"إدارةٌ ذاتيةٌ" لإنقاذ مدينة حلب!!..
لمْ تتركَّزْ مجرياتُ الأحداث الميدانية العسكرية والسياسة في جميع المدن
السورية كما تركزتِ اليوم في حلب لاسيما بعدما أُخرجتْ مدينةُ حمص عن دائرةِ
الصراع بطريقةٍ مشابهةٍ إلى حدٍّ مَا لما يجري في حلبَ مِن الناحية العسكرية
وتكتيكاتها لكن في مدينة حلب دخلتْ كثيرٌ من العوامل الدولية والإقليمية والمحلية
في صناعة ما يَجري على النحو الذي يتابعه المعنيون بالقضية السورية. ولعلَّ خطةَ
تجميد الصراع بحلب التي طرحها "دي ميستورا" في نهاية (2014) كانت بدايةَ
اللعبة حول حلب من أجل إخراجها من دائرة الصراع أو بمعنى أدق إخراجها عن الثورة
وفصلها عن مجريات الأحداث في المناطق الأخرى، حيث تركزتِ المبادراتُ والمقترحاتُ
الدولية والإقليمية لحل القضية السورية عن طريق بوابة حلب التي كان من الصعوبةِ
التوافقُ على رؤيةٍ لا تعتمد على الحسم الجغرافي فيها بخاصةٍ بعدما أصبحتْ مركزَ
الثقل للقضية السورية وصراعات المنطقة كلها.
إنَّ الحسمَ الجغرافي الذي آلتْ إليه الثورةُ السوريةُ بعدما تعطَّلَ
الحسمُ العسكريُّ بقرارٍ سياسيٍّ دوليٍّ وإقليميٍّ لاسيما في حلب ليس بالأمر السهل
لأيِّ طرفٍ من الأطراف، وإن كانتِ الداعيةُ الإعلاميةُ للنِّظَام ومَن مَعَه تُروِّجُ
إلى قُربِ ذلك بعد تحقيقِ تقدُّمٍ في بعض الأحياء المحاصرة نتيجة الحملة العسكرية
التدميرية التي تقودها روسيا عليها التي مِن الواضحِ أنَّ القرارَ الاستراتيجي
للعملية يَقتضي عدم توقفها ما لمْ تنعدمِ الحياةُ بكلِّ أشكالها في حلب، وأنَّ هذه
الاستراتيجية تُسابقُ عاملَ الزمن لإنجازها، ولعلَّ توقعَ الجانبِ الروسي نهاية
العام الجاري لذلك جعلهم يُصعِّدونَ مِن العملية العسكرية بشكلٍ كبيرٍ، ويأتي
تقديمهم مقترح قرار لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار بحلب باستثناء "جبهة فتح
الشام" و تنظيم الدولة" من بابِ المناورة السياسية للتشويش على المقترح
الفرنسي والبريطاني بخصوصِ الوضع الإنساني المأساوي بحلب نتيجةَ ما تقومُ به روسيا
وحلفاؤها على مرأى ومسمع العالم كله.
كما أنَّ القول: إن روسيا تستغلُّ الفرصةَ قبل استلام "ترامب"
مهامه عمليًّا في البيت الأبيض لفرض واقع خطتها العسكرية في حلب ما هو
إلا خديعة تكشف مجريات الأحداث وبالأخص تدمير حلب وتفريغ بعض أحيائها سكانيًّا،
إنَّ الصراعَ الدولي والإقليمي والمحلي يَجري على اقتسامِ حلب عن طريق تقسيمها
كبوَّابةٍ أُولى للحلِّ بعد وصول القتل والتدمير والتهجير ذروتَه فيها. وما صرَّح
به "دي ميستورا" لصحيفةِ الحياةِ اللندنية أنَّ بوتين "ليس لديه
نية في تدمير الكامل" لحلبَ أو أي مدينة في سوريا. وإنَّ جاءَ هذا التصريحُ
لتسويق مبادرته إلَّا أنه يتناقضُ تمامًا مع الواقعِ الميداني على الأرض وإنْ
حاولَ "دي ميستورا" من خلال هذا النفي أنْ يُوجِدَ فَرْقًا في الأهدافِ
الميدانية على الأرض بين النِّظَام المُسْتقوي بالروس وبأنه يريدُ تصعيدَ الهجوم
على شرق حلب وتدميرها بالكامل!.
لقد جاءتْ تصريحاتُ "دي ميستورا" تلك بعد طرحِهِ اقتراحَ
"تشكيل إدارةٍ ذاتيةٍ" في حلب الذي سرعان ما رفضه النِّظَامُ وتمَّتِ
التغطيةُ على هذا الاقتراح، وتفاصيله، ومَن كان وراءه، وتمَّ تجاهله بشكلٍ مقصودٍ
من قبل كل الأطراف والانصراف عنه علنيا والانشغال بالتركيز والمتابعةِ لما يَجري
في حلب من خلالِ ما تقوم به روسيا ومَن معها من عمليةِ إكمال خطتها فيها التي وجدَ
النِّظَامُ من خلالها فرصةً للانتقام أكثر قبلَ تنفيذِ أيِّ مُقترحٍ يتمُّ التوصلُ
إليه بخصوص حلب في قسمها المحرر الذي على الأغلب أنه يدركُ أنه لنْ يؤولَ إليه
وَفقًا لاطلاعه على ما يدورُ في كواليس التفاهمات الدولية الإقليمية التي تتم مع
روسيا، وما أخبره به "دي ميستورا" في دمشقَ أو صرَّحَ به للإعلام ليس
إلا تسريب عما وصلوا إليه في تلك الكواليس!.
لكن وإنْ لمْ يكشفْ "دي ميستورا" مَن كانَ وراء مقترح
"الإدارة الذاتية" إلا أنه من المعلومِ أنه قامَ بزيارةِ جنيف ونيويورك
وأنقرة وموسكو وطهران ومِن ثمَّ دمشق قبل أنْ يكشفَ عن هذا المقترح الذي اُعْتبِر
غريبًا في توقيته، وبخاصةٍ أنه جاء كإشارةٍ ضوئيةٍ ولو عابرة تشيرُ إلى الحلِّ عن
طريق التقسيم من خلال هذه الفكرة بغضِّ النظر عن تفصيلاتها، وأنَّ هذا الخيار ما
زالَ هو الوحيدُ للحلِّ وإنْ كانتِ الفرصةُ التدميرية الروسية لمدينةِ حلبَ وما
يقوم به "النِّظَامُ" على الأرض لا تفسر إلا في سياق الفكرة نفسها،
ولهذا كانَ رفضُ "النِّظَام"
لها على أنها "نيل من السيادة الوطنية"، بينما كان الناطقُ باسم
الخارجية الإيرانية "بهرام قاسمي" أكثر وضوحًا وصراحة في فهم مقترح
"دي ميستورا" بإقامةِ منطقةِ
حكم ذاتي شرق حلب، من خلالِ قوله: "المخالفون لتقسيم سوريا كثُر ولن يسمحوا
لهذا الاقتراح أن يُطبق بسهولةٍ، وأتوقع أننا لمْ نصلْ لمرحلةِ أنْ نأخذَ هذا
الاقتراح على محملِ الجدِّ أو حتى نفكر به". ولعلَّ فهمَ موقف النِّظَام
وإيران ومن ثم نقد روسيا لمصداقية "دي ميستورا" لا بدَّ أنْ يؤخذَ في سياق
المجريات الميدانية وتحقيق مكاسب جديدة على الأرض في أحياءِ حلبَ المحاصرة وحملة
دعائية إعلامية كبيرة مرافقة لذلك، وأي موافقة علنية لقبولِ المقترحِ تعكسُ حقيقةَ
ما يتمُّ تداولُه ومناقشته في العواصم التي زارها "دي ميستورا" مع العلم
أنَّ المقترحَ في جوهره يعيدُ طرحَ المبادرة التي وافقت عليها روسيا من قبْلُ
بإخراج "جبهة فتح الشام" من حلب لكن بطريقة عرض جديدة تؤدي الهدفَ نفسَه
الذي طالما سعتْ إليه روسيا لاسيما مع أمريكا وبخاصةٍ في الاتفاق الأخير قبل تعليق
المحادثات بينهما حول سوريا.
إذًا لا شكَّ أنَّ توقيتَ عرض "دي ميستورا" لمقترحه
"‘إدارة ذاتية بحلب" مهم للغاية وفيه إشاراتٌ بالغةُ الدلالة والتعقيد،
لكن السؤال على الرغم من كلِّ مجريات الأحداث الحاصلة في حلبَ اليوم والتصعيد
الروسي الكبير والدعاية الإعلامية للنِّظَام بتحقيق بعض المكاسب على الأرض هل طُوي
ملفُ مقترح "دي ميستورا" حول إقامةِ إدارةٍ ذاتيةٍ بحلب وَفق مفهوم
التقسيم كخيارٍ وحيدٍ للحل أم أن العودة إليه باتت قريبة جدًّا وأن كل ما يجري على
فظاعته هو بعض التحسينات في خريطة التقاسم والتقسيم بين الأطراف الدولية
والإقليمية من خلال ما يمكن حسمه جغرافيًّا خلال هذ المرحلة من القضية السورية قبل
العودة إلى طاولةِ المفاوضات السرية التي لم تتوقفْ بالأصل والتي تجري بالتوازي مع
المجريات الميدانية على الأرض ولا يغيب عنها مقترح "دي ميستورا" بكل
تأكيد؟!.
الدكتور
جبر الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات