الحراكُ السياسيُّ الثوريُّ في المشهدِ السوريِّ!!!


الحراكُ السياسيُّ الثوريُّ في المشهدِ السوريِّ!!!

إنَّ الأصلَ في الثورات أنْ يقودها حراكٌ سياسيٌّ هادفٌ يستثمرُ العملَ العسكري في كلِّ مرحلةٍ من مراحل الثورة من أجل الوصول إلى الغايات السامية التي قامتْ لأجلها، بحيثُ لا يمكنُ فصلُ الحراكِ السياسي عن الحراك العسكري، ولا يمكنُ استغناءُ أيٍّ منهما عن الآخر في مسيرةِ الثورة، وخدمة حاضنتها، والدفاع عنها والتفاعل معها.  وهذا الحراكُ السياسيُّ إمَّا أنْ يكونَ سابقًا للثورة ومُفجّرًا لها، وإمَّا أنْ ينبثقَ عن الثورة بعد انطلاقها، ويكون من أهمِّ مفرزاتها لتشكيل قيادة ثورية منظمة في بُعدها السياسي والعسكري، تكون قادرة على حمل الأمانة الثورية حتى تصلَ إلى أهدافها، ومستعدة للتضحية في سبيلها إلى النهاية، فتعمل على إثباتِ وجودها وحضورها في الساحة المحلية والإقليمية والدولية بطريقةٍ يَصعبُ تجاوزُها فيها سياسيًّا وعسكريًّا أو التفرد في كل جانب بعيدًا عن الآخر من أجلِ إجهاضها والتمكنِ من التحكم بها وتوظيفها ضمنَ أجندةٍ خارجيةٍ لأنها اللاعبُ الأساسيُّ والممثِّلُ القويُّ للثورة وحاضنتها الشعبية التي تمنحها ثقتها بناءً على الأفعال وليس على الأقوال. بمعنى أنَّ الحراك السياسي هو عبارة: عن معاركَ تَعكسُ انتصاراتِ المعارك العسكرية على الأرض، وكما أنَّ المعاركَ العسكرية تحتاجُ إلى قادةٍ محترفين وجنود متمرسين في القتال وأساليبه وخططه كذلك الحراك السياسي الثوري الذي هو الجزء القيادي للثورة ولا يمكن فصله عن الجانب العسكري في حال من الأحوال. لكن إذا كان هناك حراكٌ سياسيٌّ وكان مستقلًا عن الجانب العسكري ولمْ ينصهرْ فيه أو ينفصل عنه في أية مرحلة من مراحل الثورة أصبحَ حراكًا سياسيًّا مُعارضًا للسلطة بكل مضامينه وأساليبه وطرقه وأهدافه.
إنَّ المتابعَ للحراك السياسي الثوري في القضية السورية يجد أن هناك إشكالياتٍ كبرى لم تُحل ولم تأخذْ طريقها إلى الحل بعد، وشكلت عاملًا سلبيًّا كبيرًا في مسيرة الثورة عبر سنواتها التي مضت، حيث لوحظ بشكلٍ واضحٍ أنَّ الحراكَ السياسي المعارض قبل الثورة لم يكن له أثر يذكر في تفجيرها ولم ينصهر فيها فيما بعد على الشكل المفروض والمطلوب من أجل رسم مساراتها ويحافظ على توجهاتها وأهدافها ويكون له دورٌ في تحصينها وزيادة مناعتها من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، بل كان على العكس من ذلك على وجه العموم، وبقي بكل تشكيلاته وكياناته التي تشكلت بعد الثورة كالمجلس الوطني ومن ثم الإتلاف وغيرهما من الكيانات السياسية منفصلة وبعيدة عن الحراك العسكري الثوري على الأرض التي كانت تَسعى لجرِّ الحراكِ العسكري إليها لتنال منه اعترافًا أو تمثيلًا لأخذ المشروعية في حراكها السياسي فقط من دون أن تنزلَ إلى الأرض وتنصهرَ معه، بالإضافة إلى ذلك كانت بوابات واسعة للتدخل الخارجي الدولي والإقليمي في الثورة. الأمر الذي أدَّى إلى إسقاط دورِ هذا الحراك السياسي وأفقده الخاصية الثورية التي لا تكون إلا بالتلازم والانصهار مع الجانب العسكري على الأرض والتفاعل مع قواه الثورية التي لمْ تستطعْ أنْ تتعاملَ معه إلَّا في الحد الأدنى وعلى استحياءٍ وحذرٍ لاسيما بعد اتخاذ مواقف علنية واضحة منه من قبل غالبية القوى العسكرية الثورية على الأرض التي أفقدته المشروعيةَ التمثيليَّةَ للثورة في كل المراحل السابقة، وبات التراجعُ عن تلك المواقف صعبًا لعدم قدرة تلك الكيانات والتشكيلات السياسية على أخذ زمام المبادرة بالاقتراب من القوى الثورية على حساب القوى الخارجية التي تماهتْ معها وأصبح حراكُها السياسيُّ منسجمًا مع مواقف تلك الدول ودورها في القضية السورية وصدى له أفقدها التأثير في مجرياتِ الثورة السورية وتصاعد الأحداث العسكرية فيها، فلمْ يعدْ يُعوَّلُ عليها شعبيًّا أو ثوريًّا بشيء يذكر، يمكن أن يبقيها على قيد الحياة ويعطيها المصداقية التي تنقذها من الموت السريري الذي هي فيه!.
إنَّ إشكاليةَ الحراك السياسي السابقة بقيتْ مستمرةً بآثارها السلبية على الثورة إلى يومنا هذا للأسباب الجوهرية التي ارتكز عليها هذا الحراك. لكن في المقابل كان هناك أسبابٌ أخرى من قبل القوى العسكرية الثورية العاملة على الأرض التي لمْ تسعَ إلى حلِّ هذه الإشكالية الكبرى بطريقةٍ جديةٍ صحيحةٍ من خلال إفراز حراكٍ سياسيٍّ ثوري من خلال صفوفها يمثل الثورةَ ويقودُها ويفرض وجوده على الحراك السياسي المتمثل بالكيانات والتشكيلات السياسية السابقة التي اُخْتزل الحراك السياسي للقضية السورية دوليًّا وإقليميًّا فيها. 
فمشكلةُ التمثيل السياسي للثورة وجدتْ مع بدايات الثورة ولمْ تكنْ طارئةً عليها ومنذ البداية كانت على مفترق طرق مع الحراك السياسي الذي تشكل على حساب الثورة ولمْ ينبثقْ عنها أو ينصهرْ معها، ولعلَّ بعض الأسباب التي حالتْ دون ذلك هي نفسها التي كان لها الدور الكبير في الحيلولةِ دون تمكن القوى العسكرية الثورية من القيام بحراكٍ سياسي له دور قيادي بارز وواضح في الثورة أو تصحيح العلاقة وإيجاد مقاربة مع الحراك السياسي الذي تشكل مع بداية الثورة بعيد عنها، وذلك من أجل أيضا الاستفادة منها وتجييرها ضمن الأجندة الدولية والعسكرية والإقليمية واستراتيجياتها في المنطقة وحرف مسارها عن الثورة وأهدافها الذي عادة يرعاه ويقوده الحراكُ السياسيُّ الذي يمثلها، وهذا ما افتقدته الثورةُ السوريةُ طيلة هذه السنوات من عمرها ولمْ تستطعْ أنْ تجدَه أو تصل إلى حل إشكالياته التي وصلت بها إلى هذه المرحلة المعقدة سياسيًّا وعسكريًّا في مسارين متباعدين هي أحوجُ ما تكون إليهما معًا منصهرين من أجل متابعة مسيرة الثورة التي لا يمكن أن تُصحح خطواتها إلا من خلالهما، وإنَّ المراهنةَ اليوم بالاعتماد على جانبٍ من دون الآخر أو التقليل من أهميته هي مراهنةٌ خاسرةٌ بكل المقاييس، وإنَّ التأخير في حل الإشكال البنويّ في الحراك السياسي الثوري يجعل القضية السورية في خطر وجودي سيكون له تداعياته الخطيرة ليس سوريا فحسب وإنما المنطقة كلها.
إنَّ إشكاليةَ الحراك السياسي الثوري في المشهد السوري تبدو واضحة ومعلومة أسبابها للجميع وإنَّ غالبيةَ الأطراف الثورية السياسية والعسكرية باتت تشعرُ بثقلها وتدرك حجم مسؤوليتها في ذلك، ولكن يَبقى السؤالُ هل ما زال بالإمكان تصحيحُ هذا الخلل وحل إشكالية الحراك السياسي العدمي الذي تعيش على وقعه القضية السورية في واقع الحراك السياسي الدولي والإقليمي، وإنقاذ الثورة وتصحيح مسارها بشقيه العسكري والسياسي في انصهارهما بدورٍ تكاملي، أم أنه قد فات الأوان، ولابد من الانقلاب الثوري على الثورة ذاتها؟!.


الدكتور جَبْر الهلُّول
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »