نبوءة الخلاص نهاية حتمية للحرب والصراع

نبوءة الخلاص نهاية حتمية للحرب والصراع
(رؤية يهودية صهيونية)
الدكتور جبر الهلّول
تلتقي الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام في تصوراتها لقرب نهاية التاريخ حول عقيدة واحدة أن لهذا الكون نهاية حتمية، وأن الفترة التي تسبق مباشرة تلك النهاية لها مقدمات تكون خاصة بوجود ديانة واحدة من تلك الديانات بعد انتهاء أتباع الديانتين الباقيتين إما باتباع الديانة التي انتهى إليها الأمر، وإما بفنائهم بالحرب الكونية التي سبقت هذه النهاية. لذلك وفق التصورات العقدية في كل ديانة من الديانات الثلاث، أن الأمر سيؤول إليها على سبيل التفرد لفترة من الزمن تطول وتقصر بحسب تصوراتها، إذ هي في اليهودية تمتد ألف عام من السعادة، بينما في الإسلام تمتد مدة أربعين عامًا، وأن في كل من الديانات الثلاث هناك حرب يكون فيها النصر حاسمًا ونهائيًا وفق تصور كل طرف وأن هذه الحرب يعقبها نزول المسيح وفق التصور الإسلامي ومجيء المسيح الثاني وفق التصور المسيحي، ومجيء المسيح للمرة الأولى وفق ا لتصور اليهودي. وأن هذا المسيح الذي هو "عيسى عليه السلام" وفق التصور الإسلامي والمسيحي، سيكون وفق التصور الإسلامي مسلمًا وأن أتباعه سيدخلون في الإسلام جميعًا، أما وفق التصور المسيحي فهو مسيحيًا وأن المهزومين في الحرب الأخيرة سيتبعونه لاسيما اليهود منهم، لذا يأتي تجميع اليهود في المكان الذي سيجيء فيه المسيح واجب ديني لكي ينقذهم جميعًا ويخلص أتباعه من شرورهم ومكائدهم. وأما في اليهودية فإن المسيح الذي يأتي للمرة الأولى بعد حرب كونية يبيد فيها أبناء النور أبناء الظلام (وبطبيعة الحال أن أبناء الظلام هم العرب والمسلمون)، حيث لا يبقى سوى اليهود يحكمون العالم الذي يخضع لهم بالطاعة والانقياد لأحكامهم الدينية وأوامرهم السياسية السيادية السلطوية من القدس لمدة ألف عام يعقبها قيام الساعة.
وإذا كانت الديانات الثلاث تلتقي حول مبدأ الخلاص في نهاية الزمن وتوقف الحرب والعيش بسلام لأتباعها لفترة من الزمن وفق نبوءات دينية، فإن الوقوف عند الرؤية اليهودية لهذه النبوءة له أهميته الكبرى، وبخاصة بعد الإعلان عن قيام كيان ديني سياسي مستوحى من هذه النبوءة، وقد اعتبره كثير من الباحثين المسلمين والمسيحيين واليهود أنه يأتي وفقًا لنبوءة دينية في كل من هذه الديانات التي ورد فيها أدلة نصية تشير إلى ذلك مباشرة أو إيحاء. حتى إن بعض الباحثين والدارسين المسلمين ذهب إلى حتمية زوال "دولة إسرائيل" وفق النص الديني الإسلامي المستوحى من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، على اعتبار أن "دولة إسرائيل" هي التجميع الأخير لليهود في فلسطين الذين سيقاتلونهم المسلمون في نهاية الزمن. كما إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك، من خلال قراءة رقمية لأحداث التاريخ والنص القرآني إلى تحديد زمن "زوال إسرائيل" عام (2022م)، وإن كان على هذه القراءة تحفظات وملاحظات وإشارات استفهام إلا أنها تشير إلى مدى التعلق بنبوءة الخلاص ونهاية الزمن والتاريخ.
ولما كانت نبوءة الخلاص تتمحور حول فكرة الخلاص من الطرف الآخر والتفرد بنعيم الحياة المتبقي من عمر الدنيا، ومن ثم الانتقال مباشرة إلى نعيم الآخرة، فقد لاقت هذه النبوءة اهتمامًا من أتباع الديانات الثلاث لاسيما أتباع الديانة اليهودية الذين كانوا أشد تعلقًا بهذه النبوءة، حيث حياتهم وتصوراتهم تنبثق من خلالها، وإن سلوكهم في الحياة يتمحور حولها، ولإيضاح ذلك لابد من دراستها وفق الرؤيا اليهودية لها على النحو التالي:
حيث من المعلوم أن المسيح المنتظر عند اليهود يشكل جوهر نبوءة الخلاص وأن المسيح المنتظر عندهم ليس هو عيسى ابن مريم عليه السلام، كما هو عند المسلمين والنصارى الذي سيجيء للمرة الثانية، وإنما هو مسيح خاص بهم يأتي لأول مرة. فهم لم يعترفوا بعيسى ابن مريم في المرة الأولى فكيف إذن سيعترفون بمجيئه للمرة الثانية؟! والسبب في ذلك أن عيسى عندما ظهر قال: «إنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، وظل يتحدث عن الأب الذي السماوات بدلًا من رب الجنود المحارب المنتقم، وألقى موعظة قال فيها: "طوبى لصانعي السلام"، لم يكن من الممكن ـ بطبيعة الحال ـ أن يعترف به أحد بوصفه المسيح المحارب المنتظر، بل وصف بالمجنون والمشعوذ وبالدجال وبالمضلل وبمفسد إسرائيل وهادمها.
وظل اليهود ينتظرون مجيء مسيحهم المحارب المنتظر الذي سيبسط حكم صهيون على كل الأرض بعد معركة هرمجدون الرهيبة التي سيذبح فيها ملايين البشر... وهو ما يعلق عليه موسى بن ميمون باعتدال بالغ في الواقع قائلًا: "لو كان (عيسى ابن مريم) قد أعاد الهيكل وكان نجح في لم شمل كل أسباط إسرائيل من الشتات لكان قد أصبح من الممكن اعتباره المسيح المنتظر. لكنه لم يفعل شيئًا من ذلك، بل أعدم. إذن فهو ليس المسيح الذي علمتنا الشريعة أن ننتظر مجيئه.. لقد علمنا كل النبييم(النبيين) أن المسيح الذي ننتظره سوف يكون على يديه فداء إسرائيل وخلاصها وإنقاذ شعبها من النفي، وترسيخ شريعتها، لكن هذا كان (ويقصد عيسى) المتسبب في دمار إسرائيل، وكان المتسبب في استسلامها للذل والشتات، وكان المتسبب في  إفساد الناموس وفي تضليل العالم بعبادة إله غير إله إسرائيل.. لكنه عندما يأتي المسيح الحق المنتظر ويعلو ويسود سوف يتغير كل هذا ويظهر زيفه وعقمه» ([1]).
لقد شكلت عقيدة نبوءة الخلاص إحدى أهم دعائم اليهودية في نظرتها للمستقبل، وقد ارتبطت الصهيونية بهذه النبوءة لتحقيق أهدافها ومطامعها التوسعية في المنطقة الإسلامية. لذا تأتي أهمية دراستها من خلال موقعها في الفكر اليهودي /الصهيوني كأحد أهم البواعث الأساسية التي تحث اليهودي على القتال بشكل مستمر إلى أن يتحقق الخلاص لهم.
المسيحانية جوهر نبوءة الخلاص:
مفهوم واحد في العقلية اليهودية، وهذا المفهوم يعني: مجيء المسيح المحارب المنتظر من نسل داود، وهذا المجيء ينتظره اليهود ليخلصهم وينقذهم مما يعانونه من ضيق واضطهاد وظلم، ويضعهم في المكانة التي تتناسب مع مكانة الشعب المختار التي يعتقدون أنهم يتفردون بها، بعدما يكون قد جمعهم من شتاتهم وعاد بهم إلى الأرض المقدسة التي نالوها عن طريق الوعد الإلهي، وقد حطم أعداءهم وجعلهم عبيدًا لهم ينقادون إلى أورشليم التي يتخذها عاصمة له بعد بناء الهيكل للمرة الأخيرة فيها، وحيث أحكام التوراة والتلمود قد أصبحت نافذة المفعول فيها. وهذا المجيء بشروطه وظروفه وتعاليمه يعتبر نهاية العالم أو«نهاية الأيام»، أي بعبارة أخرى نهاية الحياة الدنيا هذه، وبدء حياة جديدة بكل مضامينها وصورها، وهي أشبه ما تكون بالنعيم الذي يحلم اليهود أن يكون خاصًا بهم وحدهم في نهاية الزمن. ([2])
إن نبوءة الخلاص في اليهودية تستمد مصادرها من الفكر الديني اليهودي بشكل أساسي واضح لا لبس فيه ولا غموض. ولكن هذه العقيدة لم تأخذ تلك الصورة الواضحة في اليهودية إلا بعد فترة متأخرة من وجودها. فقد جاءت فكرة الخلاص مع "إشعيا" الذي بشر بها بعد السبي البابلي لليهود في السفر الذي يحمل اسمه ـ سفر إشعيا ـ مع العلم أن كلمة "إشعيا" بحد ذاتها تعني «الرب يخلص»، ولذا جاء إشعيا منسجمًا مع اسمه حاملًا تعاليم الخلاص من إلهه في أورشليم!.
 إذًا ومن خلال سفر إشعيا الذي ولدت فيه نبوءة الخلاص المسيحاني، حيث يمكن أن أقول: إن إشعيا قد وضع تلك النبوءة وهو يحمل ذكريات الحلم اليهودي الاستعماري الذي سرعان ما انقسم إلى مملكتين مملكة في الشمال عاصمتها السامرة، وقد سقطت على يد الآشوريين الذين سبوا أهلها وأحلوا محلهم أناسًا غير يهود، ومملكة في الجنوب وعاصمتها يهوذا التي حوصرت على يد الآشوريين أيضًا الذين مزقوها، وقد جاء بعدهم البابليون عام(587ق.م)  بقيادة بختنصر الذي قضى عليها وسبى أهلها إلى بابل، وأنهى وجودهم في أرض الميعاد التي أمست حلمًا وذكريات ينشط خيالهم في تصورها والحنين إليها. لذا جاء إشعيا من وسط هذه الظروف وهذه الذكريات المليئة بالحزن واليأس الذي يكاد يحطم آمال اليهود التي طالما سعوا إليها، لكي يعيد لهم الثقة بالنفس، ويزرع في نفوسهم التطلع نحو المستقبل من خلال تلك الرؤيا التي بشرهم بها والتي تحتكر نهاية الزمن لصالحهم ويُنتقم فيها من أعدائهم، وهذا كله بشرط أن يلتزموا أوامر الرب إلههم الذي إذا ما تخلوا عنه تخلى عنهم.                                                  

ولإيضاح نبوءة الخلاص كما جاءت في الفكر الديني اليهودي ومن خلال سفر إشعيا نستعرض النصوص التالية:

  -  «هذا الكلام سمعه إشعيا بن آموص في رؤيا على يهوذا وأورشليم يكون في الأيام الآتية  أن جبل بيت الرب يثبت في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال إليه تتوافد جميع الأمم ويسير شعوب كثيرون. يقولون لنصعد إلى جبل الرب (هو صهيون: الجبل الذي بني عليه الهيكل. بل المدينة فصارت صهيون مرادفة لأورشليم) إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا أن نسلك طرقه فمن صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب. الرب يحكم بين الأمم ويقضي لشعوب كثيرين فيصنعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل فلا ترفع أمة على أمة سيفًا ولا يتعلمون الحرب من بعد فيا بيت يعقوب تعالوا لنسلك في نور الرب» ([3]).

- «يخرج فرع من جذع يسَّى (أبو داود) وينمو غصن من أصوله. روح الرب ينزل عليه روح الحكمة والفهم والمشورة روح القوة والمعرفة والتقوى ويبتهج بمخافة الرب.

 لا يقضي بحسب ما ترى عيناه ولا يحكم بحسب سماع أذنيه بل يقضي للفقراء بالعدل وينصف الظالمين بكلام كالعصا، ويميت الأشرار بنفخة من شفتيه. يكون العدل حزامًا لوسطه والحق مئزرًا حول خصره. فيسكن الذئب مع الخروف ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا وصبي صغير يسوقها. وتصاحب البقرة الدب ويبيت أولادهما معًا. ويأكل الأسد التبن كالثور. يلعب الرضيع على وكر الأفعى، ويضع يده في مكمن الثعبان. لا يسئ أحد ولا يفسد أينما كان في جبلي المقدس لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب، كما تملأ المياه البحر». ([4])

- «في ذلك اليوم يرتفع أصل "يسى" للشعوب. تطلبه الأمم ويكون موطنه مجيدًا. وفي ذلك اليوم يعود الرب فيمد يده لافتداء بقية شعبه في أشور ومصر...وفي جزر البحر. ويرفع الرب راية في الأمم ليجمع حولها المنفيين من بني إسرائيل والمشتتين من بيت يهوذا في أربعة أطراف الأرض. فيزول حسد إسرائيل وتضمحل عداوة يهوذا، فلا إسرائيل تحسد يهوذا ولا يهوذا تعادي إسرائيل. فيجتاحون معًا سفوح الفلسطينيين غربًا، وينهبون بني المشرق جميعًا يُلقون أيديــهم على أدوم ومآب ويكون بنو عمون في طاعتهم. 

ويجفف الرب خليج بحر مصر بريحه اللافحة ويهز يده على النهر الكبير ويشقه جداول سبعة فيعبر بالأحذية. فيصير لبقية شعبه في أشور طريق، كما كان لبني إسرائيل يوم صعدوا من أرض مصر» ([5]).

- « الرب سيرحم بيت إسرائيل، ويعود فيختارهم شعبًا له. يريحهم في أرضهم فيأتيهم الغريب وينضم إليهم. والشعوب الذين أخذوهم وجاءوا بهم إلى أرضهم سيمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيدًا وإماء. ويسبون الذين سبوهم ويستولون على الذين سخروهم» ([6]).
- « روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني له. أرسلني لأبشر المساكين وأجبر المنكسري القلوب. لأنادي للمسبيين بالحرية وللمأساوية بتخلية سبيلهم، وأنادي بحلول سنة رضاه، انتقام إلهنا من أعدائه، لأعزي جميع النائحين في صهيون وأمنحهم الغار بدل الرماد وزينة الفرح بدل الحداد ورداء التسبيح بدل الكآبة، فيكونون أشجار سنديان الحق وأغراسًا للرب يتمجد بها. ويبنون الخرائب القديمة ويرممون منها ما تهدم ويجددون المدن المدمرة إلى مدى جيل فجيل. 
الأجانب يرعون غنمكم ويكونون فلاحيكم وكراميكم تدعون كهنة الرب وتسمون خدمة إلهنا. تأكلون خيرات الأمم، واغتصاب أمجادهم تفتخرون. لأن الأمم ضاعفوا عاركم وجعلوا الخزي نصيبكم. ستمتلكون في أرضهم مضاعفًا ويكون فرحكم مؤبدًا... وأعاهدكم عهدًا أبديًا إن الأمم سيعرفون نسلكم وذريتكم بين شعوب الأرض» ([7]).
إن ما جاء في سفر إشعيا يوضح بشكل جلي عقيدة اليهود حول ونبوءة الخلاص مجيء المسيح الذي يعتقدون أنه قادم بشروطه وأوصافه، ولكن مع ذلك ما جاء في التلمود يؤكد مدى أهمية هذه العقيدة في دفع اليهود إلى ممارسة القتال والحرب بشكل مستمر. وأقتبس في هذا الموضوع ما جاء في كتاب "روهلنج" "اليهود على حسب التلمود"، حيث ورد فيه:
«ينتظر اليهود بفارغ الصبر الزمن الذي سيظهر فيه المسيح. ولكن من هو هذا المسيح المنتظر؟
قال التلمود: " لما يأتي المسيح تطرح الأرض فطيرًا وملابس من الصوف وقمحًا حبه بقدر كلاوي [كلى] الثيران الكبيرة. وفي ذلك الزمن ترجع السلطة لليهود. وكل الأمم تخدم ذلك الوقت. يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه، وثلاثمائة وعشرة أكوان تحت سلطته!.
ولكن لا يأتي المسيح إلا بعد انقضاء حكم الأشرار(الخارجين عن دين بني إسرائيل).
يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض حتى تبقى السلطة لليهود وحدهم، لأنه يلزم أن يكون لهم السلطة أينما حلوا، فإن لم يتيسر ذلك لهم يعتبروا بصفة منفيين وأسارى.
وإذا تسلط غير اليهود على أوطان اليهود حتى لهؤلاء أن يدبوا عليها ويقولوا يا للعار ويا للخراب.
ويستمر ضرب الذل والمسكنة على بني إسرائيل حتى ينتهي حكم الأجانب. وقبل أن تحكم اليهود نهائيًا على باقي الأمم يلزم أن تقوم الحرب على قدم وساق ويهلك ثلثا العالم، ويبقى اليهود مدة سبع سنوات متوالية يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر.
وحينئذ تنبت أسنان أعداء بني إسرائيل بمقدار اثنين وعشرين ذراعًا خارجًا عن أفواههم!.
 وتعيش اليهود في حرب عوان مع باقي الشعوب منتظرين ذلك اليوم.
وسيأتي المسيح الحقيقي ويحصل النصر المنتظر، ويقبل المسيح وقتئذ هدايا كل الشعوب، ويرفض هدايا المسيحيين.
وتكون الأمة اليهودية غذ ذاك في غاية الثروة لأنها تكون قد تحصلت على جميع أموال العالم.
وذكر في التلمود أن هذه الكنوز ستملأ (سرايات) واسعة لا يمكن حمل مفاتيحها وأقفالها على أقل من ثلاثمائة حمار.
وترى الناس كلهم حينئذ يدخلون في دين اليهود أفواجًا ويقبلون كلهم ما عدا المسيحيين، فإنهم يهلكون لأنهم من نسل الشيطان.
ويتحقق منتظر الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون تلك الأمة هي المتسلطة على باقي الأمم عند مجيئه» ([8])
فمن خلال النصوص الدينية السابقة نستنج الملاحظات التالية:
1- هناك أمور تسبق مجيء المسيح المنظر ويشترط تحققها وهي:
- يجب على اليهود أن يعملوا على السيطرة على الأرض الموعودة بكاملها، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في السيطرة على مقومات القوة التي تتحكم في السيادة على الأرض بكاملها.
- يجب العمل على عودة اليهود المنتشرين في جميع أصقاع الأرض إلى أرض الميعاد والاستيطان فيها.
-  يجب القيام بحروب مستمرة في جميع أنحاء العالم من أجل إنهاك وإبادة أكبر عدد ممكن من غير اليهود.
-  يجب هدم المسجد الأقصى، وجميع معابد الغوييم.
 - يجب بناء الهيكل للمرة الأخيرة في أورشليم على أنقاض المسجد الأقصى.
- التوبة من قبل اليهود شرط أساسي لمجيء المسيح المنتظر.
- يجب قيام حرب عالمية كونية على أرض الميعاد تكون نتيجتها لصالح اليهود، وقد قضي فيها على جميع أعداء اليهود على الأرض، بعدها يأتي المسيح المنتظر من قبل اليهود.
2-   هناك أمور تتحقق في زمن المسيح المنتظر، أهمها:
- المسيح المنتظر يجب أن يكون من نسل داود.
- السلطة في ذلك الزمن بيد اليهود، وكل الأمم غير اليهودية تخدم المسيح المخلص وتخضع له.
- تصبح الشريعة اليهودية في ذلك الزمن شريعة عالمية وحيدة يُحتكم إليها من قبل جميع الشعوب.
- تصبح أورشليم عاصمة العالم كله .
- تخضع جميع الأمم والشعوب لسلطان وسيادة اليهود وسيطرتهم.
- توضع جميع ثروات الأمم والشعوب بين يدي اليهود.
- تتوقف الحرب وتدمر أدواتها ووسائلها، ويسود السلام العالمي بين جميع المخلوقات  الآدمية والحيوانية على سطح الأرض بكاملها.
- ستتحقق السعادة الأبدية لليهود.
إن الأحداث التي تتحقق قبل مجيء المسيح وبعده تشكل شروط وأركان نبوءة الخلاص التي يؤمن بها اليهود بأغلبهم، وقد عبر موسى بن ميمون عن إيمانه بهذه العقيدة بقوله: «أنا أؤمن إيمانًا بمجيء المنتظر ولو تأخر إني أنتظر مجيئه» ([9]). وهذا الانتظار لقدوم المسيح المخلص كان أمل اليهود على طول تاريخهم، وهو مبعث الأمل لحياتهم اليومية حيثما وجدوا بعيدًا عن أرض الميعاد التي سيجمعهم عليها، ولذا كان المتدينون يتلون ما قاله ابن ميمون كل صباح بعد صلواتهم ([10]). ولكن هذا الانتظار من قبل اليهود كان مصحوبًا بالخوف على الدوام خشية الحرمان من العيش في تلك الفترة السعيدة لتقصيرهم ومعاصيهم من جهة ([11])، ومن جهة أخرى إن المهابة من المسيح المنتظر تزرع الخوف في أعماقهم باعتباره يحمل خصائص يهوه المقاتل الدموي الذي يتصف بالمهابة والسلطان، ويمتلك أسباب القوة المطلقة!.
 ومن هنا، أُثيرَ سؤال حول إذا ما كان اليهود الذين يموتون قتلى سيستطيعون المشاركة في الخلاص الموعود لنهاية الزمن. هناك رأي قديم يقول: إن هؤلاء سيختفون ولن يعودوا مجددًا ليتاح رؤيتهم من جديد، رغم أنهم ضحوا بحياتهم من أجل أوامر الإله يهوه. ولكن هذا بدا ظالمًا بالنسبة للبعض منهم ويستحق الرفض. لذلك رأوا أن الحكم الصحيح والعادل، الذي يجيب على السؤال، هو الرأي الذي يقول: إن المتقين والمؤمنين الذين يخشون الرب ويطيعون أوامره عبر التاريخ اليهودي سيبعثون من جديد، ومثلهم أولئك الذين قتلوا في سبيل إيمانهم. فهؤلاء سيشاركون جميعًا في الخلاص الأبدي ([12]).
وأعتقد أن هذا الرأي هو الذي يفسر أحد أهم الأسباب التي تدفع اليهود للمجيء إلى فلسطين والقتال فيها بشكل مستمر. فهم يستعجلون الخلاص بتنفيذ أوامر يهوه إيمانًا وسلوكًا ليكونوا من أصحاب ذلك الزمن الذي ينهي معاناتهم وعذابهم التاريخي مع الغوييم. وقد استطاعت الحركة الصهيونية أن تستغل هذه العقيدة بشكل فعال وناجح في تحقيق مخططاتها وأهدافها.

نبوءة الخلاص والحركة الصهيونية:

إن نبوءة الخلاص قبل وجود الحركة الصهيونية كانت عقيدة إيمانية سوف تتحقق في نهاية الزمن بتدبير من قبل يهوه، ولا دخل لليهود في مجريات الأمور ووقوع أحداثها سوى الإيمان والالتزام بتعاليم الشريعة فقط التي تكفلت خلاصهم وإنقاذهم. وعندما تشكلت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر كمحاولة لحل مشكلات اليهود التي كانوا يعانون منها في "المنفى"، واجهت معارضة من قبل اليهود المتدينين الذين اعتبروا الصهيونية تعجل بمجيء المخلص قبل أوانه، وأن هذه المعاناة ومحن "النفي" كانت كافية بحد ذاتها بتبشيرهم على قرب الخلاص المنتظر.
ولكن الحركة الصهيونية من خلال أيديولوجيتها التي طرحتها على أنها الحل لمشكلة اليهود، فقد أرادت التدخل كوسيط بين "الشعب اليهودي" ونبوءة الخلاص لتعجل بالخلاص بأسلوب عملي منظم وفق الشروط الدينية التي يتطلبها، وبالتالي استطاعت الصهيونية أن تحول العقيدة الإيمانية بالمسيح المنتظر إلى مشروع سياسي له برنامجه وخططه وأهدافه، بحيث يكون الهدف النهائي تحقيق رؤيا الخلاص. ومن هنا يمكن القول: إن الصهيونية ربطت مصيرها بمشروعها السياسي، وقدرته على المجيء بالخلاص، فإذا فشلت في ذلك فقدت مصداقيتها ([13])، وحل بها الدمار والهلاك الأبدي. 
إن النجاح الذي أحرزته الصهيونية من خلال إقامة "دولة إسرائيل" واستجلاب اليهود إليها من كل مكان دفع الكثير من المتدينين اليهود إلى عد منجزاتها شاهد «على بداية الخلاص» المنتظر. كما أصبحت بالنسبة لهم المبشر الحقيقي لتحقيق نبوءات الخلاص ([14]).
وقد شددت الحركة الصهيونية على النواحي التي تربط بين دولة إسرائيل وبين نبوءة الخلاص، بهدف تحقيق جملة أمور أهمها «تزويد يهود العالم بعقيدة معينة تجعل استكمال يهوديتهم رهنًا بمجيئهم إلى إسرائيل للإقامة فيها والمشاركة في تحقيق التوقعات الملقاة على عاتق فكرة الخلاص الديني» ([15]).
فقد حاولت الصهيونية أن تقوم بالدور الذي قام به إشعيا من قبل مستغلة الظروف الدولية المحمومة بالأطماع الاستعمارية تجاه البلاد الإسلامية لتضع نفسها في خدمة تلك الدول بغية الحصول على مساندتها في تحقيق أهدافها المسيحانية القديمة التي بشر بها إشعيا الذي حسب في ذلك الزمن أن عمل كورش الذي احتل بابل وسمح لليهود بالعودة إلى فلسطين هو عمل يتفق مع رؤيته للخلاص التي بشر بها اليهود محاولًا زرع الأمل في نفوسهم بالمشروع الديني بأرض الميعاد!. لكن الفارق بين ما قام به إشعيا والصهيونية هو أن إشعيا اقتصر عمله على الدعوة إلى التمسك بتعاليم الشريعة اليهودية وانتظار الخلاص، بينما الحركة الصهيونية استفادت من دعوة إشعيا الإيمانية بإعادة الأمل لليهود مجددًا بأرض الميعاد، ووضعت الخطط العملية لتحقيق ذلك، واعتبرت أن ما تقوم به يشكل المرحلة الأخيرة التي تسبق مرحلة مجيء المسيح المنتظر وإقامة مملكته التي تحكم العالم!.
ولإيضاح العلاقة بين الصهيونية ونبوءة الخلاص أستعرض بعضًا من أقوال الصهيونيين في هذا المجال:
-  قال "زفي هيرش كاليشر” عام 1836: «إن بداية الخلاص ستجيء عن طريق الجهد البشري، وإقناع حكومات العالم لتجميع شتات بني إسرائيل في الأرض المقدسة». وقال أيضًا: «عندما تتحقق العودة بوسائلنا الأرضية فإن أشعة الخلاص السماوية ستظهر بالتدريج» ([16]).
- لقد حلم هرتسل وهو صغير برؤيا يذكرها قائلًا: «ظهر لي المسيا الملك على صورة شيخ مسن في عظمته وجلاله، فطوقني بذراعيه وحملني بعيدًا على أجنحة الريح. والتقينا على واحدة من تلك الغيوم القزحية بصورة موسى...والتفت المسيا إلى موسى مخاطبًا إياه بقوله: من أجل هذا الصبي كنت أصلي. لكنه خاطبني قائلًا: اذهب وأعلن لليهود بأني سوف آتي عما قريب لأجترح المعجزات العظيمة وأسدي عظائم الأعمال لشعبي وللعالم كله» ([17]).
- ويقول هرتسل: «إن المسؤولية التي ألقيها على عاتق اليهود هي تقصيرهم على الصعيد القومي في تحقيق الكرامة القومية واحترام ذواتهم. وهذا التقصير من جانب اليهود في توجيه الاهتمام الكافي إلى حريتهم القومية وإلى استقلالهم ووحدتهم يرجع إلى عقيدة انتظار المسيا لديهم» ([18]).
- قال "ماكس نوردو": «إن مجيء مسيحنا يرتبط برجوعنا إلى إسرائيل».
- أما ابن جوريون فيعبر عن إيمانه بمجيء المسيح المنتظر، فيقول: «لقد آمنا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا. وبيننا أشخاص يعتقدون بمجيء المسيح الذي سيجمع يهود العالم، أحياء وأمواتًا في الأرض المقدسة».
- ومن خلال ذلك رأى بن جوريون أن عودة اليهود إلى فلسطين هي حركة مسيائية تعمل على تحقيق رسالة الأنبياء اليهود. وهو يبرر هجرة عشرات الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وقيام الدولة اليهودية بالإيمان العميق برؤيا الخلاص. وقد قال في ذلك: «من العسير أن نفهم كل شيء حصل في أيامنا، من إعادة تعمير الدولة اليهودية إلى هجرة عشرات الآلاف من اليهود الذين لم يسمعوا قط بأسماء هس وبنسكر وهرتسل وربما لم يسمعوا باسم الصهيونية، دون أن نأخذ بعين الاعتبار رؤيا على يد المسيح المنتظر التي تنغرس عميقًا في قلب الشعب اليهودي» ([19]).
- ولأهمية العلاقة والترابط بين المسيائية والمشروع الصهيوني فقد قال بن جوريون: «إن بقاء الشعب اليهودي عبر الأجيال وعلى مر العصور، وأدى إلى خلق دولة إسرائيل هو تلك الرؤيا المسيائية لدى أنبياء إسرائيل، ورؤيا خلاص الشعب اليهودي والإنسانية قاطبة»، وأضاف قائلًا: «إن دولة إسرائيل هي أداة لتحقيق هذه الرؤيا المسيائية» ([20]).
لذلك وحسب ما يقول بن جوريون إن قيام دولة إسرائيل ليست سوى "بدايات الخلاص"، ولولا أمل الخلاص المسيائي لدى اليهود وتعلقهم الشديد "بوطنهم القديم"، لما كانت تقوم لدولة إسرائيل قائمة على الإطلاق ([21]). ومن هنا ندرك أهمية نبوءة الخلاص كأحد أهم البواعث للقتال عند اليهود باعتبارها المحور الأساسي الذي ينسجون حوله أحلامهم وطموحاتهم السعيدة التي تعوضهم عن كل ما جرى لهم في تاريخهم من اضطهاد وقسر وضعف وتشتت واستهانة لا تليق بعنصرهم المتفرد" شعب الله المختار". وإن أي سلوك أو تصرف لا يخدم هذه العقيدة يعتبر مرفوضًا، وبخاصة ما يتعلق بما أُنجز على أرض فلسطين باعتباره خطوة مهمة نحو الخلاص المنتظر. ولذا قيل إن السبب العميق لاغتيال "اسحق رابين" كان يرجع إلى هذه العقيدة، التي انتشرت بعد حرب حزيران عام 1967 على شكل صيحات النصر على يد العديد من الحركات الصهيونية التي اعتبرت أن الزحف نحو الخلاص على يد المسيح المنتظر مع التشبث بالأرض يؤدي إلى تحريم إعادتها بشكل مطلق، وهنا تصبح مكانة الشريعة اليهودية أكثر سموًا من مكانة حقوق الإنسان الذي ينتهك تلك الشريعة، كما فعل "رابين" في الاتفاق مع الفلسطينيين في أوسلو عام  (1993) ([22]).
فنبوءة الخلاص وفق الرؤيا اليهودية الصهيونية ثابتة في النص الديني، ويعمل اليهود جاهدين على صناعة الأحداث لكي تأتي متطابقة لها كما وردت، وبخاصة أن الصهيونية أجازت التدخل البشري من قبل اليهود في صناعة مستقبل اليهود بعدما كان من قبل تدبيرًا إلهيًا ينتظرونه في آخر الزمن!.
فالمشروع الصهيوني، والدولة اليهودية بدءًا من فلسطين، والكيان الإسرائيلي السياسي الذي غالبية سكانه من اليهود، وفق التصور اليهودي جزء مهم من نبوءة الخلاص التي يعملون على تحقيقها، لكي يقولوا بطريقة غير مباشرة أن النبوءة كما وردت في كتبهم صحيحة وأن الواقع يثبت ذلك بزعمهم!.


[1] - شفيق مقار: المسيحية والتوراة، بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط، ط1، رياض الريس لندن، 1990. ص55.
[2]- شفيق مقار : المرجع السابق، ص18. محمد خليفة حسن: النبوة الإسرائيلية، طبيعتها، تاريخها، الموقف الإسلامي منها، ط1، دار الزهراء، مصر، 1991. ص83-84.
[3] - سفر إشعيا.2 :1- 5.
[4] - سفر إشعيا. 11: 1-9.
[5] - سفر إشعيا. 11: 1-16.
[6] - سفر إشعيا. 14: 1-2.
[7] - سفر إشعيا. 61: 1-9.
[8] - أوغست روهلنج: اليهود على حسب التلمود، ط3، ترجمة يوسف حنا نصر الله، دار فلسطين، بيروت، 1970. ص27-29.
[9] - عرفان عبد الحميد فتاح: اليهودية، عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية، ط1، دار البيارق، بيروت، 1997ص88.
 -[10]ديفيد لانداو: الأصولية اليهودية، ط1، ترجمة مجدي عبد الكريم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1994، ص134.
[11] - يوسي ميلمان: الإسرائيليون الجدد، مشهد تفصيلي لمجتمع متغير، ترجمة مالك فاضل البديري، ط1 ،الأهلية، الأردن، 1993.ص135.
[12]  - ديتر تسمرلنغ: النهايات، الهوس القيامي الألفي، ط1، ترجمة ميشيل كيلو، مراجعة زياد منى، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 1999. ص42.
[13]  - حمدي الطاهري: اليهود ودولتهم الصهيونية، ج1، ط1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2001.ص115.
[14] - ديفيد لانداو: مرجع السابق، ص134.
[15] - أسعد رزوق: التلمود والصهيونية، ط2، الناشر، بيروت، 1991. ص224.
[16]- حسن فؤاد: المستوطنات اليهودية في الفكر الصهيوني، ط1، دار المعارف ، القاهرة ، 1992.ص8 و9.
[17] - أسعد رزوق: التلمود والصهيونية، ص212.
[18]- أحمد حجازي السقا: المسيا المنتظر، نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ط1، دار التضامن، مصر، 1977. ص177.
[19] - أسعد رزوق: إسرائيل الكبرى، ط2، مركز الأبحاث، بيروت، 1973. ص546.
[20]- أسعد رزوق: الدولة والدين في إسرائيل، ط1، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1968.ص116.
[21] - أسعد رزوق: التلمود والصهيونية، ص226.
[22] - إيمانويل هيمان: الأصولية اليهودية، ط1، ترجمة سعد الطويل، الهيئة العامة للكتاب، 1998. ص181.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »