روسيا والفرصة الأخيرة بحلب!!

روسيا والفرصة الأخيرة بحلب!!
تدخلتْ روسيا عسكريًّا كطرفٍ إلى جانب النِّظَام وإيران من أجل القضاء على الثورة السورية في تاريخ (30/9/2015)، ووضعتْ كلَّ ثقلها العسكري والسياسي من أجل الوصل إلى نتيجةٍ سريعة حاسمة على الساحة السورية، تُحققُ من خلالها أهدافَها الاستراتيجية في الصراع الدولي والإقليمي في الكثير من الملفات الشائكة والمعقدة بينها وبين الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وبخاصةٍ فيما يتعلَّقُ بالصراع الدائر في بحر البلطيق وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا والدرع الصاروخي وغيرها من الملفات الأخرى التي شكَّلتْ عنصرَ التحدي من أجل العودة إلى القطبية الثنائية التي فقدتها على أثر تداعيات هزيمتها بأفغانستان، ومِن ثمَّ بدأ بعدها التحدي الوجودي أمامها داخليًّا وخارجيًّا في إيجادِ الفُرص التي تحلمُ أنْ تعودَ بها إلى الدولةِ العالمية بدلًا من الدولة الإقليمية التي تَعيشُ مشكلاتها وأزماتها التي تَدفع بها إلى الخلف في ساحةِ الصراع الدولي والإقليمي.
 إنه لا شك أنَّ القضيةَ السورية كانت إحدى الفرص الكبيرة وقد تكون الأخيرة التي تَبحثُ عنها روسيا "بوتين" ولمْ يكنْ أمامها مِن خيار سوى اقتناصها لاسيما بعدما أصبحَ وجودُها في الشرق الأوسط والبحر المتوسط مُهدَّدًا بالانحسار لصالح الغرب بعد بدء أحداث ثوراتِ الربيع العربي في نهاية (2010) وانتزاع دورها في ليبيا واليمن ومن قبل العراق، وباتتْ سوريا الموطئُ الاستراتيجي الأخير لها في المنطقة كلها مهدَّدةً وعلى وشكِ السقوط من يدِها وخسارة وجودها ومصالحها القديمة فيها التي ارتبطت بالنِّظَام المسيطر على الدولة منذ قرابة نصف قرن، وإنَّ الحالةَ التي وصل إليها هذا النِّظَامُ في نهاية عام (2015) الذي ارتبطتْ مصالحُ روسيا بالمنطقة بمصيره من جهةٍ، ومن جهة أخرى، وبالمصير الذي ستؤول إليه سوريا كدولةٍ التي أصبحتْ نتيجةَ التدخل الدولي والإقليمي نواةً لتغيير خارطةِ المنطقة الجغرافية وتقسيمها وتقاسمها وإنَّ أخطارَ ذلك لابد أنْ تَطرقَ أبوابَ موسكو في مرحلةٍ ما ولهذا كان عليها أنْ تتدخَّلَ عسكريًّا في سوريا من أجلِ العمل على إبقاء النِّظَام الذي تهالكتْ قواه العسكريةُ والسياسية والاقتصادية أمام تقدُّمِ الثُّوَّار على الأرض وانتزاع مساحاتٍ كبيرةٍ من قبضته وطرق باب معقل حاضنته في الساحل، ولهذا على الرغم من استعانتِه بإيران والمليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات فقدِ انحسرَ وجودُه الجيوسياسي إلى ما دون (20%) من مساحةِ الجغرافية السورية، و لمْ تزدْ تلك النسبةُ عن (4%) بعد أكثر من سنة من التدخل العسكري الروسي إلى جانبه على الرغم أنَّ تلك النسبة كانتْ مهمَّةً وخطيرةً جدًّا لأنها تعلقتْ بتأمين حزام جغرافي "للدولة المفيدة" التي راهن النِّظَامُ على بقائه فيها كمرحلةٍ أخيرةٍ في معركة الحسم الجغرافي بعدَ التعطيلِ الدولي والإقليمي لعمليةِ الحسم العسكري التي حقَّقتِ الثورةُ عن طريقها تقدمًا سريعًا على حساب الجغرافية السياسية التي يُسيطرُ عليها النِّظَامُ.
كما أنَّ روسيا التي تدخَّلتْ عسكريًّا في سوريا ضمن خطة "أ" و "ب" وجدتْ نفسَها بعد هذه الفترة من التدخل العسكري ووجود أطراف دولية وإقليمية داخل الساحة السورية ضمنَ صراعاتٍ وحروبَ متنوعةٍ أنَّ فرصتها في الخطة "أ" التي تَعني استعادةَ السيطرة على كامل الجغرافيا السورية باتتْ شبه مستحيلة ولهذا ركَّزتْ على الخطة "ب" التي تلتقي فيها مع النِّظَامِ تحت ما سمي "بالدولة المفيدة" ولكن أَضافتْ إليها مدينةَ حلب لتجعلَ منها فرصةً أخرى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية التي تدخلت من أجلها بسوريا بعدما وجدتْ أنَّ حلبَ ليست عقدة صراع محلية وإنما إقليمية ودولية ووجدتْ إيرانُ والنِّظَامُ المتهالكُ أيضًا فرصةً أخيرةً للنجاة والبقاء على قيد الحياة  محليًّا ضمنَ هذه الموازنات الدولية والتحول من خلالِ مدينة حلب من الدفاع إلى الهجوم لاسيَّما بعد تمكُّنِ هذا الحلف الثلاثي من فرض الحصار على جزئها الشرقي في أواخر شهر تموز الماضي بعد أشهر عدة من العدوان الذي لمْ يتوقفْ عليها من لحظةِ التدخل العسكري الروسي في سوريا الذي غيَّرَ - بما يمتلكُ من قوةٍ عسكريةٍ كبيرة وبخاصةٍ سلاح الطيران - من مجرياتِ المعارك و حدَّ مِن تقدم القوى الثورية وأجبرها في كثيرٍ من الأحيان على التراجع والانسحاب عن مناطق استراتيجية تقدمت إليها كما في ريف اللاذقية الشمالي وإطباق الحصار على مدينة حلب من جهة طريق الكاستيلو ومن ثم إعادة فرضه من جهة الراموسة التي تمكَّنَ الثُّوَّارُ مِن فكِّهِ بشكلٍ مؤقت بعد معاركَ ضاريةٍ وسريعةٍ في شهرِ آب الماضي، عندها بدأتْ تدخلُ مدينةُ حلب نموذجَ الهدن المؤقتة من الجانب الروسي بشكلٍ منفردٍ لاسيما بعد تعليقِ المحادثات الروسية الأمريكية وفشل الاتفاق الذي توصّلا إليه حول سوريا في (9/9/ 2016) وانقضاء مهلة الأسبوع من إعلان وقف إطلاق النار التي لمْ تُجدّدْ بين الطرفين الأمريكي والروسي بعد ذلك.
إنَّ التعليق الأمريكي للمحادثات مع روسيا حول سوريا كانتْ ضربةً قاسيةً للفرصة الروسية وتطلعاتها من تدخلها العسكري في سوريا وباتتْ تبحثُ عن طُرقٍ تُعِيدُ لها هذه الفرصةَ التي من دونها ستجدُ نفسَها في الساحة السورية كطرفٍ محليٍّ إلى جانب النِّظَام وإيران ضدَّ قوى الثورة وإنها باتتْ بحاجةٍ أكثر من ذي قبل لإعادة السيطرة على حلب من خلال سقوطها أو إسقاطها لما لذلك من تداعياتٍ على الساحة الدولية والإقليمية تُجبر تلك الأطراف إلى العودة إلى المحادثات معها وإجبارها على توقيع تفاهمات واتفاقيات تُخرجها من المستنقع السوري بأقل الخسائر الممكنة.
إنَّ اجتماعَ "لوزان" في الشهر الماضي أعاد لروسيا إمكانيةَ العمل على إعادة حساباتها في سوريا من جديدٍ من أجل الخطوة الحاسمة التي تتعلَّقُ بإنقاذ فرصتها الأخيرة من مدينة حلب لاسيما بعد التعليق الأمريكي للمحادثات معها والحملة الأوروبية على سلوكها الإجرامي في سوريا وعلى وجه الخصوص بمدينة حلب، حيث أخذت طريقة اتباع تكتيكاتٍ عسكريةٍ على الأرض بلبوس سياسي من خلال وقف الغارات العسكرية على القسم الشرقي من حلب المحاصرة ومِن ثم فرض وقف إطلاق نارٍ يوميٍّ تكرر أكثر من مرة بحجة السماح للمقاتلين بالخروج وللمدنيين بالنزوح وللمساعدات الإنسانية بالوصول معتبرةً ذلك ضمنَ الفرصة الأخيرة لإنقاذ حلب من عمليةٍ عسكريةٍ كبيرة أعدت لها من أجل إعادة الاستيلاء عليها من جديد مع حلفائها إيران والنِّظَام.
إنَّ  محافظة روسيا على تلك التكتيكات العسكرية - على الرغم من إعلان القوى الثورية ملحمة حلب الكبرى لفك الحصار عن حلب ودخولها في المرحلة الثانية منها واستمرار روسيا وحلفائها التجييش ضمن حملتها الإعلامية على أنَّ معركةَ الاستيلاء على حلب قادمةٌ وأنَّ ما تقومُ به ليس إلَّا فرصةً أخيرة للطرفِ الآخر من عسكريين ومدنيين - ما هو إلا ترويجٌ لإخفاء أنَّ ذلك فرصة أخيرة لها ومَن معها ولابد أنْ تُعدَّ لها عدتها لاسيما إجراء بعض المساومات الإقليمية قبل الإقدام على تلك الخطوة الأخيرة التي لابد أنها قادمة، وأنَّ خياراتها فيها أصبحت محدودة للغاية في توقفها، وأنَّ مراهنتها على عامل الوقت باتَ يَضيقُ جدًّا لأنها لا تضمنُ تطوراتِ معركةِ ملحمة حلب الكبرى، كما أنها لا تضمنُ تأثيرَ الانتخابات الأمريكية القادمة على مجريات تنفيذ خطتها بحلب.
 لذلك يمكن القول: إنَّ معركةَ حلب الجارية والتي لمْ تتوقفْ منذ أشهر حتى وإنْ أدَّتْ إلى إسقاطها في مرحلةٍ ما، لكن من المؤكد أن الثورةَ لنْ تَسقطَ معها، وأنَّ ما تعرضُهُ روسيا مِن هدنٍ وما يأتي من مبادراتٍ وَفق ما طرحه دي ميستورا مؤخرًا على أنها فرص للحل وإنما هي الفرصةُ الوجودية الأخيرة لروسيا ومَن معها على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، ولهذا سيضعون كلَّ إمكاناتهم العسكرية والسياسية في تلك المعركة الفاصلة بالنسبة لهم، ولكن بالنسبة إلى الثورة السورية ستكونُ بلا شكٍّ مرحلةً خطيرةً ومهمَّةً من مراحل القضية السورية والتغيير في مجرياتها بما يتناسبُ مع تلك المرحلة القادمة ومتطلباتها.
الدكتور جبر الهلُّول


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »