الأرض في الفكر الديني اليهودي
الدكتور جبر الهلول
إن ارتباط اليهود بالأرض التي يزعمون
ملكيتها ارتباط أسطوري، فقد شكلت هذه الأرض القاعدة الأساسية في فكرهم الديني الذي
ارتكز على ثلاثة أسس هي: الإله الخاص "يهوه"، والشعب الخاص
"اليهود"، والأرض الخاصة التي سميت بـ "أرض الميعاد". ومن
المعلوم أن الحركة الصهيونية قد اتكأت على تلك الأسس في بناء مشروعها الاستعماري
في المنطقة. لذا تأتي أهمية دراسة الأرض في الفكر الديني من خلال كونها القاعدة
التي قام عليها الفكر الديني اليهودي، والقاعدة التي قام عليها المشروع الصهيوني الاستعماري،
فإذا أُسقطت هذه القاعدة من الفكر الديني لم يبق هناك شيء اسمه اليهودية أو
اليهود، وإذا أُسقطت من المشروع الصهيوني لم يبق هناك شيء اسمه "دولة
إسرائيل" أو "الدولة اليهودية" في الوجود. ولإدراك أهمية ذلك نقول:
إن الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة لليهود لا يمكن فصله عن تلك الأرض التي صورها
لهم فكرهم الديني والتي امتلكت عقولهم وقلوبهم وأمست محور تفكيرهم وشغلهم الشاغل
وهمهم الدائم في كيفية الحصول عليها وفق تصورهم الديني لها.
فاليهودية في جوهرها هي مشروع لاستعمار
أرض محددة، وقد جعلت من اليهود عبر التاريخ جنوداً دائمين في خدمة هذا المشروع
الذي يتوقف عليه حاضرهم ومستقبلهم، ونيل القبول من إلههم الذي تكاد تنحصر عبادته
بالاستيلاء على تلك الأرض التي وعدهم بها، وينحصر فيها أيضاً عقوبته ومكافأته،
ورضاه وغضبه على الشعب الذي "اختاره"، وذلك من خلال حرمانهم وطردهم منها
في حال غضبه عليهم، وتمليكهم لها يكون بقدر رضاه عليهم، ويستشهدون على ذلك بما وقع
لهم في التاريخ. وما نجاح الحركة الصهيونية في القرن العشرين في الاستيلاء على جزء
من تلك الأرض الموعودة إلا دليل قبول لأعمالهم من قبل إلههم المخصوص
"يهوه"!!.
فحاجة اليهود إلى أرض خاصة قد أتت
منسجمة مع نظرتهم إلى أنفسهم على أنهم "شعب خاص" أو كما يزعمون أنهم
"شعب الله المختار". فالخصوصية التي جعلتهم يتفردون في صفات تكوينية
ومكانية حالت دون اندماجهم مع الشعوب الأخرى التي لا توازيهم في خصوصيتهم تلك، بل
جعلتهم غير قادرين على التعامل معها وفق المبادئ التي تلقوها من إلههم
"يهوه". من هنا أتت حاجتهم إلى أرض خاصة لكي يمارسوا عليها هذه المبادئ
ضمن الوظيفة أو المكانة التي تجعل منهم بشراً يحتكرون السيادة وحق استرقاق الآخرين
واحتقارهم ووصفهم بالدونية والصفات البهيمية.
ولكي
تتضح العلاقة بين الإله الخاص والشعب الخاص والأرض الخاصة علينا أن نرجع إلى سفر
التكوين حيث لعنة نوح تطارد كنعان جيلاً بعد جيل وحيثما استقر وتلك كانت نقطة
بداية التي يستمد منها اليهود مشروعيتهم في اغتصاب أرض كنعان وتعلقهم فيها، ونقطة
البداية في التفريق بينهم وبين الشعوب الأخرى إلى غاية الآن، بل وإلى قيام الساعة
أيضاً. وللتذكير بنقطة البداية تلك نستعرض القصة العجيبة التي وردت في سفر التكوين
التي تقول: «وكان بنو نوح الذين خرجوا من السفينة ساماً وحاماً ويافث، وحام هو أبو
كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومنهم انتشر سكان الأرض.
وكان نوح أول فلاح غرس كرماً. وشرب نوح
من الخمر، فسكر وتعرى في خيمته. فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما
خارجاً. فأخذ سام ويافث ثوباً وألقياه على أكتافهما. ومشيا إلى الوراء ليسترا عورة
أبيهما، وكان وجهاهما إلى الخلف، فما أبصرا عورة أبيهما.
فلما أفاق نوح من سكره علم بما فعل به
ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان! عبداً ذليلاً يكون لأخوته. وقال تبارك الرب إله
سام، ويكون كنعان عبداً لسام. ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام ويكون كنعان
عبداً له»[1].
فهذه اللعنة جعلت من كنعان عبداً لأخيه
سام الذي ورثت ذريته البركة والسيادة على كنعان على مدى تعاقب الأجيال وإلى آخر
الزمن. حيث لم تشأ الإرادة "اليهويه" منذ البداية أن تسكن الشعب الخاص
في المكان المخصص له ويتم الاتحاد الروحي بينهم جميعاً، وينتهي الأمر. بل على
العكس من ذلك، فقد أسكنت الشعب الخاص في المكان غير المخصص، وأسكنت الشعب الذي
تبعته اللعنة اليهويه في المكان المخصص الذي وهبته لذاك الشعب، وتبعاً لتلك اللعنة
أمرت الشعب الخاص بالذهاب لتلك الأرض التي خصصت له وانتزاعها من أهلها بالقوة عن
طريق الحرب. وأول من استجاب لذلك الأمر هو موسى في خروجه من مصر إلى أرض كنعان. حيث
قام بالتحرك باتجاهها مستنداً للأمر اليهوي الذي أعطاه الحجة في ذلك. فالوعد
الإلهي بامتلاك أرض كنعان كان المبرر لتلك الحملة التي سارت باتجاه فلسطين، وهذا
المبرر هو الحجة الأزلية لليهود في ممارسة العدائية تجاه الآخرين الذين يسكنون تلك
الأرض التي يحلمون على الدوام في امتلاكها على سبيل التفرد والاختصاص.
وقد استند اليهود في
ادعاءاتهم بحقهم في امتلاك الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات إلى نصوص دينية،
تحتوي من وجهة نظرهم على عدد من الوعود والتشريعات الإلهية التي تكسبهم الحق
الأبدي جيلاً بعد جيل ميراثاً لهم. وتبرز هذه النصوص اختلافات واضحة فيما بينها
حول مساحة وحدود تلك الأرض الموعودة. إذ يشير أحدها إلى أن الأرض عبارة عن جزء
صغير في منطقة نابلس، بينما يشير بعضها إلى مساحة أوسع بكثير تشمل الرقعة المحصورة
بين نهر الفرات ونهر النيل([2]).
ولكي تتضح صورة هذه الوعود لا بد من دراستها دراسة تفصيلية وفق التتابع الذي وردت
فيه في كتاب اليهود (التاناخ/ التاناك) ـ
(وهي التسمية التي يسمي بها اليهود كتابهم وهي تضم الأحرف الأولى من التوراة والنبيين والكتب) ـ متناولين ثلاث
مراحل هي:
1. الوعد مع أبرام.
2. الوعد مع موسى.
3. الوعد مع يشوع.
1. الوعد مع أبرام:
تعتبر حكاية هذا
الوعد مع هذا الرجل أبرام حكاية عجيبة، لأن هذا «الرجل الموعود بملكية الأرض لا
يقيم في أرضه الموعودة، فهو بدوي متنقل لا يستقر في أرض، فما إن ينصب خيمته في
مكان حتى يرتحل عنه إلى آخر، وإننا في نهاية المطاف، وبعد أن تكون التوراة قد أعطت
هذا الرجل البدوي أبرام كل أرض كنعان وما وراءها من الأرض الممتدة بين النيل
والفرات ملكاً أبدياً.. له ولنسله، نراه لا يملك منها شيئاً فيستجدي أصحاب الأرض
التي نصب فيها خيمته ملك قبر ليدفن ميته من أمامه بقوله لهم»([3]):
«أنا غريب ونزيل بينكم. دعوني أملك قبراً عندكم لأدفن فيه ميتي من أمامي»([4])!
أما الوعود التي نالها أبرام هي:
«ارفع عينيك وانظر من
الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، فهذه الأرض كلها أهبها لك
ولنسلك إلى الأبد… قم امش في الأرض طولاً وعرضاً، لأني لك أهبها»([5]).
ومساحة تلك الأرض تقدر بمقدار رؤيته في الاتجاهات الأربعة من حيث هو واقف وكان
عندئذ يقيم في خيمته بين إيل وعاي. ولكننا نفاجأ بقول التوراة: «فانتقل أبرام
بخيامه حتى إلى بلوط ممراً في حبرون..» ([6]).
وحبرون هي مدينة الخليل اليوم، وهي تقع إلى الجنوب من القدس في مثل ضعف المسافة
التي بينها وبين الأرض الموهوبة له في شمالها. وهكذا نرى أن أبرام يرتحل للمرة
الثانية عن أرض أعطاها الرب له ولنسله ليحل غريباً في أرض غيرها لا يملك فيها مكان
قبر لميته.
وتفاجئنا التوراة بعد
ذلك بوعد ثالث لأبرام: «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام عهداً قال: لنسلك أهب هذه
الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات…»([7]).
فهذا الوعد بحدوده الواسعة يشكل محور المشروع اليهودي الصهيوني الاستعماري قديماً
وحديثاً الذي أطلق عليه اسم "أرض الميعاد". جاعلين من هذا النص المستند
الديني في تمليكهم تلك الأراضي، ولأنه يعبر عن أوسع أحلامهم وطموحاتهم في امتلاك
أرض الغير ناسين ومتناسين الوعود السابقة عليه واللاحقة له التي تقلص تلك الأحلام.
وهم يعلمون أن إلههم قد قلص حدود تلك الأراضي التي منحها لأبرام في الوعد الرابع
له: «وأعطيتك أنت ونسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكاً مؤبداً وأكون لهم
إلهاً»([8]).
وبهذا الوعد ختمت الوعود بالنسبة لأبرام الذي تحول اسمه إلى إبراهيم الذي مات ولم
يمتلك من هذه الوعود سوى موضع قبرين لزوجته وله. ولكن بقي الوعد الثالث لأبرام
القاعدة الأساسية لكل الوعود التي أتت بعده.
وتعتبر الوعود مع
أبرام بشكل عام بداية طرح فكرة المشروع اليهودي المسمى بأرض الميعاد ومحاولة تحديد
إطار هذه الفكرة المكاني وترك زمن تنفيذها للأجيال اليهودية القادمة.
2. الوعد مع موسى (عليه السلام):
يتكرر
الوعد مع موسى بامتلاك الأرض ست مرات، دون أن تستقر على حدود ثابتة معينة. وقد
جاءت هذه الوعود على النحو التالي:
-
الوعد الأول: «وقال
الله لموسى: أنا الرب. تراءيت لإبراهيم وإسحق ويعقوب إلهاً قديراً، وأما اسمي يهوه
فما أعلمتهم به. وعاهدتهم على أن أعطيهم أرض كنعان، التي تغربوا فيها»([9]).
وهذا الوعد جاء موافقاً للوعد الأخير لإبراهيم ومنسجماً معه.
-
الوعد الثاني: «واجعل
حدود أرضكم من البحر الأحمر جنوباً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن الصحراء شرقاً
إلى نهر الفرات شمالاً…»([10]).
وبهذا الوعد توسع الحدود ولكن لا تصل إلى نهر مصر كما هو في الوعد الثالث لأبرام.
-
الوعد
الثالث: «وكلم الرب موسى فقال: قل لبني إسرائيل إنكم داخلون أرض كنعان، وهي الأرض
التي أورثتكم إياها، وهذه حدودها: الحد الجنوبي يمتد من برية صين على جانب أدوم،
فيكون من طرف البحر الميت شرقاً. ثم يستدير من جنوب عقبة عقربِّيم ويعبر إلى صين،
وينفذ من الجنوب إلى قادش برنيع، ويخرج إلى حصَر أدَّار، ويعبر إلى عصمون. ثم
يستدير الحد من عصمون إلى نهر مصر نافذاً إلى البحر.
وأما الحد الغربي
فيكون البحر الكبير تُخُماً. ذلك يكون لكم تُخُم الغرب، وهذا يكون لكم التُّخم
الشمالي: من البحر الكبير تخطون حداً إلى جبل هور، ومن جبل هور تخطون حداً إلى
حماة وينفذ إلى صدد، ثم يخرج إلى زفرون وينتهي عند حَصَر عينان. ذلك يكون الحد
الشمالي. وتخطون الحد الشرقي من حصر عينان إلى شفام، ثم ينحدر من شفام إلى ربلة،
شرقي عين، حتى يلامس جانب بحر كنارة شرقاً، ومن هناك ينحدر إلى الأردن وينفذ إلى
البحر الميت. تلك تكون لكم حدود أرضكم من كل جهة»([11]).
فهذا الوعد يرسم بشكل دقيق الحدود الموعودة بتعرجاتها ومن كل الجهات ولكن فيه
تعديل لحدود أرض كنعان، فبعد أن اقتصرت في الوعد الثاني على برية سيناء والأرض
الواقعة بين بحر فلسطين ونهر الأردن، إذ بها تتخلى عن سيناء إلى خط جنوبي البحر
الميت ولكنها تمتد إلى الشمال مع الساحل حتى اللاذقية ثم تتجه شرقاً حتى حماة
وتنحدر منها إلى الجنوب شاملة منطقة حمص من نهر الأردن وبحيرة طبريا حتى البحر
الميت ([12]).
-
الوعد الرابع: «الرب
إلهنا كلمنا في جبل حوريب وقال: أقمتم ما فيه الكفاية في هذا الجبل، فتحولوا
وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يجاوره من صحراء البرية وما يليها من
الجبال والسهول، إلى الجنوب وساحل البحر، إلى أرض الكنعانيين ولبنان وحتى النهر
الكبير، نهر الفرات»([13]).
-
الوعد الخامس: «كل
موضع تدوسه أخامص أقدامكم يكون لكم من البرية جنوباً إلى لبنان شمالاً، ومن نهر
الفرات شرقاً إلى البحر غرباً»([14]).
-
الوعد
السادس: «ثم صعد موسى … إلى جبل نبو… فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى وان
وجميع أرض نفتالي وأفرايم ومنسَّى ويهوذا إلى البحر غرباً، والجنوب والمرج الممتد
من صُوعر إلى أريحا مدينة النخيل. وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم
وإسحق ويعقوب أن لنسلكم أعطيها»([15]).
وكان الوعد الأخير لموسى حيث مات هناك وقد تقلصت حدود الوعد من الشمال حتى جبال
عجلون وجبل الشيخ، ومن الشرق حتى نهر الأردن، ومن الجنوب حتى بقعة أريحا([16]).
وتعتبر
الوعود مع موسى أكثر دقة من الوعود مع أبرام ففيها رسم عدة خرائط جغرافية لأرض
الميعاد المتخيلة رغم أنها لم تتفق فيما بينها على تحديد الحدود. ويعتبر خروج موسى
من مصر وموته على حدود أرض الميعاد الشرقية إعلان بدء تنفيذ المشروع اليهودي،
وتعبئة أتباعه من الناحية المعنوية والمادية، ووقوفهم على حدود تلك الأرض يعلن تحول
مشروع أرض الميعاد من الفكرة إلى أرض الواقع وينتظر لحظة بدء التنفيذ.
3. الوعود مع
يشوع:
- الوعد الأول: بعدما تسلم يشوع بن نون القيادة بعد موت موسى،
جاءه أمر الرب بالبدء بتنفيذ مشروع أرض الميعاد قائلاً: «مات عبدي موسى، فقم الآن
واعبر الأردن أنت وجميع بني إسرائيل إلى الأرض التي أعطيتها لهم. كل مكان تدوسه
أقدامكم أعطيه لكم، كما قلت لموسى. تمتد حدودكم عبر جميع أرض الحثيين من البرية
جنوباً إلى جبال لبنان شمالاً، ومن نهر الفرات الكبير شرقاً إلى البحر»([17]).
- الوعد الثاني: «وشاخ يشوع وكبر في السن، فقال له الرب:
"شخت وكبرت في السن، وبقيت أراض للامتلاك كثيرة. وهذه هي الأراضي الباقية: كل
بقاع الفلسطيين وكل أرض الجشوريين جنوباً من شيحور الجاري في مصر إلى أرض عقرون
شمالاً وهي للكنعانيين وفيها أقطاب الفلسطيين الخمسة في غزة وأشدود وأشقلون وجتّ وعقرون
وأرض العويين في الجنوب. كل أرض الكنعانيين ومن عارة للصيدونيين إلى أفيق إلى حدود
الأموريين، وأرض الجبليين وجميع لبنان شرقاً من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى ليبو
حماة.. هذه الأراضي كلها تقسمها بالقرعة لبني إسرائيل ميراثاً كما أمرتك»([18]).
وهكذا
جاءت الوعود مع يشوع أثناء الانطلاقة الأولى لتنفيذ مشروع أرض الميعاد. ولكن مع
اتساعها لم تبلغ مساحة الوعد الثالث مع أبرام "من نهر الفرات إلى نهر
النيل".
وقد اخترت دراسة وعود هذه المراحل الثلاث رغم وجود وعود
أخرى فيما بينها وبعدها. وذلك لأهمية كل مرحلة منفردة منها وللارتباط الوثيق فيما
بينها.
والوعود في المراحل الثلاث أشبه ما تكون بمشروع مرّ على
لجان ثلاث: في اللجنة الأولى طرحت الفكرة من عدة أشخاص وفي نهاية الجلسة تمت
الموافقة على جميع المقترحات. ثم تحولت فيما بعد إلى لجنة الدراسة والتدقيق حيث
نالت الموافقة على التنفيذ مع بعض المقترحات الأخرى والشروحات الإضافية، ثم تحولت
إلى اللجنة التنفيذية التي باشرت التنفيذ فور تسلمها خطط المشروع مع إبداء بعض
الآراء. متبعة في تنفيذها تقسيم المشروع إلى مراحل كلما انتهت مرحلة تم التحول إلى
المرحلة الأخرى وذلك وفق الإمكانات المتاحة. وقد نفذ يشوع جزءاً من المشروع تاركاً
للأجيال المتعاقبة تنفيذ الباقي.
وبالنظر إلى هذا الوعد الإلهي جملة نراه يُملِّك اليهود
أرضاً لم يعرفوها من قبل. وهذه الأرض مأهولة بأصحابها الذين عمروها بأفكارهم
وأجسادهم ولا يمكن لليهود الحصول عليها إلا بطرد أهلها منها وتشريدهم عن طريق
الحرب، كما فعل يشوع في أريحا وعاي وفي كل المدن التي احتلها.
وتكمن أهمية الوعد الإلهي بأنه ربط اليهودية كدين بأرض
محددة وجعل معتقدات اليهودية تدور حول محور واحد هو الاستيلاء على هذه الأرض.
متخذين من هذا الوعد وثيقة مقدسة تبرر كل أفعالهم.
ومن
دراستنا لنصوص الوعد الإلهي في (التاناخ)، نلاحظ أنها لم تتفق على حدود ثابتة لأرض
الميعاد. وبالعودة إلى التلمود والأدب التلمودي نجد تفسيراً لذلك، إذ «نجد أن
التلمود قد حاول تحديد الرقعة التي يدعون أنها أرض إسرائيل مع مراعاة إضفاء مرونة
كبيرة على المطالب الإقليمية اليهودية حيث تعكس تلك المرونة الفكر التوسعي
للإسرائيليين، فقد ربط التلمود إلى حد كبير بين موضوع حجم الرقعة المطلوب
الاستيلاء عليها وبين حجم القوى البشرية لإسرائيل، مع الإشارة إلى ضرورة إجراء
التوسع الإقليمي بشكل تدريجي بما يتمشى وتزايد السكان اليهود، حتى أنه قد شبه حدود
إسرائيل بجلد الغزال الذي لديه المرونة للاتساع بحيث يمكنه أن يستوعب لحمه وعظامه»([19]).
وقد
ورد في التلمود أن: «أرض إسرائيل لا تسمى جميلة كالغزال دون سبب، بل لأنها حين
تسكن تمتد كجلد الغزال، وإذا هجرت فإنها تنكمش..» ([20]).
أما
الصورة التي يرسمها الأدب التلمودي لحدود الأرض التي سيمتلكها اليهود في المستقبل
فهي سوف تمتد وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق،
وسوف يأتي اليهود المنتشرون في أصقاع الأرض لينصبوا خيامهم في الوسط.
ولكن
على ضوء دراستنا لنصوص الوعد الإلهي المتعلقة بحدود أرض الميعاد، والتفسيرات
اليهودية من خلال التلمود والأدب التلمودي، نجد أن حدود الأرض اليهودية ليست ثابتة
ويوجد اختلافات حول تحديد ماهيتها. إلا أنه يمكن القول أن هناك حداً أدنى لحدود
هذه الأرض وحداً أقصى، والانتقال من الحد الأدنى إلى الحد الأقصى يرتبط بعدة عوامل
دينية ومادية تتوقف على مدى إطاعة اليهود لتعاليم الرب، وتطور الموقف البشري
لليهود، وكذا موقف السكان الأصليين الذين يسكنون الأرض المطلوب الاستيلاء عليها.
ويشتمل
الحد الأدنى لحدود أرض اليهود الموعودة من الناحية الدينية من منطقة دان شمالاً
إلى بئر السبع جنوباً وتحتوي كذلك على ضفتي الأردن حيث يحدها من الشرق بادية الشام
وفي الغرب البحر المتوسط، وفي الشمال الشرقي تحتوي في داخلها هضبة الجولان حتى
مشارف دمشق.
أما
الحد الأقصى لحدود أرض اليهود الموعودة فإنها تشتمل على المنطقة التي يحدها من
الجنوب والجنوب الغربي وادي العريش وصحراء سيناء وخليج العقبة وفي الغرب البحر
المتوسط، وفي الشرق وادي عربة ثم من نهر الأرنون الصحراء العربية (شرق الأردن)
وامتدادها شمالاً وفي الشمال الشرقي والشمال نهر الفرات حتى صيدا على البحر
المتوسط([21]).
وبعد
دراسة الحد الأدنى والحد الأقصى لحدود الأرض اليهودية الدينية. نتساءل عن حقيقة
الحدود التاريخية التي استولى عليها اليهود لإقامة دولتهم اليهودية من خلال
(التاناخ).
ويقصد بالحدود التاريخية اليهودية: هي الحدود المقدسة
المنصوص عليها في (التاناخ) من نهر مصر إلى نهر الفرات" وهي حدود لم يشغلها
اليهود في أي لحظة من تاريخهم ولا حتى أيام داود وسليمان ([22]).
ومع ذلك حين يتكلم اليهود عن الحق التاريخي في امتلاك الأرض والحدود التاريخية
لهذه الأرض فإنهم يقصدون إعادة بعث مملكة داود وسليمان([23])
التي قامت حوالي عام (1030 ق.م) متخذة من
القدس عاصمة لها. وقد استمرت هذه المملكة حوالي قرن من الزمان انقسمت بعدها إلى
مملكتين بعد موت سليمان عليه السلام حوالي عام (932 ق.م). وأصبح الوجود اليهودي في
فلسطين من الناحية السياسية وجوداً ضعيفاً مهدداً بالزوال([24]).
أما
حدود مملكة داود وسليمان «فقد ضمت … كل أرض فلسطين وشرق الأردن المعروفة الآن
شرقاً وغرباً من صحراء عربة إلى البحر [المتوسط]، وتمتد حدودها الجنوبية لتشمل كل
النقب من خليج العقبة حتى وادي العريش المعروف قديماً بنهر مصر، وشمالاً تشمل كل
مناطق جنوب سوريا وأوسطها، ومن صور حتى قادش على نهر أورنتس [نهر الأرنون] إلى
حماة في الصحراء. وفرض داود سلطانه على الأراميين وجعلهم تحت إدارته وفرض عليهم
الجزية، فبلغت حدوده بواسطتهم حتى الفرات مروراً بدمشق وصوبة. فأخضع الأدوميين
والعمونيين والأراميين (السوريين) والفلسطينيين، فارضاً عليهم أثقل الجزية، وسخرهم
لصناعاته وتعمير دولته ومناصرته في حروبه»([25]).
فاليهود قد امتلكوا الأرض الخاصة عن
طريق وعد إلهي لم يكن لغيرهم فيه نصيب أو مشابهة على الإطلاق. ولهذا يأتي تعلقهم
بهذه الأرض تعلقاً غريباً وفريداً من نوعه، بل إن هذا التعلق هو عقيدة دينية
تستوجب الدفاع عنها والقتال في سبيلها. فهذا الوعد كان الأرضية الخصبة التي زرع
فيها اليهود بذرة العداء للغير، وقد اتخذوه حجتهم في اغتصاب أرض الآخرين. ولم يكن
الوعد مقتصراً على إبراهيم بل تكرر لإسحاق ويعقوب وموسى ويوشع، وذلك ليؤكد
الخصوصية في العقلية اليهودية من حيث الإله والشعب والأرض. وهذه الأرض كانت ذات
حدود مختلفة بين الوعد والآخر، لم يرتكز اليهود إلا على أوسعها مساحة فقط ، من نهر
الفرات إلى نهر النيل .
وترجع أهمية هذه الوعود بأنها ربطت اليهود بأرض
محددة وجعلت جميع معتقداتهم تدور حول محور واحد هو الاستيلاء على هذه الأرض.
متخذين من هذه الوعود وثيقة دستورية مقدسة تبرر كل أفعالهم(26).
ومن هنا جاءت تسميتهم لفلسطين بأرض " الميعاد" على أنها إرادة إلهية لا
تقبل المناقشة أو المساومة. وقد عبر عن ذلك "حاييم وايزمن" بقوله: «
أعلم أن الله قد وعد بني إسرائيل بفلسطين، بأرض فلسطين، إلا أنني لا أعرف الحدود
التي رسمها لفلسطين».
وبما أن الإله يهوه
أزلي كذلك الشعب الخاص أزلي لأنه جزء من إلهه، والأرض التي ملكت بوعد إلهي نالت
القدسية تبعاً له. لكنها تحت سيطرة الغير، مما يزيد في قدسيتها والتعلق بها، وينشط
الخيال في تصورها، وتبنى الأحلام على الاستيلاء عليها أو في العودة إليها، وأي مكان
آخر على وجه الأرض غيرها هو مكان عبور إليها مهما طال الزمن أو قصر.
ومن الثابت تاريخياً، أن اليهود باعتراف
كتبهم أن الأرض التي امتلكوها بالوعد، هي مسكونة ولم تخل في يوم من الأيام من
أهلها الحقيقيين، برغم الحروب الكثيرة التي تعرضوا لها. إذ لم يهنأ اليهود يوماً
في الإقامة فيها على سبيل التفرد، أو أن يستولوا عليها كلها فهم «لم يسيطروا إلا
على التلال والأراضي الفقيرة الداخلية، وظلت السهول الغنية في أيدي
الكنعانيين الأصليين»(27).وإن أعظم توسع لهم كان أيام مملكة داود
وسليمان، ولكنه لم يدم لأكثر من قرن من الزمن. لذلك مشروعية الحرب لم تتوقف عندهم
قديماً ولا حديثاً ما لم يستولوا على كامل الأرض الموعودة. عندها تتوقف مشروعية
الحرب ويحل السلام بالمفهوم اليهودي.
وإلى أن يأتي يوم السلام اليهودي حيث
يستولون على كامل الأرض التي صورها لهم فكرهم الديني تبقى الحرب هي أصل في سلوك
اليهود وممارستهم. وما قام به موسى بأمر من إلهه يهوه لاستعمار تلك الأرض كان
البداية لتأصيل صراع طويل بين اليهود وغير اليهود لاسيما الذين يسكنون تلك الأرض
التي نال اليهود ملكيتها بوعد يزعمونه، ولن ينته هذا الصراع بين الطرفين لأنه صراع
متجذر عقدياً في عقلية اليهود وسلوكهم حولها. ومن يعتقد أن اليهود يمكن أن يتخلوا
عن جزء من الأرض التي يستولون عليها عن طيب خاطر هو اعتقاد خاطئ، لأنه يحرم عليهم
التنازل عن الأرض التي احتلوها إلا إذا كان التنازل على سبيل المراوغة والمكيدة
والمخادعة التي تمكنهم في المستقبل من المتابعة في تحقيق مشروعهم الاستعماري
كاملاً وفق الرؤى الدينية لمساحة تلك الأرض وحدودها.
ومن خلال إدراكنا لأهمية الأرض بالنسبة
لليهود ومن ثم للصهيونيين الذين تبنوا هذا الفكر وأخذوا على عاتقهم مهمة احتلال
تلك الأرض كما رسمها لهم فكرهم الديني نقول: إنه طالما لن يتنازل اليهود عن أي جزء
من الأرض التي يستولون عليها، فلن تكون هناك دولة فلسطينية حقيقية في المستقبل
تتمتع بالسيادة على أرض يعتقد اليهود أنها لهم. وإذا قامت تلك الدولة فلن تكون إلا
من باب المخادعة التي يطمح اليهود أن يحققوا من ورائها أهدافاً لا تقل عن الأهداف
التي يحققونها أثناء انتصارهم في الحرب. بحيث ستكون دولة لا تمتلك الأرض التي
ستقوم عليها، وسيكون وجودها وجوداً مؤقتاً عليها، وسيكون دورها دوراً وظيفياً يخدم
المشروع الصهيوني بجميع جوانبه، وستقف عاجزة عن تحقيق متطلبات الشعب الفلسطيني
وطموحاته المرتبطة بتلك الأرض التي لا تتمتع بالسيادة عليها.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات