التدخلُ الخارجيُّ الذي أفسدَ
الثورةَ!!.
عرفتِ القضيةُ السورية منذ انطلاقتها تداخلاتِ أطرافٍ
دولية وإقليمية ومحلية متعددةٍ ومتنوعةٍ وعلى مستوياتٍ مختلفةٍ ومراحلَ متدرجةٍ،
وقد جمعتِ الساحةُ السورية تلك الأطراف على كثرتها واختلافاتها البينية والمصلحية
والأيديولوجية والعقدية والعرقية والمذهبية وجهًا لوجهٍ في لعبةٍ أقلُّ ما يُقالُ
فيها أنها لعبةٌ قذرةٌ غير نظيفة في كلِّ أبعادها لاسيما بعدما تمكنتْ هذه اللعبة
المتعددة الأطراف من مفاصل الثورة وعرقلتْ تحقيقَ أهدافها العادلة والمحقة
وأدخلتها بدهاءِ السياسيةِ ومكرها وأساليبها في هذه اللعبة من دون خبرة منها أو
تصور سابق لنتائجها.
لقد كان للنِّظَام ومَن معه دورٌ ومصلحةٌ كبيرة في تلك
التّداخُلات والتّدخُّلات منذ البداية حيث كان مُدركًا أنه في المعادلة
"الطرفية" سيكون خاسرًا بسرعة وأنَّ المراهنةَ على عامل الوقت لابدَّ
لها من معادلةٍ متعددةِ الأطراف تستطيع أن تُخرج الثورةَ من مفهومها الثوري إلى
مفهومِ الصراع والأزمة بمفهومها المحلي الإقليمي والدولي بشكلٍ تختلطُ فيها
الأوراقُ على النحو الذي يُفقدُ الثورةَ بوصلتَها الصحيحةَ ويضربُ حاضنتها بشكلٍ
مباشر وبخاصة عندما تجدُ هذه الحاضنةُ نفسَها أنها قد أصبحتِ الخاسرَ الكبيرَ في
أتون صراع لمْ تعدْ تَجدُ فيه معيارًا واضحًا للتضحية كالذي وجدته في الأيام
الأولى للثورة التي رسمتْ بحركتها على الأرض وشعاراتها معالِمَ الخلاص بإسقاط
النِّظَام الذي بدا إليها وكأنه قريبٌ عندما انكشفَ ضعفُه وتهالكتْ قواه وتضافرتْ
جهودُ قوى الثورة على بساطتها في غالبية الجغرافية السورية وتفاهمتْ من دون تنسيقٍ
منظمٍ أو مشاريع اندماج أو دعوات إلى التوحد التي كان في غالبيتها فيما بعد كلمةُ
حقٍ أُريدَ بها باطل من أجل إمساك الساحة الثورية من أجل إبعادها عن الهدف والتحكم
ليس بمصيرها فحسب وإنما بمصير الشعب السوري والمنطقة، وأن تلك الدعوات قدَّمتْ
خدماتٍ مجانيةً للنِّظَام من خلال تصاعد الحملات المطالبة بعمليات التصنيف المستمر
للقوى التي تعمل في الساحة السورية التي أخذت تتكتلُ ويَكبُرُ حجمُها وقوتها وتفرز
نفسها بنفسها ليس بما يتلاءم أهداف الثورة الجامعة وإنما بما يخدم أهداف خاصة بها
تنحصر ضمن التنظيم الواحد الذي يميزه في الساحة السورية عن غيره. وهذا الأمر ساعد
بتنفيذِ استراتيجياتِ تلكَ الدول المتدخلة وتقاطعت في نقاط على الرغم في الاختلاف
والصراع فيما بينها والتقتْ في جزءٍ من ذلك مع مزاعم النِّظَام وحلفائه بما يتعلق
بما يجري في سوريا ليس إلا عملًا إرهابيًّا تقوم به "منظمات إرهابية" -
كتنظيم الدولة - وقد حرصتِ الدولُ المتدخلةُ على المساعدة في إيجادها وفرزها
وتصنيفها وإعلان الحرب عليها.
إن التدخلَ الخارجي لاسيما في الساحة الثورية قد أدَّى
إلى تعطيلِ التفاعل الثوري الوجداني عن طريقِ التسيس تارة والأيديولوجية تارة أخرى
ومن ثم تمكَّنَ من الإجهاض على هذا التفاعل عن طريقِ غرفةِ "الدعم"
الخارجية التي هي تابعة لدول بأجهزتها الاستخباراتية والأمنية والعسكرية والسياسية
تخدم مصالح دولها وليستْ منظمات خيرية وعلى رأس أولوياتها الشعب السوري، فقد تمَّ
العملُ أولا وبشكلٍ ممنهجٍ على إفراغِ الثورة من جوهرها الثوري عن طريقِ تعطيلِ
وإضعافِ تفاعلها الشعبي الذي تصاعدَ وتنامى في بداية الثورة بشكلٍ كبيرٍ على كل
الجغرافية السورية مِن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الغرب إلى أقصى
الشرق.
إن المتابعَ لمجريات ومراحل القضية السورية يدرك حجمَ
التَّبدُّلِ والتَّغيّيرِ السلبي الذي أُوْصِلت إليه عن قصدٍ بناءً على قواعد
اللعبة الدولية والإقليمية ومتطلباتها وكيف أصبحت جغرافيا سورية مقسمة بحكم الأمر
الواقع ومنفصلة في ترتيبات أوضاعها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وقد لا يكون هذا
الانفصالُ غريبًا بين المناطق المحررة والمناطق التي ما زالتْ تحت سيطرة النِّظَام
وحلفائه على اعتبار أنَّ هذا التقسيم ينسجمُ إلى حدٍّ ما مع وصلتْ إليه نتائجُ
مجريات الأحداث، ولكن الغريب أن تصلَ المناطقُ المحررة إلى ذلك بحيث أصبحتْ
ترتيباتُ الجنوب السوري مختلفةً عما يجري في الشمال وبعيدةً عن مجريات أحداثه
وأحداث المناطق الأخرى، وأنَّ ترتيباتِ المناطق التي يُعادُ السيطرةُ عليها من تنظيم الدولة تنفصلُ
عن الثورة تمامًا في المنطقة الواحدة كما كانت أثناء سيطرة التنظيم عليها، مما
يعني أن القوى الخارجية ما زالت تعملُ على تفريغ الثورة ممَّا تَبقَّى من مضمونها
وجوهرها من خلالِ توظيفِ بعضِ قواها العسكرية ضمنَ أجندةِ استراتيجياتها كما وما
زالت تساومُ على البعض الآخر كورقة وكأنها تمتلكُ القدرةَ على التحكم بها في ميدان
المواجهة والمساومة فيما بينها، وأنها باتتْ تُراهنُ على أنَّ الحلَّ السياسي
والعسكري أصبح بيدها ولكن لا يعدو أن يكون ذلك إلا جزءًا من مفردات هذا التدخل
وخدعةً على حساب القضية السورية الذي لنْ يكونَ قريبَ المنال لأنَّ تلك الطراف لمْ
تستكملْ أهدافَها بَعدُ ولمْ يستوفِ كلُّ طرفٍ منها حصَّتَه بالكامل التي تدخل من
أجلها!.
إذًا مِن السذاجةِ المراهنةُ على حدَّةِ الاختلافات بين
الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة وموقفها من القضية السورية لأن تلك
الاختلافات التي لها أسبابها التي لا تتعلق بالقضية السورية بالأصل وأن تلك
المواقف المتباينة ظاهريًّا لمْ تتغيرْ أو تتبدلْ منذ أنِ التَقتْ في الساحة
السورية ولكن الثابت أن أثرها كان سلبيًّا على الثورة في كل المراحل التي مرت بها
القضية السورية وكان المستفيدَ الوحيدَ منها النِّظَامُ ومَن معه.
ولكن يبقى السؤال: هل يمكنُ أنْ تعودَ الثورةُ إلى
مسارها الصحيح الذي بدأت به من دون أن تكون هناك صدمة كبرى كإسقاط حلب مثلًا،
ولهذا تحرص روسيا ومَن معها على سقوطها مِن الداخل بعد استحكام حصارها عن طريق التهديد
باستخدام القوة واستعراضها بدلًا من إسقاطها وهي ما زالت تساوم على الخيار الأول
دون الثاني لاختلاف تداعياتهما على مسار الأحداث كلها؟!!.
الدكتور جَبْر
الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات