحاضر. أولهما: إيقاع الذعر في النفوس. والثاني: إفراغ الأرض من شعوبها.
لتكون قادرة على استيعاب اليهود وحدهم. ([33])
فالإبادة الجماعية كمبدأ عند اليهود عمل
ديني، لذا يجب أن يمارس بإتقان ودقة بالغة، دون أن يكون هناك أدنى تردد أو شفقة،
حتى لا يسارع يهوه في إظهار غضبه عليهم، فيحرمهم من تلك النعمة التي فازوا بها
(وأعني مهمة القتل للغوييم). فتلك المهمة يسمونها بعملية تطهير الأرض، ويعتقد اليهود
أن حياة الغوييم ووجودهم على ظهر الأرض هو تنجيس لها ولا يمكن الاحتفاظ بها دون
تلك العملية. وهذا ما أفتى به أحد حاخاماتهم، بقوله: «إنه لا بد من إبادة كل من
يقف في وجه إسرائيل من سكان البلاد، وإنه لا يمكن الاحتفاظ بالأرض دون تطهيرها من
الشعوب التي تسكنها، وهذه الإبادة والتطهير تستمد أصولها من وصية السلطة
التوراتية، وإنها كما ألزمت يشوع بن نون في الماضي، فإنها تلزمنا نحن اليوم، لذا
فلابد من إبادة كل الشعوب التي تؤخر إحياء إسرائيل في بلادها، فقوانين يشوع بن نون
في حق البلاد المفتوحة ما تزال سارية المفعول»([34]).
فاستهانة اليهود بحياة الآخر واتباع
منهجية الإبادة الجماعية بحقه ترتكز على نظرتهم الدينية الدونية للآخر الذي هو
مجرد فئران!!. وهذا تعبير شائع عندهم عند التحدث عن العرب لاسيما الفلسطينيين
منهم، حيث يرون أن هناك ملايين الفئران منهم. ولإيضاح ذلك أكثر، نستشهد بمجزرة
"قانا" التي قام بها اليهود في لبنان عام 1996، فقتلوا أكثر من مائة شخص
من المدنيين. وهي صورة مصغرة جدًا عن الحرب اليهوديةـ ففي حديث صحافي من جريدة
"كول هائير" 10/5/1996 مع خمسة جنود تابعيين لبطارية المدفعية المسؤولة
عن القصف، سأل الصحافي هؤلاء الجنود: ألم تعترضكم أية مشكلة ضميرية..؟.
أجابوا: ولماذا؟ لقد نفذنا الأوامر فحسب،
ولم يسألنا أحد عن رأينا على أية حال.
سؤال: ولو سألوكم رأيكم؟
جواب: كنا أطلقنا عددًا أوفر من القنابل
وقتلنا عددًا أكبر من الفئران. ([35])
وقد قيل أيضًا: أنه قد التقطت إشارات
بالعبرية أثناء قصف اليهود "لقانا" تقول: اقصفوا واقتلوا تلك النفايات
البشرية!. ([36])
وليس غريبًا أن يقول الجنود اليهود ذلك
أو يفعلوه لأن ذلك يتطابق مع الفكر الديني الذي يحض على فعله. وبخاصة أن الفتاوى
الدينية المعاصرة تشجع على ذلك، وتحث الجنود على القيام به، وتبرر لهم كل فعل
يقومون به تجاه الآخر. فقد خاطب الحاخام "إبراهام أفيدان" مسؤول الشؤون
الدينية في القيادة المركزية الإسرائيلية الجنود بقوله: «...مُصرح لكم بل من
واجبكم طبقًا للشريعة أن تقتلوا المدنيين الطيبين، أو بمعنى أصح الذين يبدون
طيبين، عندها استشهد بالنص الديني القائل: يجب أن تقتل أفضل الناس من غير اليهود»([37]).
وحتى لا يتردد الجنود في قتل المدنيين
نساء وأطفالًا فقد أصدرت القيادة الدينية للجيش الإسرائيلي عقب حرب 1973 كتيبًا
تحت عنوان "في شفق يوم الغفران، تأملات، الدراسات القانونية والأبحاث"،
ومما جاء في هذا الكتيب: «عندما تلتقي قواتنا بمدنيين خلال الحرب أو خلال ملاحقة
ساخنة أو غزو، ولم يكن مؤكدًا أن أولئك المدنيين غير قادرين على إيذاء قواتنا،
فوفق أحكام "الهالاخاه" (الشريعة) يمكن ، لا بل يجب قتلهم... والثقة
بعربي غير جائزة في أي ظرف، حتى إذا أعطى انطباعًا بأنه متحضر...، في الحرب، عندما
تهاجم قواتنا العدو، فهي مصرح لها، لا بل مأمورة وفق أحكام "الهالاخاه"،
بأن تقتل حتى المدنيين الطيبين، أي الذين يبدو ظاهريًّا، أنهم طيبون»([38]).
فهكذا هي مبادئ اليهود الأخلاقية في
الحرب التي لم يترددوا في ممارساتها على أرض الواقع وتاريخهم في اغتصاب فلسطين
شاهد على ذلك. وقد نقل عن شاهد عيان يهودي شارك في احتلال إحدى القرى الفلسطينية
عام 1948 قوله: «قتلنا حوالي مائة عربي ما بين نساء وأطفال، كنا نحطم رؤوس الأطفال
بالعصي.. لم يبق في القرية منزل واحد خال من الجثث، أما النساء فقد وضعوا في منازل
خلت من المياه والطعام، وبعد مدة حضر الجنود ونسفوا تلك المنازل»([39]). وقد نشرت صحيفة "هآرتس" في 24/
آذار 1995 فتوى لأحد حاخامات اليهود يقول فيها: «.. هذه هي تعاليم التوراة يفترض
في زمن الحرب قتل جميع اللايهود في المعسكر المعادي، حتى النساء والأطفال. هذا هو
مبدأ الحرب الشاملة، وإذا ما أقدم يهودي على العطف على عدوه فسيدفع اليهود الآخرون
حياتهم ثمنًا لذلك»([40]).
أما بالنسبة لمبادئ اليهود في معاملة
الجرحى والأسرى فإنها تنسجم مع الفكر اليهودي الاستئصالي للآخر، إذ لا جرحى ولا
أسرى في الحرب عند اليهود، الكل يجب أن يقتلوا. ولذا لا يجوز تقديم أية مساعدة أو
أي شيء يمد في حياة "الغوييم" أو يزيد من تكاثرهم أو يمنحهم حياة جديدة.
فالهدف من وجود اليهود هو استئصال الغوييم، فكيف إذن سيكون من أخلاقهم مداواة
الجرحى أو معاملة الأسرى معاملة إنسانية؟. بل العكس من ذلك إنهم مطالبون بقتل
الأسرى والتمثيل بجثثهم. كما فعلوا بالأسرى المصريين عام 1967، حيث أسرت قوات
يهودية بقيادة "شارون" ثلاثمائة ضابطًا وجنديًّا مصريًّا، فخلعت ملابسهم
وعصبت أعينهم وبدأت بتعذيبهم في صحراء سيناء بنشوة بالغة، وشارون يقول: إن أعداءنا
العرب ـ كل العرب ـ لابد وأن يملكهم الخزي والعار والندم إذا ما فكروا في ملاقاة
جنودنا في يوم ما، ثم التفت إلى جنوده، وقال لهم: إنها مجرد نزهة عسكرية، ثم أمرهم
بالسير على وجوه أسراهم بأحذيتهم العسكرية لمدت ثلاث ساعات، حتى أدمت وجوههم
وأعينهم وأنوفهم، ثم أمر المدرعات أن تسير عليهم وهم أحياء، فأفناهم عن بكرة
أبيهم. ([41])
فالقواعد الأخلاقية في الحرب هي قواعد
تنسجم مع القيم والقواعد المستوحاة من الدين في كل من الشريعة الإسلامية والشريعة
اليهودية والالتزام بها من قبل كل منهما يشكل قمة الالتزام بتلك الشريعة، وإن
معرفة تلك القواعد التي يلتزم بها الطرف الآخر في حربه تساعد في كيفية الإعداد
لمواجهته من جهة، وتكشف من جهة أخرى سمو القواعد التي جاءت بها الشريعة الإسلامية
لتخفف من آثار الحرب وويلاتها حتى على الأعداء، تلك القواعد التي جاءت مع الإسلام
والتزم بها المسلمون في حروبهم بشكل عام، قد سبقت بأربعة عشر قرنًا ظهور القانون
الدولي والاتفاقيات الدولية التي تنظم العلاقات الدولية في كل حالاتها في السلم
والحرب والتي لغاية الآن ثبت فشل تطبيقها وعدم الالتزام بها أو احترامها. ولكن
الذي ثبت وأكدته الحروب أن الأمم والشعوب تنطلق في حروبها من خلال أخلاقياتها المستمدة
بشكل أساسي من تراثها وفكرها الديني باعتباره منهج حياة لها في سلمها وحربها وفي
كل شؤونها. وممارسات اليهود في فلسطين وتمسكهم بتراثهم الديني ونقضهم ومخالفتهم
لكل الأعراف والمعاهدات الدولية التي تتعلق بحقوق الإنسان دليل على ذلك.
المبحث الثاني
أهداف الحرب في الإسلام واليهودية
الحرب
وجدت مع وجود الإنسان على هذه الأرض لأنها مرتبطة به، فهي قديمة كقدم هذا الوجود،
وهذا ما أكده ابن خلدون في مقدمته بقوله: «إن الحرب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة
في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل
منها أهل عصبيته. فإذا تذامروا لذلك، وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام
والأخرى تدافع، كانت الحرب. وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو منه أمة ولا جيل»([42]).
ويبدو من كلام ابن خلدون عن قدم الحرب،
واعتبارها «أمر طبيعي في البشر..» أن الحرب هي الأصل في السلوك الإنساني، وأن
السلام أمر عارض عليه، ويؤكد ذلك ما شهدته البشرية من حروب يعجز العقل البشري عن
إحصائها. ولكن طالما أن الحرب قد عرفتها البشرية على اختلاف أجناسها وألوانها
ومذاهبها واعتقاداتها وذاقت ويلاتها تبقى أهداف الحرب هي التي تحدد مشروعيتها، تلك
المشروعية التي تدفع الإنسان إلى بذل الغالي والرخيص في سبيلها. وبخاصة أن أسمى ما
يبذله الإنسان في تلك الحرب هي روحه مقابل تلك الأهداف التي يؤمن بسموها
ومشروعيتها. فلا يمكن لأي كان أن يخوض حربًا أو يجيش جيشًا من دون أن يحدد لمن
يقتحم غمارها الأهداف التي سيحارب من أجلها، وبقدر وضوح الأهداف وسموها، ترتفع
الهمم وتعشق النفوس الموت أكثر من عشقها الحياة.
وبالعودة إلى الأهداف التي شرعت من أجلها
الحرب في الإسلام والتي خاض المسلمون غمارها في سبيل الله وبذلوا النفس والنفيس
فيها، وضربوا أروع الأمثلة في سمو أهدافها وغاياتها، ملتزمين قواعد الشرع الحكيم
في أصعب الظروف وأحلكها، نؤكد بداية ما ذكرناه سابقًا: إن لفظة الحرب لم ترد في
كتب فقهاء المسلمين الأوائل، وذلك لما في هذه اللفظة من معنى الصراع والتناحر
والاستيلاء على ما يملكه الغير، وإنما عبروا عن هذا بلفظ الجهاد. وهذا لما في معنى
الجهاد من شمولية وأهداف سامية وعادلة، فالجهاد يتضمن معنى الحرب وليس العكس.
·
الهدف الديني
الذي شرعت لأجله الحرب في الإسلام واليهودية:
الحرب في الإسلام لا تكون إلا لإقامة المجتمع
المسلم الذي تعلو فيه كلمة الله أكبر، الله أكبر من كل ظلم واعتداء، الله أكبر
تبسط على أجزاء الدولة الإسلامية للمحافظة على كيانها ووجودها ورعاياها من أي خطر
يهددها أو يهدد الدعوة الإسلامية، ويحاول أن يقف حجر عثرة في سبيل استمرارها،
عندئذ لابد من الحق أن يعلو ولابد للباطل أن يُواجه أولًا عن طريق الدعوة، وبعد
استنفاد الطرق التي تحقن الدماء لابد من مقاتلة الممانعين والواقفين في وجه الدعوة
أملًا بجلب المصالح ودفع المضار. وبعبارة مختصرة أقول: إن الحرب في الإسلام جزء من
الجهاد الإسلامي، وهي مقاتلة كل من يهدد الأمة الإسلامية في دينها وأمنها، ويقف في
طريق حرية ممارسة رسالتها، وذلك على كل المستويات التي تحتاجها الأمة بعد استنفاد
كل الطرق السلمية التي يمكن أن تحقق ذلك.
أما بالنسبة إلى الحرب في اليهودية فهي تشكل
الأساس والجوهر الذي تقوم عليه. وذلك لأنه في اليهودية هناك "يهوه" إله
الحرب والقتال، والشعب الخاص الذي اختاره إلهه ليكون جيشه المقدس، والأرض التي
منحها لهم، وجعلها القاعدة الأساسية في الرضا والغضب عن شعبه. فبقدر طاعة أوامره
والسعي نحو امتلاك تلك الأرض يكون الرضا، والعكس بالعكس. إذ «ويل لبني إسرائيل إن
غضب الرب عليهم، فهو يذلهم ويهزمهم وينصر أعداءهم»([43]) عليهم.
وبما أن الأرض هي قاعدة الرضا بين
"يهوه" وشعبه، فإن الاستيلاء عليها له قداسته ومكانته في نفوس اليهود.
فهو هدف ديني بالدرجة الأولى لا يمكن أن يرقى لمستواه هدف آخر. وهذا الهدف على
وضوحه فقد امتلك نفوس اليهود وأمسى شغلهم الشاغل عبر كل العصور، وأمست الحرب هي
ديدانهم، وهي الخيار الوحيد لامتلاك "أرض الميعاد". وقد حاول اليهود عبر
حروب كثيرة الاستيلاء عليها بدءًا من حملة موسى (عليه السلام) التي تابعها من بعده
"يشوع بن نون" أحد أصفيائه حيث اقتحم أرض كنعان، وانتهاء بالقضاء على
وجودهم نهائيًّا فيها على يد الإمبراطور الروماني "تيطس" عام (70م)، وما
تخلله من القضاء على مملكتهم، وبخاصة بعد انقسامها على مملكتين مملكة إسرائيل
ومملكة يهوذا سنة 975 ق.م اللتين كانتا في حالة عداء وحروب مستمرة مع الدول
المجاورة، إلى أن قام "سرجون الثاني" سنة 721 ق.م بغزو مملكة إسرائيل
فحاصرها وأزالها من الوجود وسبى أسباطها وأجلاهم على ما وراء نهر الفرات.
أما مملكة يهوذا فقد خضعت له بالولاء ولم
يقتحمها إلى أن جاء "بختنصر" سنة 606 ق.م فأغار عليها وأخضعها لسلطانه،
ولما تمردت عليه أغار عليها للمرة الثانية سنة 586 ق.م ودمرها تدميرًا كاملًا مع
هيكلها وسبى أهلها إلى بابل الذين بقوا فيها إلى أن قضى كورش على دولة بابل فسمح
لمن يريد العودة أن يعود إلى فلسطين.
لقد ازداد تعلق اليهود بفلسطين بسبب الحروب
المستمرة التي خاضوها في سبيل الاستيلاء عليها والتمكن من البقاء فيها، إلا أن هذا
التعلق عَظُمَ في نفوسهم وازداد قدسية عندما أُبْعدوا ثانية عنها، وأمسى الحنين
إليها حنين الشوق إلى الوطن، ولكنه حنين مليء بالحقد والكراهية والرغبة في
الانتقام من الشعوب التي تسببت في ذلك. وأصبح التعلق "بأورشليم" بصفة
خاصة، وبفلسطين عامة تعلقًا يتجاوز التعلق الروحي إلى التعلق المادي بها، حيث الهيكل
وإن أمسى يبابًا مازال مكانًا مقدسًا وسكنًا "ليهوه". لكن بعدما أزال
"تيطس" الهيكل وأنهى الوجود اليهودي بفلسطين، تشتت اليهود في أصقاع
الأرض، ولم يعد لهم كيان سياسي أو روحي قائم فيها، بات التعلق مستمد من النص
الديني الذي كان الأداة الأساسية في المحافظة على يهوديتهم وطموحاتهم المتعلقة في
الأرض التي وعدوا أن يمتلكوها في آخر الزمن بعدما أخرجوا منها!!.
فكل أرض خارج فلسطين هي أرض شتات وغربة، بل
كذلك هي أرض عزلة لا يمكن لليهود مهما عاشوا أن يختلطوا مع أهلها بسب العداوة
الكامنة لهم في صدورهم نتيجة الموروث الديني الذي يقسم العالم على يهود وغير يهود،
وربط مصيرهم بالأرض «التي تفوق في قدسيتها أية أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار.
وتعاليم التوراة التي لا يمكن تنفيذها كاملة إلا في "أرض إسرائيل".
والسكنى فيها بمنزلة الإيمان ...ولهذا غدا الاستيلاء على الأراضي العربية التي تشك
"أرض إسرائيل" فريضة دينية وعملية تحررية»([44]).
وهي الهدف الأساسي من كل حرب يخوضونها. وهذا الهدف هو هدف ديني تندرج تحته كل
الأهداف الأخرى التي تعتبر مشروعة تبعًا لمشروعيته، من دون الأخذ بعين الاعتبار
لأي وجهة نظر أخرى. وإدراك أهمية هذا الهدف والتأكيد على قدسيته «يرى التلمود أن
فلسطين المثل الأعلى لجميع البلدان، ومن ثم فهو يرى أن من يمشي أربعة أذرع في
فلسطين يعيش بلا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعش في فلسطين يطهر من الذنوب، ويرى أن
حديث من يسكنون في فلسطين [من اليهود] في حد ذاته توراة»([45]).
فالهدف الأساسي وراء كل حرب يهودية هو
الاستيلاء على الأرض التي وعدوا بها من قبل إلههم "يهوه"، وكل حرب لا
تنطلق من هذا الهدف لا تنال بركة "الرب" ولا رضاه ولا تأييده،
فالاستيلاء على "أرض الميعاد" هدف تندرج تحته كل الأهداف الأخرى التي
تعزز وتخدم هذا الهدف. ومن دون وجود جزء من هذه الأرض تحت أيديهم لا يمكن أن
يخوضوا أية حرب مهما كان هدفها وغايتها. وبخاصة إذا علمنا أن الحرب تفقد مشروعيتها
ومبرراتها الدينية إذا لم تنطلق في سبيل الاستيلاء على "أرض الميعاد"
انطلاقًا من فلسطين والتوسع من خلالها نحو الأراضي الأخرى التي منحهم فكرهم الديني
أحقية السيطرة عليها. فالهدف الذي ينطلق وراءه اليهود في حروبهم هو هدف احتلالي
استعماري توسعي لا يتعلق بالدفاع عن الديانة اليهودية كديانة سماوية فقط وإنما
كمشروع استعماري ديني متعلق بأرض معينة، ولا يتعلق بالدفاع عن اليهود خارج نطاق
الأرض المخصوصة التي وعدوا بها.
·
أهداف
الحرب في الإسلام واليهودية الأخرى:
الحرب في الإسلام لها هدف علوي لا ينفصل عن
الأهداف الأخرى التي شرعت من أجلها ألا وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، ودفع الظلم
عن الإسلام والمسلمين مهما تعددت أشكاله وألوانه ومصادره، فالنية مهما تعددت
الأهداف فهي خالصة لنيل مرضاة رب العالمين. لهذا الحرب إذا قامت باسم الإسلام كان
لها هدف ولا تكون حربًا حمقاء، ولا قتالًا لفتنة أو حمية أو عصبية أو عنصرية، ولا
تكون لهدف توسعي استعماري، ولا تكون لهدف غير مشروع.
وبعدما وقوفنا على الهدف الأساسي في كل من
اليهودية والإسلام نستعرض أهم الأهداف الأخرى التي تندرج تحته في كل منهما:
أ-
أهداف الحرب في الإسلام:
يمكن أن نجمل الأهداف التي شرعت من أجلها
الحرب في الإسلام بخمسة أهداف هي:
1- دفع الاعتداء:
تعرض المسلمون للاعتداء بكل ألوانه، اعتداء
على أموالهم، واعتداء على نفوسهم، واعتداء على ديارهم وأعراضهم، وخير مثال لذلك ما
تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة إلى المدينة المنورة التي أبيح
فيها القتال لرد عدوان يتعرض له المسلمون، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل
دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دينه فهو شهيد، ومن قتل دون
أهله فهو شهيد».
وإن الحرب لرد العدوان هي فرض واجب على
المؤمنين حالة مقاتلة الكفار، أي بعد توفر سببه أو مسوغاته وغايته. ولا يشترط وقوع
الاعتداء فعلًا، بل يكفي معرفة تصميم العدو، والقيام بعدوان مسلح... فلا يعقل
انتظار المسلمين الأعداء من الشرق ومن الغرب ينقضون عليهم، وبخاصة بعد الشروع في
سلسلة من الاعتداءات «فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا» كما قال علي بن
أبي طالب كرم الله وجه. ([46])
إذًا دفع الاعتداء واجب على المسلمين وهو حق
ثابت لهم، وذلك لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}([47])، «ففضائل
الإسلام إيجابية تقاوم، وليست سلبية تستسلم، وكذلك كان القتال وكان ماضيًا إلى يوم
القيامة ما بقي الشر ينازع الخير»([48]).
وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة».
2- الدفاع عن الدعوة الإسلامية:
إن الدعوة الإسلامية تتطلب «تأمين حرية
انتشارها وممارسة شعائرها في أي مكان ولو كان ذلك خارج حدود دار الإسلام لأنه لا
يحق لأي حاكم حجب الدعوة عن شعبه ومنعه من اعتناقها أو منع المسلمين الموجودين على
أرضه من ممارسة عبادتهم بكامل الحرية»([49])،
لذلك فإن أي اعتداء على الدعوة الإسلامية يفرض القتال على المسلمين لرد هذا
الاعتداء.
3- محاربة المرتدين وتأديب ناكثي العهد:
إن الإسلام لا يجيز الإكراه في الدين، ولا
يجبر أحدًا على اعتناق الإسلام، ولكن في المقابل لا يسمح بالارتداد، وذلك لقوله
تعالى: {يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ
مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}([50]) أما
الذين ينكثون العهد ويخونون الميثاق فلابد لهم من التأديب الذي يردعهم ويجعلهم
مثلًا لمن تحدثه نفسه بضرب الجماعة المسلمة من الداخل عملًا بقوله: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم
مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}([51]).
4- نجدة
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان المسلمين:
الإسلام دعوة عالمية لذلك لا يمكن أن نجد جميع
من يعتنق الإسلام يعيشون على رقعة جغرافية واحدة، أو ينتظمون تحت ظل حكم واحد، لذلك
لابد أن نجد الكثير من المسلمين منتشرين في الأرض، ويشكلون نسبًا متباينة بين دولة
وأخرى، ولكن هؤلاء المسلمين يرتبطون بدولة الإسلام وبالمسلمين الآخرين ارتباطًا
دينيًّا قويًّا. وهذا الارتباط يفرض التزامًا على الدولة الإسلامية والمسلمين فيها
بمساعدة هؤلاء المسلمين ومناصرتهم لرفع الظلم الذي يتعرضون له عملًا بقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([52]).
فمن هذه الآية يفهم أن المسلمين في دار الإسلام ملزمون بنجدة إخوانهم المسلمين إذا
كانوا أقلية في أرض خارج دار الإسلام، وذلك في حالة وجود معاهدة بين دار الإسلام
وبين ذلك الحاكم غير المسلم الذي توجد الأقلية المسلمة تحت ولايته.
5- منع
الفتنة في الدين:
عندما لا يستطيع أعداء الإسلام محاربة
المسلمين من الخارج بشكل علني يعملون على محاربته من الداخل، وذلك من خلال إفساد
عقيدة المسلمين وزرع الفرقة بين صفوفهم عن طريق بعض الأحزاب والحركات الهدامة التي
تعمل على زرع الفتنة والتناحر فيما بينهم، ولهذا أمر الله عز وجل درء الفتنة
ومقاتلة من يعملون على نشرها بين المسلمين، يقول الله تعالى:{ وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ
إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}([53]). فاستنادًا
لقوله تعالى يحق للمسلمين شن الحرب على أية أمة تحاول الضغط على المسلمين لترك
دينهم سواء أكان ذلك عن طريق الترغيب أو الترهيب([54]).
ب-
أهداف
الحرب في اليهودية:
فمن خلال الهدف الديني الأساسي في الحروب
اليهودية الذي هو: الاستيلاء على "أرض الميعاد" يمكن أن نذكر عدة أهداف
أخرى لها أهميتها في حروبهم التي تنطلق من تلك الأرض، وفي سبيلها:
1- حروب
ذات أهداف دفاعية:
ينظر
اليهود إلى كل حروبهم على أنها حروب دفاعية، وذلك لأن الأرض التي من أجلها يقاتلون
هي أرضهم قد امتلكوها بوعد إلهي، وأشادوا على أغلبها مملكتهم في يوم ما. لذا
محاولة احتلال تلك الأرض والدفاع عنها هو دفاع عن وجودهم وحقهم فيها. هذا من جهة
ومن جهة أخرى، فإن قتالهم لكل من يسكن الأرض التي تسمى "أرض الميعاد"
هو: قتال لمستعمرين ومستولين على حقوقهم وممتلكاتهم التي منحهم إياها
"يهوه". كما إن قتل هؤلاء "الغوييم" هو قتال يباركه
"يهوه"، ويوصي به لأنه دفاع عن خصوصيتهم اليهودية واصطفائهم العنصري،
لذا هذا القتل هو هدف بحد ذاته. وقد انفردوا بهذا الهدف من دون سائر الخلق، وقد
قضت به شريعتهم على أنه أمر واجب متى تمكنوا منه، لا تبطل مشروعيته ما دام الوجود
قائمًا. فهو قتل مؤمنين لكافرين، قتل مصطفين لمبعدين، قتل بشر لحيوانات متوحشة،
هذا القتل مهما تعددت أسماؤه هو قتل يتقرب به من إلههم، ويكسبون فيه رضاه. فقد ورد
في سفر إشعيا: «اقتربوا واسمعوا أيها الأمم وأصغوا إلي أيها الشعوب لتسمع الأرض
وكل من فيها، العالم وكل من يخرجه. الرب غاضب على الأمم ساخط على كل جيوشهم، فحلل
سفك دمائهم، ودفعهم دفعًا إلى الذبح، فتطرح قتلاهم في الشوارع ويفوح النتن من
جيفهم. تسيل الجبال من دمائهم، ويفنى كل جند السماء»([55]).
فالقتل والتخريب والاستئصال هو هدف قضت به شريعة اليهود على أنه أمر واجب للدفاع
عن وجودهم من خطر الأغيار. وأن هذا الهدف هو الذي سيؤدي بهم إلى الوصول إلى أرض
الميعاد والتثبت فيها.
2- حروب
ذات أهداف اقتصادية:
لقد ارتكز الفكر اليهودي على عامل القوة في
الوصول على الهدف، ومن مقومات القوة، القوة الاقتصادية. ولو رجعنا إلى توراتهم نجد
على لسان إلههم: «نظرت إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعت صراخهم من ظلم مسخريهم
وعلمت بعذابهم، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض رحبة
تدر لبنًا وعسلًا، إلى موطن الكنعانيين والحثيين...» ([56]). فمن أجل التحول إلى وضع اقتصادي معيشي أفضل تشرع
الحرب بالنسبة لهم، وذلك لسلب الآخرين ممتلكاتهم وحقوقهم التي لم يعترف اليهود لهم
بأحقيتهم فيها لافتقداهم الصفة الآدمية التي يتمتعون هم بها. ولا يخفى على أحد أن
الأرض التي يحلم اليهود بالاستيلاء عليها من نهر الفرات إلى نهر النيل من يمتلكها
يمتلك قوة اقتصادية كبيرة، وقد كانت على الدوام محط تنافس المتنافسين عبر التاريخ.
3- حروب
ذات أهداف سياسية:
إن الوعود التي أعطت اليهود أحقية امتلاك
الأرض بدءًا من الوعد "لأبرام" تعني منحهم أرضًا لإقامة كيان سياسي
عنصري، لذا جاءت الحروب اليهودية الأولى والمعاصرة لتحقيق هذا الهدف وفق الخطة
التي رسمها لهم فكرهم الديني بحسب النص التوراتي الذي يأمر فيه "يهوه"
بإعلان حربه والتحرك نحو الأرض للاستيلاء عليها: «ها أنا سأرسل أمامكم ملاكًا
ويدخلكم أرض الأموريين والحثيين... جميعًا بعد أن أزيلهم ...لا تعملوا كأعمالهم،
بل أزيلوهم وحطموا أصنامهم...
والرعب مني أرسله أمامكم، وأهزم جميع الأمم
التي تواجهونها، وأجعل جميع أعدائكم يولون مدبرين، وأرسل الذعر أمامكم فتطردون
الحويين والكنعانيين والحثيين من وجوهكم. لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة لئلا
تصير الأرض قفرًا، فتكثر عليكم وحوش البرية. ولكني أطردهم قليلًا من أمامكم إلى أن
يكثر عددكم وتملكون الأرض. وأجعل حدود أرضكم من البحر الأحمر جنوبًا إلى البحر المتوسط
غربًا، ومن الصحراء شرقًا إلى نهر الفرات شمالًا، وأسلم إلى أيديكم سكان الأرض
فتطردونهم من أمام وجوهكم. لا تقطعوا لهم ولا لآلهتهم عهدًا. ولا يقيمون في أرضكم
لئلا يجعلونكم تخطئون إلي، فتعبدون آلهتهم ويكون ذلك لكم شركًا»([57]).
4- حروب
ذات أهداف اجتماعية:
إن الأهداف الاجتماعية في الحروب وإن كانت تتحقق
تلقائيًا عادة إلا أنها كانت محط اهتمام اليهود في حروبهم، حيث أكدت النصوص
الدينية على مجموعة من القضايا الاجتماعية سعت على تحقيقها من خلال الحرب مباشرة
كان أبرزها:
1-
تحقيق
اللحمة الاجتماعية.
2-
عدم
الاندماج والاختلاط مع غير اليهود.
3-
تعزيز
الشعور لدى اليهود بأنهم يعيشون بين قطعان من الحيوانات المتوحشة التي تهدد وجودهم
بالفناء.
4-
تعزيز
الشعور بالعدائية تجاه الغير من خلال الحرب المستمرة.
5-
إثارة
الروح القتالية وتفعيلها بشكل دائم لكي تحتفظ بقدرتها على المواجهة في كل الأوقات
وفي مختلف الظروف.
إن الحرب اليهودية وإن تعددت أهدافها فإنها
ذات طابع ديني، فقد يكون الهدف البارز مرة سياسيًا، وقد يكون مرة أخرى اقتصاديًا،
وقد تبدو الحرب في ظاهرها دفاعية، أو ذات أهداف اجتماعية إلا أن هذه الأهداف وإن
تعددت تبقى مشروعيتها قائمة لأنها مستمدة من الهدف الأوحد الذي حدده
"يهوه" لهم بالاستيلاء على أرض كنعان لتكون أرضًا خاصة بهم. وطالما لم
يتحقق هذا الهدف كاملًا، ولم يأت زمن الخلاص الذي يعتقد اليهود أنه لابد حاصل في
آخر الزمن، حيث تتوقف مشروعية الحرب، ويحل عليهم السلام الذي تخضع فيه جميع شعوب
الأرض لسيطرتهم وسيادتهم.
وإذا كانت الحرب في الإسلام ذات طابع ديني
لأنها شرعت لإعلاء كلمة الله في الأرض، فإنها أيضًا وإن تعددت أهدافها فهي على
الدوام مشروعة تبعًا لمشروعية أهدافها، وذلك إلى قيام الساعة.
ومن خلال ما سبق، نستنتج أن اليهود ينظرون على
وجه الخصوص إلى المسلمين الذين يسكنون الأرض التي وعدوا بها على أنهم محتلون
وغاصبون، والحرب واجبة عليهم لإخراجهم منها قتلًا وطردًا وتضييقًا لكي يتمكنوا من
إقامة مملكتهم العنصرية الخالية من غير اليهود.
أما بالنسبة للإسلام، ووفقًا لمشروعية الحرب،
والأهداف التي توجب على المسلمين خوض غمارها، فإن المسلمين ينظرون إلى اليهود
الذين يحتلون أرضًا إسلامية اليوم بأنهم معتدون غاصبون لحقوقهم ويجب عليهم إخراجهم
منها، ومتى تحقق ذلك، وزال اعتداءهم عنها، وعن أهلها تتوقف مشروعية الحرب تجاههم،
ولكنها لا تتوقف تجاه أي اعتداء من أية جهة كانت وفي أي زمن كان.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات