معركة "ملحمة حلب الكبرى"
بين
فراغاتِ الموازناتِ الدولية والإقليمية
الدكتور جبر الهلُّول
اتخذتْ معركةُ مدينةِ حلبَ موقعَها في مُقدمةِ مُجرياتِ الأحداثِ الميدانية
والحراك السياسي منذُ بداية العام 2016 تقريبًا وبرزتْ في الساحةِ الدوليةِ
والإقليمية والمحلية كساحةِ صراعٍ يُراهنُ على نتائجِ معارِكِها كلُّ الأطراف
المُتَدخِّلة والمُتداخلة في القضية السورية، لأنها أصبحتْ بيضةَ القبان التي
تُوزن بها قوةُ كلِّ طرفٍ وذلك بحسبِ مقدار مَا يُسيطرُ على نقاطٍ جغرافيةٍ
استراتيجيةٍ فيها التي لا تَنحصرُ أهميتُها بالناحية العسكرية على الأرض بقدر
أهميتها السياسية التي تُشكِّلُ مدخلًا رئيسًا لأي حلٍّ للقضية السورية. فأوراقُ
القوة السياسية لدى جميع الأطراف باتتْ تُنْتَزع من معارك حلب التي اقترنتْ
بمعركتينِ الأولى التي أعلنها الحلفُ الثلاثي - روسيا إيران والنِّظَام ومَن معه
من المليشيات - من أجلِ الإطباقِ المحكمِ
في حصار حلب من الجهة الشمالية وذلك بالسيطرة على طريق الكاستيلو الذي استطاعَ
النِّظَامُ الوصولَ إلى هذا الهدف العسكري الاستراتيجي في السابع عشر من شهر تموز
الماضي وتمادى فيه لدرجةٍ بَدأ يُسوقُ ويُبالغُ إعلاميًّا أنَّ مدينةَ حلب باتتْ تحتَ
السيطرةِ الكاملة وأنَّ المعركةَ حُسِمتْ عسكريًّا وسياسيًّا وأخذتْ روسيا تُمهّدُ
إلى معركةٍ داخلَ المدينة على الطريقة التي اتَّبعتها في غروزني من خلال فتح ثلاثِ
ممراتٍ مَدَنيَّةٍ لخروج المدنيين منها باتجاه مناطق سيطرة النِّظَام وممر عسكري
لاستسلام الفصائل المقاتلة فيها، بهدفِ تفريغ مدينة حلب من سكانها وذلك تمهيداً
لاقتحامها وَفق سيناريو سَبَقَ لموسكو أنْ طبَّقتْه في "غوديرميس" في
تشرين الثاني من عام 1999 تمهيداً لتدمير "غروزني" الشيشانية.
إنَّ الزُّهوّ "بالانتصار" الذي حققته روسيا بحلبَ من خلال
التقدم إلى طريق الكاستيلو وتمادي النِّظَام وإيران في السيطرة على مناطق قريبة
منه لإحكام الحصار، لمْ يكنْ ليتحققَ دون غطاءٍ جويٍّ روسيٍّ تلبيةً لرغبةٍ
ومصلحةٍ روسيةٍ جاءت بناءً على تفاهمٍ دولي مع أمريكا حول تحقيقِ توازناتٍ في حلب
كإحدى الخطوات الملموسة من أجلِ التوقيع على الاتفاق بينهما بمساراته الثلاثة في
الأول من آب، لكن هذا التمادي كَسَرَ هذا التفاهمَ وعطَّلَ مبدئيًّا الأجندةَ
الزمنية بينهما لأنه أحْدَثَ خللًا كبيرًا في التوازن الميداني وجدت فيه موسكو
فرصةً تُضعِفُ فيها قدرةَ أمريكا على التحكمِ بشروطِ الاتفاق وتُجبرها على القبولِ
بتعديلٍ في مساراته بناءً على هذا المُتَغيّر الميداني الكبير في قوة السيطرة على
الأرض في حلب من خلال فرض الحصار عليها. الأمر الذي اعتبرته أمريكا خديعةً روسيةً
لها وضربةً قاسيةً موجهةً بشكلٍ مباشرٍ إلى الاتفاق الذي اقترحته أمريكا بالأصل،
وأدركتْ على الفور الأبعادَ والأهدافَ الروسية من هذه الخطوة التي اعتقدت روسيا -
لفترة قصيرة - أنها حسمتِ الأمر وأحكمتْ سيطرتَها وباتتْ تتحضَّرُ لإطلاق يدِها
داخلَ المدينة بعدما طالبتِ الفصائلَ بالاستسلام والخروج منها لقناعتها بأنها لمْ
تعدْ قادرةً على فكِّ الحصار من محور الكاستيلو.
إنَّ زهوةَ الانتصار لمْ تطلْ ولم تُحدثْ أثرَها السياسي والميداني بعد،
لأنَّ الردَّ جاءَ سريعًا من ريف حلب الجنوبي من خلال إعلان الفصائل معركةً لفكِّ
الحصار وإعادة التوازن الميداني أو ربما إحداث رجحان فيه لصالح الطرف الآخر على
الأرض ضمن معركةٍ سُميت "ملحمة حلب الكبرى" حيثُ تقودُ تلك المعركة
"جبهة فتح الشام" - جبهة النصرة سابقًا – والفصائل الإسلامية وتُشاركُ
فيها غالبيةُ الفصائل الموجودة في حلب التي راهنتْ روسيا على استسلامها لصالح تمكينها
من التفردِ أو إنفاذ الشراكة العسكرية مع أمريكا لضرب "جبهة فتح الشام"
التي كان لها الدورُ البارزُ بعد إعلان فك الارتباطِ في معركة التحدي من ناحيتين:
الأولى ناحية المشاركة والتنسيق مع غالبية الفصائل لخوضِ معركةِ فك الحصار ومن ناحية أخرى تحقيق تضامن فصائلي وشعبي من
خلال هذه المعركة شَكَّلَ عنصرَ تحدٍّ كبيرٍ أمام مسار الشراكة العسكرية الذي
راهنت روسيا على بقائه مع أمريكا وإحراجها في تطبيقه بعد محاصرتها حلب والإعلان عن
فتح الممرات فيها!.
تجدرُ الإشارةُ إذا استطاعتْ
معركةُ "ملحمة حلب الكبرى" في غضونِ الأيام الماضية أنْ تتمكَّنَ من
تحقيقِ تقدُّمٍ سريعٍ وكبير لا يُقارن بالمدة الزمنية التي استطاعَ النِّظَامُ أنْ
يتقدَّمَ فيها إلى طريق الكاستيلو. حيث تمكَّنَ ومَن معه بعدَ أكثر من شهرين
التقدمَ قرابة (400م) كانتْ حاسمةً في تغيير موازين القوى على الأرض، فإنَّ التحدي
أمام معركة فك الحصار التي حصل فيها تقدمٌ سريعٌ مفاجئٌ بشكلٍ كبيرٍ رفعتِ
المعنويات بعد معركةِ فرض الحصار التي أراد حلف العدوان الثلاثي التسويق لها
محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا ضمن حربِ فرضِ الإرادات التي سرعان ما انكسرتْ
وتحطمتْ بمجرد إعلانِ "ملحمة حلب الكبرى" وبدأ الإعلانُ عن انطلاقِ
مراحلها بشكلٍ متسلسل، ليس في إعلان المعركة وتقدمها الميداني السريع وإنما التحدي
الأساسي في عاملِ الوقت في فك الحصارِ الذي قدْ لا يتجاوز المسافة التي فرض فيها
الحصار نفسه من جهة الكاستيلو حيثُ لم يفرض دوليًّا خلال تلك الفترة أية اتفاق
لوقف إطلاق النار الذي باتَ هناك الحديثُ
عن فرضه لمدة أسبوع أو غير ذلك لإيقاف معركةٍ ليس من المتوقع أن تحسم نتائجها في
وقتٍ قريب لما يوجد في تلك المناطق من مواقع عسكرية استراتيجية للنِّظَام إذا ما
تمتِ السيطرةُ عليها لا تحسم معركة فك الحصار عن حلب فحسب وإنما تحسم معركة تحرير
حلب لصالح طرف الثورة.
إنَّ هذا الحسمَ الجيوسياسي الكبيرَ وَفق الموازناتِ الدولية لاسيما بين
أمريكا وروسيا لنْ يكونَ مسموحًا به عسكريًّا في هذا التوقيت وإن وَجَدَتا فيما
يجرى على الأرض مصلحةً يَرِدّ فيها كلٌّ منهما على خديعة الآخر له، ووجدتِ
الأطرافُ الإقليمية فرصةً في الخلافات بين الدولتين في دعمها معركة حلب لتحقيق
التوازن الإقليمي في القضية السورية وتعيدُ الاعتبارَ لحضورها الذي تمَّ تهميشُه
وتجاهلُه في الاتفاق الذي يُعملُ عليه بين الطرفين الأمريكي والروسي، إلَّا أنَّ
المستفيدَ أوَّلًا وأخيرًا الثورةُ بكلِّ مكوناتها من هذه الفراغات الدولية
والإقليمية من أجلِ فرضِ حضورها في الملعبينِ العسكري والسياسي وأنَّ التحدي الأول
الذي سيفرض هذا الحضور من عدمه هو إتمامُ المعركة حتى تحققَ هدفَها الأساس بفكِّ
الحصار وإعادة التوازن على الأرض الذي لا يمكنُ تجاهلُه في أيِّ اتفاقٍ دوليٍّ
قادمٍ بدءًا من وقفِ إطلاق النار وانتهاءً بعملية الانتقال السياسي التي تُحدد
معالمها وشروطها أوراقُ القوة التي تمتلكها الأطرافُ على الأرض وتحديدًا في حلب.
ومن الأهميةِ بمكانٍ عدمُ إطلاقِ الشعارات الكبيرة كتحرير حلب حتى يكونَ
الانتصارُ مُحققًّا فيما يُنْجز مِن مراحلَ تتعلقُ بفكِّ الحصار وتثبيته، لأنَّ
معركةَ السيطرة على حلب لصالح الأطراف تعني أنَّ حِدّة الخلاف بين الأطراف الدولية
ومن ثم الإقليمية بلغتْ على حافَّةِ حربٍ كبرى لا وجودَ للاستعداد لها عند كلِّ
الأطراف حتى الآن!!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات