تغييبُ الحلّ السّياسيّ للقضيّة السّوريّة!!.
(حتى أنت يا دي ميستورا...؟!)
الدكتور جَبْر الهلُّول
لمْ يتضمّنِ الاتفاقُ الأمريكيُّ الروسيُّ الثنائيُّ
أيَّ طرحٍ أو تصوُّرٍ سياسيٍّ لحلِّ القضيةِ السوريةِ حتى أنَّ تعليقَ المحادثات
بينهما لمْ تكنْ نتيجةَ خلافاتٍ حول ذلك. حيثُ أنه من المعلومِ أنَّ الاتفاقَ لمْ
يَحْملْ إلّا بُعدًا عسكريًّا بين الطرفين يَتعلقُ بأهدافهما الاستراتيجية ومصالح
كل منهما في المنطقة، وكانَ حضورُ القضيةِ السورية في الاتفاق حضورًا جغرافيًّا
تقاطعتْ مقتضياتُ الصراع بينهما على تقسيمها بطرقٍ مباشرةٍ وغير مباشرة وإن زعَمَا
غير ذلك، فإنَّ ذلك يتأكَّدُ بشكلٍ واضحٍ من خلال العمل على استدامة الصراع
وتدويله وتفريغه من جوهره الذي يتعلَّقُ بثورةٍ شعبيةٍ ضدَّ نظامٍ مجرمٍ مستبدٍ
قتلٍ ودمَّرَ وهجَّرَ ما يزيدُ عن نصف الشعب السوري مستعينًا بإيران وروسيا
والمليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات، ومن ثم اختزال ذلك كله وغض الطرف عنه تحت
مسمى محاربة "الإرهاب"، ويُصبحُ كلُّ الحراكِ الدولي والإقليمي العسكري
والسياسي ينحصر في ذلك، ويعمل جاهدًا على توظيفِ الفصائل الثورية ضمنَ هذا الإطار
من خلالِ التصنيف وغرف الدعم وإخراجها من المواجهة مع النِّظَام أو العمل على
إضعافها شعبيًّا ضمنَ حملةٍ مُمَنْهجةٍ وتحميلها مسؤولية ما يجري للمدنيين من قصفٍ
وتدميرٍ وحصار على يدِ حلفِ العدوان الثلاثيّ (الروسي والإيراني والنِّظَام
ومرتزقته) ومن ثم في النهاية تحميلها مسؤولية القيام بالثورة كلها وفشلها وتبريرًا
للعدوان الثلاثي جرائمه أو على الأقل السكوت عنها تمهيدًا لأيِّ طرحٍ مستقبليٍّ للحلِّ
يكون هذا الثلاثي جزءًا منه وحاضرًا فيه من خلالِ فعاليته العسكرية على الأرض.
ولعلَّ الصمتَ العربي والإسلامي وحتى الإقليمي حول ما يجري في حلب مؤخرًا كان
واضحًا بشكلٍ مريبٍ ويبعثُ على التساؤل عن مواقفها ودورها فيما يجري باستثناء بعضِ
الأصوات الأوروبية التي ارتفعتْ على هامشِ تصاعدِ الخلاف الأمريكي الروسي ولكن
أثبتَ الواقعُ ومن خلال التصويت في مجلس الأمس على القرار الفرنسي الذي استخدمتْ
روسيا ضدَّه الفيتو أنه ليس لها أثر في واقع مجريات الأحداث الميدانية المأسوية
الحاصلة في سوريا وعلى وجه الخصوص بمدينة حلب لا من قريبٍ أو بعيدٍ وأن ما تقوم به
لا يعدو تعبيرًا عن مسؤولية أخلاقية تجاه شعوبها لا أكثر!.
فلمْ يكنْ تصريحُ دي ميستورا صاحبَ خطة "تجميد
الصراع بحلب" التي افتتحَ مهمَّتَه الأممية في سوريا بها مفاجئًا وخارجًا عن
سياق الحراك الدولي والإقليمي الذي لمْ يعدْ يَرى في القضية السورية سوى محاربة
"الإرهاب" ولا يطرح أيَّ حلٍ خارج إطاره، باستثناء المطالبة بوقف إطلاق
النار لصالح تلك الحرب الكونية بدءًا من سوريا، وبالتالي ما يُصرح به دي ميستورا
بوصفه مبعوثًا للأمم المتحدة للمساعدة في حل القضية السورية يعكسُ توجهات هذه المنظمة
ودورها الوظيفي في أجندةِ تلك الدول التي تتحكمُ بها وعجزها عن القيام بأيِّ دورٍ
خارجَ ذلك النطاق الوظيفي الذي أنيط بها.
فأن يُرجع دي ميستورا سببَ تدمير حلب إلى "الإرهاب" من خلال وجود
(900) مقاتل من
جبهة فتح الشام بها فقط من أصل (8000) مقاتل على حدِّ زعمه بعدما اعتبر في وقتٍ سابقٍ أنَّ نصفَ
المقاتلين في حلب من الجبهة، لا يمكن حمله على أنه يسعى لحلٍّ سياسيٍّ للقضية
السورية أو يساعد فيه بقدر أنه يعمل على تعقيدِ الصراع من خلال طرحٍ مقصودٍ لذاته
لأنه يعلم مُسبقًا بصعوبةِ تطبيقه ويدرك يقينًا أنَّ القتالَ داخل مدينة حلب
المحاصرة لا يأتي تحت مسميات فصائلية وإنما تحت سياق دفاع أبناء المدينة عن
مدينتهم والحيلولة دون سقوطها بيد مليشياتٍ طائفيةٍ وأنَّ أيَّ تخلٍّ عن ذلك هو
خيانةٌ عظمى ليس للمدينة فقط وأبنائها وإنما للثورة كلها وهدية للروس والنِّظَام
وإيران تساعدهم على الخروج من مأزقِ عنقِ الزجاجة الذي ارتبط بالحسم الجغرافي
بمدينة حلب ولن يكونَ ذلك إلَّا عن طريقِ تدمير حلب كليًّا وإجبار أهلها على
النزوح منها خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ بحسب زعم دي ميستورا إذا لم تنسحب (900) من جبهة
فتح الشام منها!.
إنَّ تبسيطَ دي ميستورا لمبادرته بحلب لا يخلو من مكرٍ
فهلْ يُعقل وفقًا لطرحه أن تُدمر مدينة حلب ويُعاقب فيها ما يزيد عن (250) ألف نسمة
بسبب هذا الرقم البسيط من المقاتلين مقابلَ أنَّ مَن يَتبقَّى من المقاتلين من
الفصائل الأخرى كافٍ للدفاع عن حلب ويجنبها الحصار والدمار التدمير ويحقق شرط فرض
وقف إطلاق النار فيها وإدخال المساعدات إليها. وكأنَّ دي ميستورا أراد بذلك الطرح
اللين الذي يحمل تهديدًا مبطن غير مباشر من خلال ما ينتظر المدينة من استمرار
الخطة الروسية الذي ضربتْ عرض الحائط تعليق الأمريكي للمحادثات معها حول سوريا
وردَّتْ على التهديدات العسكرية الأمريكية بخياراتٍ عمليةٍ من خلال الاستعداد لذلك
الاحتمال، كما أراد دي ميستورا توجيه المدنيين والفصائل الموجودة داخل المدينة نحو
خطة توقع الصدام من جهة وتؤدي في المحصلة إلى تجميد الصراع من خلال العودة إلى
فكرته القديمة التي لمْ تكنْ مدعومةً وقتها بالتدخل العسكري الروسي التي وجدت
روسيا اليوم فيما طرحه دي ميستورا مقبولًا ومنسجمًا مع الخطة الروسية ومستندا
أمميًّا يمكن التمسك به لتبرير التصعيد بحلب وإن كان الرقمُ الذي زعمه دي ميستورا
أقل بكثير مما زعمته روسيا منذ بداية حملتها العسكرية تجاه مدينة حلب في شهر نيسان
الماضي الذي توقفت فيه على إثرها محادثات جنيف واعتبرت أن غالبية المقاتلين بحلب
هم من جبهةِ فتح الشام ويريدون الاستيلاء عليها ومن خلال ذلك بررت حصار المدينة
وعدم السماح بإيصال المساعدات الإنسانية إليها بناء على الاتفاق الذي توصلت إليه مع
أمريكا ولتحصل من خلاله على شراكة عسكرية معها تحقق من خلالها أهم أهدافها
الاستراتيجية من تدخلها العسكري في سوريا.
إنَّ المتابعَ لمجريات الأحداث الميدانية والحراك
السياسي الدولي والإقليمي يجد أن القضية السورية لا توشك أن تخرج من مرحلة حتى
تدخل بمرحلة أخرى مختلفة تمامًا عن سابقتها وإن كانَ الطابعُ العسكري هو الشيء
الوحيد الذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى لكن بشكل معقد فرضته تعقيداتُ التداخلات
الدولية والإقليمية والمحلية التي تتصارع على المنطقة في سوريا وبالتالي بات يصعب
تخيل ما ستنتهي إليه كلُّ مرحلة التي غاب عن جميعها إلى غاية الآن بشكل مقصود أيُّ
تصوُّرٍ لأيِّ حلٍّ سياسي عند جميع الأطراف لا سيما الدولية منها التي ما زالت تجد
مصالحها محكومة باستدامة الصراع في سوريا تحت مسميات وتبريرات متعددة ومختلفة وليس
بانتهائه في القريب العاجل!!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات