إشْكاليَّةُ الحراكِ السِّياسيِّ الفَصائليِّ

إشْكاليَّةُ الحراكِ السِّياسيِّ الفَصائليِّ
لمْ تُفْرزِ الفصائلُ العسكريةُ الثورية السورية حراكًا سياسيًّا نوعيًّا مميزًا قادرًا على تمثيل الثورة والحضور في الساحة الدولية والإقليمية والمحلية على النحو الذي يتناسبُ مع القضية السورية وتعقيداتها وتشعباتها، ولمْ يستطعْ تشكيلَ جسمٍ سياسي عسكري بدِيلٍ عن النِّظَام في المناطق المحررة، وأنْ يُشكل خيارًا واضحًا يمكنه أنْ يتكلمَ باسم الشعب السوري بعيدًا عن الفصائلية والحزبية والانقسامات الأيديولوجية التي تحكمت في الحراك السياسي وأقصته غايةَ الإقصاء والتهميش ولمْ تجعل منه إلا حالةً استثنائيةً ظرفية كان لها أثرُها السلبيُّ على الثورة أكثر بكثير من الجانب الإيجابي الذي اقتصرَ بشكلٍ محدودٍ على الفصيل على حساب علاقته بالفصائل الأخرى من ناحيةٍ وعلى الثورة السورية بشكلٍ عامٍّ من ناحيةٍ أخرى.
لا شك مِن نماذج ذلك الحراك السياسي السلبي مَا جرى بخصوص "الزبداني والفوعة" وكذلك ما جَرى تسريبُه والحديثُ عنه مؤخرًا بين بعض الفصائل وروسيا في أنقرة. حيثُ وَفق التسريبات الإعلامية أنَّ العاصمةَ التركية أنقرة احتضنتْ لعدَّةِ أيامٍ مفاوضاتٍ سريةً جمعتْ فصائلَ عسكريةً سوريةً مع وزارة الدفاع الروسية على أملِ التوصلِ إلى اتفاقٍ بخصوص حلب. حيث انطلقتِ التكهناتُ عن أسماء الفصائل المشاركة وهل كانت محادثات أم مفاوضات أو اقتصرت على استشاراتٍ أو نقاشات حول أفكارٍ معينة كمرحلة أولى، وهل كانتِ اللقاءاتُ مباشرةً أو غير مباشرة أو كانت عن طريق وسيط، وما هو الدورُ التركي في ذلك، وهل غاب الإيرانيُّ عنها ولماذا، ولماذا جرتْ بعيدًا عن المشاركة الأمريكية في هذا التوقيت الحرج؟ ...فهناك أسئلةٌ كثيرةٌ جدًّا دارتْ حول تلك اللقاءات وما سرب منها لنْ تجدَ لها جوابًا واضحًا باستثناء أن ما جرى هو عبارةٌ عن حراك سياسي روسي بامتياز استطاعتْ أن تُحققَ من خلاله أهدافًا عديدةً على المستوى السياسي والعسكري وبخاصةٍ في مدينة حلب بينما الفصائل خسرتْ في هذه المحاولة الخجولة الملتبسة التي طغى عليها جانبُ السرية حيثُ لمْ تقتصرِ الآثارُ السلبيةُ على الفصائل المشاركة فقط وإنما كانت لها ارتداداتها المباشرة على مجريات الميدان في حلب لاسيما بعد الإشارة الأمريكية الخطيرة بضرورة خروج كل المقاتلين من حلب في حين كان الجانبُ الروسي يتحدث عن خروجِ مقاتلين بعينهم من حلب ويناقشون الأعدادَ، الأمر الذي فجَّرَ ما كان يجري بين الفصائل وروسيا في أنقرة فظهرتْ تصريحاتٌ مرتبكةٌ لممثلينَ من تلك الفصائل المشاركة وركَّزوا على رفضهم الإشارة الأمريكية التي لاقتْ صدى إيجابيًّا لدى الروس الذين سرعان ما أداروا ظهورهم لتلك الفصائل بعدما تحققَ الهدفُ السياسي والعسكري من وراء ذلك.
لقدِ استطاعتْ أمريكا أن تُفشلَ ما يَجري في أنقرةَ بين الفصائل وروسيا بإشارةٍ منها لكي تتحوَّل روسيا إليها من أجلِ التفاوض على إخراج جميع الفصائل من مدينة حلب، حيثُ من الملاحظ أنه وبعد الاستجابة الروسية السريعة لذلك عادت أمريكا لتفرض أجندتها على الساحة السورية وتعبر عن عدم رضاها عمَّا كان يجري في أنقرة بعيدًا عن مشاركتها.  ولعلها بتلك الإشارة الخطيرة استهدفتْ كلَّ الأطراف التي في أنقرة وعلى وجه التحديد روسيا التي رأتْ في الإشارة بداية أنها تحقق طموحاتها في القضية السورية واستراتيجيتها في حلب، لكنها بعد ذلك كان لها موقفٌ مرتبكٌ عبَّرَ عنه لافروف بقوله: "طلب مني كيري دعمَ وثيقةٍ تتَّفقُ مع رؤية روسيا لسحبِ المسلحين من حلب، ولكن فجأة تلقّينا، يوم الإثنين، رسالةً تقولُ إنهم -للأسف-لا يمكنهم عقد لقاء معنا، الأربعاء؛ لأنهم غيّروا رأيهم وسحبوا الوثيقة، والآن لديهم وثيقة جديدة تعيد كل شيء إلى نقطة الصفر". وإذا كان هذا حالُ روسيا بعد سماع الإشارة الأمريكية وتنصلها من طروحاتها مع الفصائل التي اجتمعتْ معها في أنقرة والتي لا يوجد ما يثبت صحتها أو ينفيها للسرية التي حرصتْ عليها كلُّ الأطراف، فكيفَ هو حالُ الفصائل تلك سياسيًّا، وبماذا رجعوا على الواقع الميداني على الأرض؟!.
قد لا تكونُ الإشكاليَّةُ أنْ تتمَّ المفاوضاتُ أو المحادثات مع الأعداء وعلى رأسهم روسيا التي باتتْ محتلة في سوريا وتقتل شعبها وتدمر بنيانهم  لتحقيق أهداف بعينها سواء كانت المفاوضات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لكن الإشكالية أن يتمَّ ذلك ضمن انتقائيةٍ مغرضة من بين القوى الثورية العاملة على ساحة واحدة كما في مدينة حلب، وأن ألا يكون ذلك ضمنَ تنسيقٍ مسبقٍ بين الجميع ليكون الوفدُ المفاوض مُمثلًا لها وليس كل شخص ممثلًا لفصيله أو جزء من فصيله، وأن تكون تلك المحادثاتُ سريةً في شكلها ومضمونها بهذا التوقيت وفي هذه الظروف مكَّنتِ العدوَّ من الاستفادة من جميع النواحي السياسية والعسكرية لا سيما من خلال تسريب مجرياتها على النحو الذي يحقق به أهدافًا سياسية وعسكرية من دون التوصل إلى شيء من خلالها.  وهو بالتأكيد ما كان يريده منها، وبخاصةٍ أنَّ روسيا لاسيما بعد تدخلها العسكري في سوريا سعتْ إلى فتحِ قنواتٍ للتواصل مع كل القوى الثورية العاملة على الأرض بشكلٍ منفردٍ ضمن خطَّةٍ لتفريقها وتحييد ما يمكن تحييده منها ضمنَ اتفاقياتٍ هزيلةٍ تحت ضغط الحصار والنار، ثم تحرص في خطوةٍ لاحقة على الكشف عنها عن طريق تسريبات مقصودة ومبالغ فيها كأحد وسائل الحرب التي يمكنها من خلالها أنْ تفرقَ صفوفَ القوى الثورية وتزعزعَ تماسكها وثقتها ببعضها وتجعلَ كلًّا منها يَحرص على الاهتمام بشأنه الخاص الجغرافي والفصائلي بعيدًا عن الآخرين.
لكن ماذا لو كان الوفدُ يُمثِّلُ غالبيةَ القوى الثورية على الأرض وعلنيًّا سواء أكان ذلك بمحادثاتٍ مباشرة أو غير مباشرة ضمن تحديد جوهر المناقشات من دون التطرق إلى تفصيلاتها والإعلان عن الخطوات التي بذلت في ذلك، وأن تكون هناك استراتيجيةٌ ضمنيَّةٌ تُحددُ الهدفَ من المحادثات أو المفاوضات وتطالب بمشاركة أممية وإقليمية تحقق على الأقل من خلالها اعترافًا بها وبمشروعيتها التمثيلية ليكون لها دور مستقبلي في الخطوات اللاحقة ضمن مشروعٍ متماسكٍ متَّفقٍ عليه من غالبية القوى الثورية وليس من قبل الأطراف الدولية والإقليمية التي تحرص على الانتقائية التي تخدم مصالحها، ويعمل هذا الوفدُ من خلال هذا المشروع على تلبية مطالب الشعب الذي احتضن الثورةَ وقدم تضحياته في سبيلها ويكون ممثلًا له وليس لفصائل وصلت إلى مرحلة أصبحت عبئًا عليه بسب كثرة اختلافاتها وانقساماتها وصراعاتها التي أبعدتها عن مسارِ القاعدة الشعبية للثورة وجعلتْ من غالبيتها تسيرُ كأداةٍ وظيفيَّةٍ ضمن الأجندة الدولية والإقليمية.
إنَّ إشكاليةَ الحراك السياسي الفصائلي كان عقدةً من عقد القضية السورية وتشابكاتها الدولية والإقليمية ويبدو أنَّ هذه العقدة لن تحلَّ إلَّا من خلال انتهاء الدور الفصائلي الذي غلب عليه مؤخرًا الدورُ الوظيفي، وانبثاق حراك ثوري جديد ستفرض معالمه المرحلة القادمة ومُفرزاتها.
الدكتور جبر الهلُّول


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »