"دي ميستورا" والمهمَّةُ الأخيرة!!..

"دي ميستورا" والمهمَّةُ الأخيرة!!..

إنَّ مُهمَّةَ المبعوثِ الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا "ستيفان دي ميستورا"، لا شكَّ هي مهمةٌ صعبةٌ بسبب تعقيدات القضية السورية المحلية والإقليمية والدولية في بُعدها السياسي وتصاعد مُجريات العمل العسكري على أكثر من صعيدٍ وأكثر من جبهةٍ وطرفٍ فيها. لكن وإنْ كانتْ مهمةَ "دي مستورا" كمبعوثٍ للأمم المتحدة كوسيطٍ بين هذه الأطراف كلها ويُفترض به أنْ يكون "محايدًا" إلا أنه تجاوز ذلك في كثيرٍ من الأحيان في طروحاته ومبادراته التي زادتْ من إشكالية القضية السورية وتعقيداتها على النحو الذي جعل من مهمَّته تخدم النِّظَام ومَن مَعَه وتصب في مصلحته وتقف عاجزة عن تقديم أي شيء للقضية السورية، وإن كان هذا العجزُ بديهيًّا في المنظمة الدولية لأنها مرهونةٌ للقوى الدولية المتحكمة بها منذ نشأتها وليس الأمر طارئ عليها، إلا أنَّ "دي ميستورا" كان حضورُه الشخصيُّ في القضية السورية كبيرًا على حساب موقعه الاعتباري الأممي مما جعلَ فشلَه مزدوجًا. ولا نستطيعُ أنْ نقولَ: "نجاحه" لأن الواقعَ يثبتُ عكسَ ذلك إلى غاية الآن. بالإضافة إلى ما سرَّبَه ديبلوماسيون في الأمم المتحدة بإنَّ المبعوثَ الخاص الى سوريا طلب من الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" إعفاءه من منصبه «لأسباب شخصية» قبل انتهاء ولايته الحالية في آذار (2017). وأوضحت هذه المصادرُ أن "دي ميستورا" "مصابٌ بإحباط" حيال إمكان تحقيق أي تقدم في المسار السياسي في المدى المنظور في سوريا، لاسيما بعد مبادرته الأخيرة بطرح إقامة "إدارة ذاتية" في القسم الشرقي من حلب التي زُعم أنها لاقتْ رفضًا من النِّظَام ومن روسيا التي طعنتْ في صدقيته كمبعوثٍ مُحايدٍ في هذه المبادرة الجديدة!!.
إنَّ مقترحَ "دي ميستورا" الأخير الذي سوّقه هذه المرة على أنه يأتي كمقترحٍ عَمليٍّ وسط بين النِّظَام والقوى الثورية "المعتدلة" لإنقاذ ما تبقى من مدينة حلب المحاصرة من المصير المحتوم وَفق تأكيداته التي عبَّرَ عنها من خلال "قلقه البالغ" على ما سيلحَقُ حلبَ من مزيدٍ من الدمار على يدِ روسيا قبل موعد استلام "ترامب" (20) كانون االثاني القادم والتخويف من ذلك بقوله: "أشعرُ بقلقٍ بالغٍ بشأن ما يمكن أن يحدثَ قبل 20 كانون الثاني". وأضاف: "نحن قلقون للغاية من احتمالِ إطباقِ الأسد بشكلٍ وحشيٍّ وعدواني على ما بقي من شرق حلب، قد يكون ذلك مأساويًا. قد يصبح (فوكوفار) جديدة". وقد رجح "دي ميستورا" قيام الأسد بذلك قبل تسلم "ترامب" مهامه عمليًّا، إذا ما المغزى من هذا المقترح؟!.
قبل مناقشةِ المقترح "دي ميستورا" الأخير الذي ربما هو الخامس أو السادس ... التي غالبيتها تتمحورُ حول حلب خلال مهمته في سوريا والتي لمْ يُنجزْ أو يُتمَّ أيًّا من المقترحاتِ والمبادرات السابقة التي طَرحَها، الأمر الذي يؤكِّدُ أنَّ هذا الرجل - الذي الْتَحقَ بالعمل الدبلوماسي في الأربعين مِن عمره وشغل مناصِبَ سياسيةٍ ووظائفَ ومهامًّا متنوعةً وفي بلدانٍ متعدِّدَةٍ لفترات وجيزة ربَّما أطولها الآن في سوريا- يَسيرُ ضمنَ منهجيةٍ خاصةٍ به حيث لمْ يستلمْ فيها ملفاتٍ وأنجزها كاملةً حتى النهاية أو طرح مبادرات أو مقترحات وتابعها لتصل لنتائج معينة ثابتة يمكن أن يتابع عيلها من حيث توقفت أو انتهت إليه. لهذا فالرجلُ كما يتحدث عنه الأوربيون بأنه لمْ ينجحْ بحلِّ أيِّ أزمةٍ تولاها خلال حياته المهنية، مما يؤكد على أنَّ طريقةَ إدارته للملفات ذاتُ طابعٍ شخصي وليس موضوعي، وربما لهذا السبب الجوهري الذي يتعلَّقُ بشخصية "دي ميستورا" نفسِه تمَّ اختيارُه لتمثيل الأمم المتحدة في سوريا وتحرص عليه فيها لأداء هذا الدور الذي تنتهي تباعاتُه عند "دي ميستورا" ولا تتجاوزه إليها، وبخاصَّةٍ أنَّ مقترحاتِ "دي ميستورا" كرَّستِ التعاملَ معه من قبل المعارضة السورية بصفته الشخصية وليس الاعتبارية التي كان يجبُ نقدُها والضغط عليه من خلالها واعتبار لقاءه بالفصائل العسكرية الثورية هو لقاءٌ واعترافٌ من قبل الأمم المتحدة بوجودها ومشروعيتها في ثورتها ضد النِّظَام والاحتلالِ الروسي والإيراني في سوريا وليس لقاء بشخصِه منفصلًا عن الأمم المتحدة.
وبالعودة إلى مقترح "دي ميستورا" الأخير بما يتعلق بمدينة حلب حول إمكانية قيام "إدارة ذاتية فيها" لا بدَّ من القول بداية كما هي عادته في مقترحاته ومبادراته السابقة هو مقترحٌ ملْغومٌ وغامضٌ يحملُ معانٍ وتفسيراتٍ متعددةً يَصعبُ فهمُ المطلوب منه بشكل دقيق ومنطقي، وبخاصة أنَّ أغلبَ مقترحاته تخرج منه عقب زيارته دمشق أو موسكو أو طهران أو تسرب من خلال وجوده فيها، وقد تركزت هذه المقترحاتُ حول مدينة حلب منذ اقترح خطة تجميد القتال فيها عام (2014) ومن ثم إخراج مقاتلي "جبهة فتح الشام" (900) منها وأخيرًا "إدارة ذاتية فيها" والملاحظُ أنَّ مقترحاتِه في جوهرها تحرصُ بشكلٍ عامٍّ على تفكيك الفصائل العسكرية الثورية من خلال التفريق فيما بينها بإهماله وتهميشه المتعمد لبعض قواها الأساسية، وممارسة الوصاية على البعض الآخر واختيار ممثليها، مما جعلَ تعاطيه مع القضية السورية يتَّسمُ بالاضطراب ويثير الكثيرَ من الشكوك حوله وحول المهمة التي يؤديها في سوريا، ويكاد أن يصبحَ طرفًا فيها، ولكن لمصلحةِ مَنْ كُلُّ ذلك؟!.
إنَّ منهجيةَ "دي ميستورا" في تعاطيه مع القضية السورية لمْ تلقَ قَبولًا من الشعب السوري وإنَّ مقترَحَه الأخيرَ الذي عبرَّ فيه عن قلقه وخوفه على مدينة حلب من بطشِ النِّظَام وروسيا وحذَّرَ من مصيرٍ مشابهٍ للمدينة الكرواتية (فوكوفار) قبل تسلم "ترامب" مهامَّه الرئاسية في (20) كانون الثاني المقبل، وإحباطه من طريقة الرد العلني الروسي والنِّظَام على مقترحه ما هو إلا مناورة لتسويق المقترح ذاته داخل صفوف القوى الثورية العسكرية أوَّلًا قبل السياسية منها، ليكون هذا المقترُح نواةً لفكرة الذي سيعتمدُ عليه جميعُ الأطراف للخروج من مأزقهم ليس من حلبَ فحسب وإنَّما من القضية السورية، وبالتالي يكون "دي ميستورا" خَتَمَ مسيرتَه المهنيةَ بإنجازه وهو الأول والأخير الذي لطالما حلم بالوصول إليه، ولكن يبقى السؤالُ على حساب مَن سيكون هذا الإنجاز الذي يطبخ الآن على نارٍ حاميةٍ بحلب؟!.

الدكتور جبر الهلُّول
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »