حراكٌ سياسيٌّ بعد فواتِ الأوان؟!!

حراكٌ سياسيٌّ بعد فواتِ الأوان؟!!

عادَ الحراكُ السياسيُّ الدوليُّ والإقليميُّ يتصاعدُ على وقع المجرياتِ العسكرية الميدانية التي تجري في حلب على النحو الذي يعكسُ الارتباطَ الوثيقَ بينَ الحراك السياسي والحراك العسكري ودور الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية في ذلك. لكن لا شكَّ أنَّ عودةَ تصاعد الحراك السياسي من جديد المرتبط بالحملة الهمجية للعدوان الثلاثي الذي تقودُه روسيا على مدينة حلب يأخذُ في حسبانه المتغيرات الجيوسياسية على الأرض نتيجة لهذه الحملة التي فرضتْ واقعًا جديدًا، حيثُ يجري العملُ على ترجمةِ هذا المتغيرات إلى تسوياتٍ عن طريق صفقاتٍ مازال يُعْملُ على صياغتها في كواليس العواصم التي ارتبطتْ مصالحُها الاستراتيجيةُ في المنطقة من خلال القضية السورية وما آلت إليه جميعُ الأطراف فيها لاسيَّما بمدينةِ حلب المحاصرة.
فالمتابعُ للحراك السياسي- الذي يَجري على وقع المنهجية الروسية في تدمير حلب والمرحلة التي وصلت إليها فيها- يُلاحِظُ تكثيفَ الحديثِ عن اتصالاتٍ ومفاوضاتٍ بين الفصائل العسكرية الرئيسة العاملة في حلب وروسيا برعايةٍ تركيةٍ، حيثُ تتمحورُ هذه الاتصالاتُ وَفق التسريبات الإعلامية حول النقاط الجوهرية التي طرحها "دي ميستورا" مؤخرًا وهي نفسُها النقاطُ التي كانتْ محورَ الاتفاق الروسي الأمريكي الذي توصلا إليه قبل ثلاثة أشهر وعُلّقت المحادثات بين الجانب الروسي والأمريكي حول تنفيذها بسبب مدينة حلب التي أصبحتِ العقدةَ المركزية بين جميع الأطراف الدولية والإقليمية وحتى المحلية. ويبدو أنَّ هذه الأطرافَ مجتمعةً كان لها دورٌ خلال الأشهر الماضية في حلِّ هذه العقدة عن طريق تدمير حلب على النحو الذي لا يخفى على أحدٍ، حيثُ قامت بذلك روسيا ومَن معها من إيران والنِّظَام بكل قوة، واكتفتِ الأطرافُ الأخرى إمَّا بالصمت أو الحراك الخجول، أو فتح معارك جانبية غير مرتبطة بما يَجري بحلبَ ولكن على حسابها ولا تخرج عن تفاهماتٍ بين هذه الأطراف الدولية والإقليمية، ولا تنفصلُ عمَّا يَجري في حلب!.
إنَّ كثرةَ التسريبات الإعلامية بشكلٍ مقصودٍ عن محادثاتٍ بين الجانب الروسي وفصائل عسكرية مهمة وبرعاية تركية حول مدينة حلب تعدُّها روسيا خطوةً مرحليةً واختراقًا كبيرًا لها على الساحة السورية نتيجةً لدورها العسكري التدميري في حلب، وذلك على حساب الدور الأمريكي وردًّا على تعليقها المحادثات مع الجانب الروسي حول سوريا. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ تلك المحادثات تَجري بالتوازي مع الحراك الأممي الذي يَرعاه "دي ميستورا" مِن خلالِ مبادرته الأخيرة "إدارة ذاتية لحلب" التي لا تختلفُ عن مبادرته السابقة التي تتمحورُ حولَ إخراجِ مقاتلي "جبهة فتح الشام" من حلب التي لمْ تكنْ في الأصل - المبادرة - إلا خطوة من أجلِ العودةِ إلى الحوار الروسي الأمريكي بناءً على الاتفاق الذي توصلا إليه من قبلُ بناءً على المتغيرات الحاصلة والمستجدة على الأرض في مدينة حلب التي ستُجْبرُ غالبيةَ الأطراف إلى العودة إلى جنيف وهي على قناعةٍ أنَّ هذه العودة لا خيار فيها في هذه المرحلة.
 وإذا كانتْ ترى موسكو على وجه الخصوص أنَّ الواقِعَ الميداني سيعطيها فرصةً أكبر على طاولة المفاوضات من جديد، مع إدراكها أنَّ خطتها على طريقة "غروزني" التي طبقتها بحلب لمْ تنجحْ كما تريدُ بل باتَ يلوِّحُ لها أنها ستشكل مُنعطفًا نحو "أفغانستان جديدة" وبخاصةٍ بوجود أطراف لنْ تتوقفَ عن دعم الفصائل بطريقة أو أخرى وعليها أن تستغل الفرصة للخروج من المستنقع السوري على النحو الذي يظهرها قادرة على فرض شروطها، كذلك الأطراف الدولية والإقليمية باتتْ تدركُ حقيقةَ خطرِ المرحلة التي وصلتْ إليها القضيةُ السوريةُ نتيجةَ التدخل العسكري الروسي لاسيما في مدينةِ حلبَ التي هي على وشكِ "الإسقاط" الذي تكمنُ خطورتُه ليس من "أفغنة" القضية السورية ولكن خشيةً مِن أنْ يفقدوا سيطرتهم في التحكم والسيطرة على القوى العسكرية الثورية من خلال تحول الثورة الإجباري إلى أسلوبِ "حرب العصابات" الذي يحررها من قيودِ وشروطِ الداعمين ويخرجها عن أجندةِ الصراعات الدولية والإقليمية والحدود الجيوسياسية التي كانت ترسم لها مؤخرًا نقاط المواجهة وتحدد أماكن المعارك وتوقيت بدايتها ونهايتها على النحو الذي يريدون كما هو حاصل اليوم في حلب!.
إنَّ الخشيةَ من إسقاط حلب وما ستؤدي إليه من التحول الإجباري في التغيير بالأسلوب الثوري "إلى حرب العصابات" الذي بدأتْ تظهرُ معالمُهُ والاستعداداتُ له لنقلِ الثورة إلى قلبِ العاصمة دمشقَ وباقي المدن التي يحتلُّها النِّظَامُ شكَّلتْ هاجسًا مُقلقًا للأطراف الدولية والإقليمية التي دور في مجريات الأحداث القضية السورية، الأمر الذي دعا "دي ميستورا" إلى دقِّ ناقوس خطرهِا ومحذرًا من "حرب عصابات" قد تستمرُّ لسنواتٍ طويلةٍ قادمةٍ إذا لمْ يتمَّ العملُ سريعًا على تداركِ ذلك من خلالِ العودة إلى الحراك السياسي الدولي والإقليمي. ولهذا سنشهدُ خلال هذا الشهر الأخير من هذا العام أكثر من اقتراحِ قرارٍ في مجلس الأمن ومن أكثر من جهةٍ والدعوة إلى انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بشكلٍ طارئ وانعقاد اجتماع "دول أصدقاء سوريا" في باريس وحراك أوروبي ملحوظ، بالإضافة إلى العودة السريعة بين الجانبين الروسي والأمريكي إلى تفعيلِ الاتفاق بينمها الذي توقَّفَ منذ ثلاثة أشهر، وبخاصةٍ بعد عودةِ توافق الطرفين على إرسال اللجان العسكرية والدبلوماسية مرة أخرى إلى جنيف تمهيدًا إلى لقاء جديد بين "كيري" و"لافروف"!.
إذا كان الحراكُ السياسيُّ الدولي والإقليمي الذي بدأ يتصاعدُ مع بداية هذا الشهر على وقع مجرياتِ الأحداث الميدانية لا سيَّما بحلب التي أثبتتِ المعطياتُ أنَّ محاولةَ إسقاطها لن تزيدَ الثورةَ إلا اشتعالًا ولكن بأسلوبٍ جديدٍ يتمحور حول "حرب العصابات" الذي بات يفرضه هذا الواقع والمواقف الدولية والإقليمية ودورها السلبي تجاه القضية السورية، بالإضافة وصول أسلوب الفصائل العسكرية إلى مرحلةٍ حرجةٍ في واقع العمل الثوري على كل الجبهات، لكن هل بالإمكان لهذا الحراك السياسي الدولي والإقليمي أن يُوقف متطلبات هذه المرحلة الجديدة القادمة وبخاصةٍ أنَّ هذا الحراك يقوم على المرتكزاتِ نفسِها السابقة التي تراهن على عامل الوقت لمصلحة النِّظَام ومَن معه وبظروفٍ إنسانيةٍ أسوأ بكثيرٍ  من ذي قبل وأن هذا الحراك جاء بعد فوات الأوان، وأنَّ المرحلةَ القادمة قد بدأتْ فعلًا ومن الصعوبةِ التحكمُ فيها من جديدٍ على النحو السابق؟!.
الدكتور جبر الهلُّول



المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »