تداعيات تعليق المحادثات الأمريكية الروسية

تداعيات تعليق المحادثات الأمريكيّة الروسيّة
الدّكتور جَبْر الهلُّول
 تصاعدتْ لهجةُ الخطاب بينَ أمريكا وروسيا وَكَثُرتِ التَّسريباتُ عن تحضيراتٍ وعرضِ عضلاتٍ عسكريةٍ مِن كِلا الجانبينِ بعدَ تعليقِ المحادثاتِ بينهما حول سوريا وتبادلِ الاتهامات بتحمُّلِ المسؤوليةِ المُترتبة على ذلك. وتصاعَدَ في الوقت نفسه حراكٌ سياسيٌّ دبلوماسيٌّ أوروبيٌّ على وجه التحديد على هامشِ الخلافاتِ الأمريكية الروسية التي كَشَفَ تعليقُ الاتفاق عن تباينِ أهدافهما الاستراتيجية في سوريا وفي غيرها من المناطق على الصعيدينِ السياسي والعسكري أكثر مما تجمعها نقاطُ المصالح المشتركة التي سَعَتْ روسيا إلى إيجادِ أرضيةٍ لها من خلال تدخلها العسكري في سوريا وتقاطعها معها تحت مسمى محاربة "الإرهاب" ومن ثمَّ التوصل إلى اتفاقٍ يَعكسُ مَا يُريدُ كلٌّ منهما من الآخر على حسابِ القضية السورية ومعاناة شعبها.
 إذ أنَّ بمجردِ الإعلان عن توقفِ المحادثات بين أمريكا وروسيا بخلافِ مَا كان يقتضي الاتفاقُ الثنائي الذي توصَّلا إليه في التاسع من أيلول الماضي بعد شهورٍ من الاتصالات والاجتماعات التي أعطتِ انطباعًا مُخادعًا للوهلة الأولى لدى بعض المراقبين عن عمقِ التفاهم الأمريكي الروسي حول سوريا وإطلاق يدِ روسيا فيها على حسابِ غالبية الدول الإقليمية المعنية بالقضية السورية وتهميشها جانبًا، وبخاصةٍ أنَّ ذلك جاء مُنسجمًا مع التطلعات الروسية نحو العودةِ إلى الثنائية القطبية مع أمريكا، وقد أدارتْ ظهرَهَا إلى تلك الدول وأوشكتْ على الصدام مع بعضها كتركيا بعدما أصبحتِ اللاعبَ الرئيسيَّ في القضية السورية بتدخلها العسكري فيها إلى جانبِ النِّظَام وحلفائه وشعورها بأنها أصبحتْ قادرةً عن طريق الاستراتيجية العسكرية وحدها أن تُغيِّرَ موازينَ القوة على الأرض لصالحها وتفرض بخياراتها العسكرية الحلولَ السياسيةَ في سوريا على النحو الذي تُريدُ وكيفما تريد، بل وصلتْ بها الصلافةُ العسكريةُ والسياسيةُ إلى الاعتقاد بأنها قادرة على التنصل من بعض بنود الاتفاق والتحايل عليها وفرض شراكة عسكرية فقط على أمريكا واللعب على الاختلاف داخل دوائر صنع القرار في الإدارة الأمريكية والاستفادة من سياسة أوباما الخارجية وبخاصة بما يتعلق بسوريا.
لكن تعليقَ الاتفاقِ من قبل أمريكا واستدارتها قليلًا نحو بحث الخيارات الأخرى وتسريب ذلك بشكل مقصود عبر وسائل إعلام أمريكية ومن ثم الالتفات إلى الدول الأوربية بشكلٍ أكبر من دون التخلي بشكلٍ كاملٍ عن الثنائية التي طغت على الحراك السياسي الأمريكي طيلة الفترة الماضية من التدخل العسكري الروسي في سوريا كانت رسالةً قرأتْ روسيا جدِّيَّتَها وأعادتها إلى أجواءِ جريمة الكيماوي وأدركتْ أنها على حافةِ خسارةِ استثمار سنة كاملة من العمل العسكري إلى جانبِ نظامٍ تُدرك تمامًا أنه باتَ غير قادرٍ على البقاء ولا يمكن أنْ تخوضَ مواجهةً عسكريةً مهما كانتْ محدوديتها مع أمريكا لأجله وإنما أصبحتْ تَخشى على ما تبقى من مصالحها إذا ما تدخلت أمريكا عسكريًّا بأيِّ طريقةٍ كانت ضد النِّظَام الذي ربطتْ مشروعيَّةَ وجودها العسكري بسوريا من خلاله وإذا ما حصل ذلك من قبل أمريكا فإن ذلك سيعقد وجودها العسكري بسوريا بشكل أكبر بكثير مما كانت عليه في أفغانستان حيث لنْ تستطيعَ أنْ تجدَ المخرجَ من المستنقع السوري بعدما غرقت فيه من دون الاعتماد على أمريكا التي ستحرصُ على الدوام من خلال الاتفاق وتعليقه أنْ تدفعَ بها أكثر نحو توريطها بشكل أكبر. وربما هذا ما جعَلَ روسيا تفرض احتماليةَ المواجهة والصدام مع أمريكا فأخذتْ تنشرُ أنظمةَ صواريخها المتطورة من (إس 300 و400) في سوريا وتستقدمُ بعضَ سفنها الحربية إلى البحر المتوسط التي هي بكلِّ تأكيدٍ غير معدة لمواجهة الفصائل العسكرية بكل تنوعاتها الأيديولوجية وتصنيفاتها وإنما تأتي ضمنَ التحضيراتِ لما هو متوقعٌ من تطوراتٍ مفاجئةٍ بينها وبين أمريكا وحلف الناتو فيما يتعلق بأوكرانيا وباقي الملفات الساخنة واحتمالية تفعيل الحرب الباردة بينهما من جديد بشكل أكبر.
إنَّ مَا يَجري بين روسيا وأمريكا من شدٍّ وجذبٍ واتصالاتٍ متكررةٍ بين وزيري الخارجيتين الأمريكية والروسية لمْ تنقطعْ على الرغم من تعليق المحادثات بينهما حول القضية السورية وانعكاس ذلك بشكلٍ كبيرٍ على مجريات الأحداث الميدانية التي باتت مرتبطةً بذلك الصراع وأبعاده بين الدولتين وتعيش على وقع تطوراتِه العسكرية والسياسية ولمْ يعدْ بالإمكان أن تنفصلَ عنه بأي حال من الأحوال. فروسيا طرفٌ عسكريٌّ يتحكم بمجريات الأحداث العسكرية إلى جانب النِّظَام وأمريكا طرفٌ مقابلٌ لها سواء عادت إلى تفعيل الاتفاق أو خرجت منه وتفاعلت مع الأحداث بشكلٍ أحاديِّ الجانب سواء بدعم بعض الفصائل عسكريًّا، أو اكتفت بخوض معركتها في محاربة "الإرهاب" ضمن التحالف الدولي، ولكن وإن كانتِ الخياراتُ أوسع أمام أمريكا للتعامل مع القضية السورية حتى من دون العودة إلى الاتفاق مع روسيا إلَّا أنَّ روسيا تكادُ أنْ تكونَ قد استنفدتْ خياراتِها العسكريةَ والسياسيةَ وليس لها إلا العودة إلى الاتفاق مع أمريكا وإن كان بشروطٍ أمريكية جديدة بعد هذا التعليق والتهديد بمبدأ استخدام القوة العسكرية الذي يأتي ضمن "مبدأ الردع" باستخدام القوة في سوريا ضد النِّظَام الذي مِن المتوقع أنْ يحدث أثره خلال الأيام القليلة القادمة ويلقى الاستجابة السريعة كما حصل أثناء جريمة الكيماوي وإلا القضية السورية أمام احتمالات وخيارات أخرى ستفرضها المرحلة الرئاسية الأمريكية القادمة عليها، وإن كان من المرجح الخيارُ الأوَّلُ لأن روسيا تُدركُ خطورةَ المرحلةِ ولن تقامرَ أكثر من ذلك بنظام مُتهالك أو تُراهن على فرض واقع جيوسياسي على مدينة حلب سينعكس عليها سلبًا أكثر مما تتوقع!!!.



المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »