حلب
وبوابات التغيير الإجباري في المشهد السوري
إن المشهد الميداني في حلب ليس مفاجئًا على الرغم من التجييش الإعلامي من
قبل النِّظَام الذي هو جزء من الحرب النفسية لتضخيم المعطيات الميدانية أكثر بكثير
مما هي في الواقع لتحقيق مكاسب سياسية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي
بالإضافة إلى المكاسب العسكرية المادية والمعنوية. لكن مع ذلك لا يمكن تجاهل أن ما
يحصل هو خسارة معركة كبيرة من معارك الثورة التي لها ما بعدها في الجانب العسكري
والسياسي ولها تداعياتها الدولية والإقليمية والمحلية بغض النظر عن جانبها السلبي
والإيجابي لأي من الأطراف التي لها دور مباشر أو غير مباشر في الساحة السورية.
فالواقع الميداني المستجد بكل أبعاده وخطورته يقتضي التعامل الواقعي معه
دون الوقوف عند تحميل المسؤوليات التي لا يمكن الاقتصار على تحميلها القوى الثورية
أو على جانب فيها دون الآخر لأن هذه القوى بكل ما فيها من إشكاليات أو عليها من ملاحظات
صمدت أمام قوى دولية وإقليمية ومليشيات متعددة الجنسيات وضعت كل ثقلها العسكري
والسياسي إلى جانب النِّظَام في معركة إعادة احتلال حلب التي لم يستطع النِّظَام
ومعه إيران من إحراز أي تقدم فيها قبل التي بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا في
(30/9/2015) والذي تركز على مدينة حلب في قسمها الشرقي المحرر في منتصف شهر نيسان
الماضي الذي توقفت فيه محادثات جنيف3 ونُقضت فيه هدنة شباط التي لم تكن بالإضافات
لجولات جنيف3 إلا مراحل تمهيدية لكسب عامل الوقت في الاستعداد والإعداد في استهداف
حلب ومحاصرتها وتدميرها بوحشية على النحو
الذي صمت فيه المجتمع الدولي وانكشفت هزالة حراكه السياسي وتقديمه الحل
السياسي على الحل العسكري الذي أثبتت مجريات الأحداث الميدانية أن غالبية الأطراف
تعول عليه ومصالحها مرتبطة فيه من خلال تماشيها ومجاراتها الدعاية الإعلامية
الحربية التي قادتها روسيا التي عملت بها بالتوازي مع حملتها العسكري واتباعها
منهجية الأرض المحروقة على المبالغة في
حجم القوة الثورية في مدينة حلب والزعم أنها في غالبيتها من "جبهة فتح
الشام" وأن القوى الأخرى إما حليفة لها أو تحت سيطرتها وأن كل المبادرات
والمقترحات قد فشلت في فصل "المعتدلين" عن "المتطرفين". وكان
ذلك كله مقدمات لهذا الواقع الذي تصنعه لعبة سياسية قذرة يشارك فيها كل الأطراف
الدولية والإقليمية وتديرها لتصل إلى نتائج تتقاطع مصالحهم فيها بشكل أو آخر على
حساب القضية السورية.
لهذا ما يجري اليوم من إسقاط بعض الأحياء المحاصرة بحلب وما تتعرض له من
همجية تدميرية على يد حلف العدوان الثلاثي بقيادة روسيا ومعها إيران والنِّظَام
الذي لم يتوقف من منذ شهر نيسان الماضي باستثناء هدن مؤقتة لا تنفصل عن تكتيكات
المعركة لا سيما بعض إطباق الحصار على المدينة في شهر تموز الماضي. لكن قبل تحميل
مسؤولية ذلك للقوى الثورية ومن معها لنعلم لم يكن ليحصل ذلك منفصلًا عن مشاركة
المجتمع الدولي بصمته الإيجابي أو السلبي الذي جعل من جميع الأطراف في مأزق لا
يجدون له مخرجًا يمكن التوافق عليه، وبخاصة بعدما أصبح التحكم في أي مخرج هو عامل
القوة العسكرية على الأرض الذي دعم لجانب النِّظَام بشكل مفتوح بينما تحجم أو توقف
عن القوى الثورية بشكل كبير وجعل من المدنيين مكسر العصى لهم في مجريات الأحداث
وهدفًا مقصودًا بشكل مباشر للنيل منهم.
لهذا يمكن القول: إن كل المزاودات الدولية والإقليمية والمحلية حول
المدنيين لم تكن للتخفيف من مأساتهم ومعاناتهم التي تزداد يومًا بعد يوم في مدينة
حلب المحاصرة التي كان من المتوقع عسكريًّا أن تصل إلى هذه المرحلة التي لا تخفى
على متابع للقضية السورية سياسيًّا وعسكريًّا.
إن إسقاط القسم المحرر من مدينة حلب أو جزء منها بيد النِّظَام من جديد
لا شك هو إنجاز كبير بالنسبة إلى النِّظَام الذي أوشك على السقوط قبل قرابة عام،
لكن هذا الإنجاز هو مؤقت وإن كان سيحرص النِّظَام المتهالك على استمراره وتفعيله،
ويحاول أن يوهم أن له خطة استراتيجية لاستعادة سيطرته مرة أخرى على كل الجغرافيا
السورية التي تحررت من قبضته التي تزيد عن ثلاثة أضعاف المساحة الجغرافية التي
يسيطر عليها. الأمر الذي يستحيل عليه مرة أخرى وإن تمكن من إعادة احتلال مناطق
حيوية مهمة في مدينة حلب، لأن الحقيقة التي يجب أن تبقى ماثلة أن ما يجري في حلب
يرجع إلى الثقل العسكري الروسي الذي وضع في سوريا بالإضافة إلى إيران وميليشياتها
المتعددة الجنسيات بالإضافة إلى الغطاء الدولي المفتوح للنِّظَام العسكري والسياسي
مقابل قوى ثورية كانت وحيدة في الميدان باستثناء دعم مهما بلغ حجمه لا يمكن
مقارنته بالمشاركة العملية الروسية والإيرانية للنِّظَام لاسيما عامل الطيران الحربي
والمروحي الذي ركز على استهداف الحاضنة المدنية للثورة وبناها التحتية وبخاصة
المدارس والمستشفيات التي أخرج غالبيتها عن نطاق الخدمة ضمن حصار مطبق استحال فيه
طريق الإمداد العسكري للمقاتلين وكذلك الإمداد الإنساني للمدنيين الذي رفضوا الخروج والاستسلام للهدن الروسية المؤقتة
وشروطها أكثر من مرة.
فما يجري اليوم في سوريا وفي مدينة حلب على وجه التحديد التي أصبحت
البوابة الرئيسة للقضية السورية في جانبها السياسي والعسكري سينهي بالتأكيد مرحلة
كبيرة ارتكزت على دور الفصائل العسكرية على تنوعها في عملية التحرير التي أصبحت في
محطة لا خيار لهم فيها من التبديل والتغيير الإجباري لتأخذ القوى الثورية على
تنوعها أيضًا أسلوبًا جديدًا سيفرضه الواقع الميداني كأسلوب ثوريّ جديد يتناسب
معه، لمتابعة مسيرة الثورة التي لن تتوقف عند إعادة احتلال النِّظَام لجزء من
مدينة حلب المحررة، أو فرض هدن وتغيير ديموغرافي قسري لبعض المناطق والمدن!!.
الدكتور جبر الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات