طغيانُ الجَانبِ العَسكريِّ عَلى المَشهَدِ السُّوريِّ

طغيانُ الجَانبِ العَسكريِّ عَلى المَشهَدِ السُّوريِّ

طَغى الجانبُ العسكريُّ على القضية السورية دوليًّا وإقليميًّا ومحليًّا على حساب الحراك السياسي الذي اقْتصرَ دورُه في الجانب الدولي والإقليمي على تفعيلِ وتصعيدِ العملِ العسكري بما يخدمُ اسْتراتيجيَّاتِ تلك الدول وسياساتها الخارجية التي تتمحورُ حول مشاريعها وخططها ومصالحها في المنطقة، ولمْ ينصبْ هذا الحراكُ السياسيُّ في أيَّةِ مرحلةٍ منه على معالجة القضية السورية معالجةً جدّيّةً خاصَّةً أو أن يكون إيجابيًّا على الأقل بمستوى حجمِ المأساةِ التي وصلتْ إليها في مقاربة إنسانية هي أبعدُ ما تكونُ عن واقعِ الزيف الدولي والإقليمي والأممي في تعاطيه مع القضية السورية الذي هو شريكٌ بما يحصل فيها بطريقة أو أخرى حتى عندما يقفُ موقفًا صامتًا وسلبيًّا ممَّا يَجري ويترك دولًا تتدخَّلُ بكلِّ قوَّتها العسكرية كروسيا وإيران إلى جانبِ النِّظَام في سوريا الذي استجلبَ مليشياتٍ متعدِّدةَ الجنسياتِ حاقدةً  لتدميرِ مدنها ومستشفياتها وقتل شعبها وتهجيرهم، ثم يُبرر ذلك الإجرام كله قولًا أو فعلًا فيُسكت عنه بحجةِ وجود "الإرهاب"  بين صفوف القوى الثورية ويمنع عنها السلاحَ الذي تدافِعُ به عن نفسها كي لا يقع في الأيد الغلطِ كما يزعمون، بينما ما زالَ يجري التحقيقُ الدولي الأممي حول جريمة الكيماوي التي ارتكبها النِّظَامُ في الغوطة وحول استخدامه المتكرر غاز الكلور حيث يمكنُ كل يوم أن يفتحَ ملفَ تحقيقٍ جديدٍ لجرائم جديدةٍ ترتكب بحق السوريين ولا يغلق، وتبقى نتائجُه للابتزاز السياسي في المنظومة الدولية وَفق استراتيجياتها ومصالحها وليس لمعاقبة المجرمين الذين يدركون حقيقةَ هذا الحراك الدولي والإقليمي حول القضية السورية وجوهر آلية تعاملهم معها، على اعتبار أنَّ الكلَّ شركاءُ في ذلك بغضِّ النظر عن مواقفهم ووجودهم لصالح هذا الطرف أو ذاك بحسب ما يقتضي واقعُ الصراع والتنافس فيما بينهم.
لذلك وفي هذا السياق لا تتردَّدُ روسيا منذ أنْ تدخلتْ عسكريًّا أن تُعلنَ عن معاركَ تدميريةٍ للبشر والحجر في سوريا تحت الحجج نفسها التي تتناغمُ مع المنظومة الدولية والأممية المجرمة في "محاربة الإرهاب" وتستخدمُ أحدثَ آلتِها العسكرية من طائراتٍ وبوارجَ وسفنٍ تتفاخرُ بأسمائها وقدرتها على قتلِ الشعب السوري على مَرأى ومَسمع العالم كله. ولهذا يأتي استخدامُ روسيا للقنابل العنقودية والفوسفورية وقصف قافلة المساعدات الأممية وتدمير المستشفيات والمدارس جزءًا من الحراك السياسي الدولي ولا ينفصلُ عنه عبر ملفاتِ التحقيق الهزيلة بانتهاكات حقوق الإنسان الذي ترد عليه روسيا بمزيدٍ من التصعيد العسكري وتسهل عليهم عمليةَ التوثيق والتحقيق عن طريق تصور قصفها والمواقع التي تدمرها ونشر ذلك عبر وسائل الإعلام ثم تكتب تحتها عبارة قصيرة "مواقع إرهابية" ثم تعلنُ بعد ذلك أنها مستعدة لهدنةٍ جديدةٍ وأنَّ الحلَّ في سوريا لا يمكنُ أنْ يكونَ إلَّا حلًا سياسيًّا، فيتصاعدُ عندها الحراكُ السياسي الدولي والإقليمي والأممي وراء العبارة الأخيرة ويتفاعلُ مع مجريات الأحداث من خلالها على مبدأ الموجةِ لامتصاصِ تداعياتها.
فإذا كانَ هذا هو واقعُ الحراك السياسي الدولي والإقليمي والأممي وهو حراكٌ غيرُ مفاجئ في تعاطيه مع القضية السورية ولا يُتوقع منه أكثر من ذلك عبر التجربة التاريخية في الكثير من قضايا المنطقة، مهما تغير الرؤساءُ والحكوماتُ لأنه محكومٌ باستراتيجياتٍ كبرى تراعى فيه المصالح بالدرجة الأولى وإن تعاطيها مع الملفات الخارجية لا يخرج عن هذا الإطار وإنْ تعددتْ تكتيكاتُها في ذلك. وبطبيعة الحال يجبُ مراعاةُ الفارق بين الدول الدولية والدول الإقليمية في هذا الحراك الذي يتنوعُ دورُها بحسب قوتها وتأثيرها فيه إلى درجةِ شريكٍ أو وسيطٍ أو تابعٍ، وبطبيعة الحال لا تخرج غالبيةُ الدول العربية عن الدور الأخير وما دون ذلك كمحتل ومستعمر.... ولهذا علينا أن ننظرَ إلى مواقفها من القضية السورية ونقيمها من خلال دورها في هذا الحراك الدولي وموقعها الوظيفي فيه لا أكثر، ولا نفاجئ من سلبيتها في تعاطيها مع تصاعد الأحداث في سوريا حيث نكادُ لا نسمع لهم صوتًا ولا نرى منهم موقفًا ولا نحس لًهم وزنًا مؤثرًا فيها. لهذا ليس من الغريب أنْ تكونَ غائبةً عن المشهد السوري بسبب الشلل الوظيفي الذي تعانيه بشكل بنيوي والذي سينعكس عليها سلبًا في المراحل اللاحقة القريبة ضمن تداعيات القضية السورية في المنطقة وستدخل بشكل مباشر في دائرة الخطر الوجودي الذي لا يمكنها مواجهته أو تحديه في ذلك الحين!.
فإذا كانت هذه هي صورةُ الحراك السياسي الدولي والإقليمي وهذه حقيقتُه وواقعه في تعامله مع القضية السورية بتناقضاته وتفاهماته وصراعاته ولمْ يكنْ يُنتظر منه أكثر من ذلك أو يُتوقع أنْ يخرج عنه إلا بما يتوافق مع استراتيجياتها ومصالحها ويتقاطع في بعض جزئياتها مع القضية السورية وعلى حسابها، إلَّا أنَّ السؤالَ الذي لا يقلُ تعقيدًا عن واقع الحراك السياسي الدولي والإقليمي وأثره السلبي في هذه القضية يتعلَّقُ بواقع الحراك السياسي الثوري خلال السنوات التي مضتْ من عمر الثورة الذي ربما كان يقعُ عليه عبءُ المسؤولية الأكبر في وضع القضية السورية ضمنَ هذا الحراك الدولي والإقليمي وتفعيلها بشكلٍ يتناسبُ مع حجم هذه القضية ويحقق مصالحها التي تتناسبُ مع أهدافها التي قامتْ لأجلها ويحافظ على مسارها بدلًا من أن تُصبح ضمن أجندات تلك الدول، الأمر الذي أفقدها جوهرَها الدافعَ لاستمرارها وعطل من سر نجاحها، وأوشك على إجهاض المفهوم الثوري فيها وعمل على إفشالها. ولكن هل كان من الممكنِ أنْ يكونَ هناك حراكٌ سياسيٌّ ثوريٌّ بمعزل عن الحراك السياسي الدولي والإقليمي وتعقيداته وتباعاته، ويكون لهذا الحراك دور في ظل طغيان الجانب العسكري المحلي على مجريات الأحداث ولدى كافة القوى الثورية التي "تأدلجت" بطريقة أو أخرى عن قصد أو غير قصد ليصبح الجانب السياسي إما هامشيًّا أو له مسار آخر منفصل عن الجانب العسكري وربما على طرف نقيض منه ويتعارض معه؟!.
الدكتور جبر الهلُّول


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »