القضيّة السّوريّة ومُبادرات استدامة الصّراع
العسكريّ!!.
إنَّ المتابعَ لمجريات القضية السورية ومراحِلِها يجد
أنها كلَّما دخلتْ في مرحلةٍ من التصعيد العسكري يتكاثف معها الحراكُ السياسي
الدولي والإقليمي والأممي ولكن بدلًا مِن أنْ يُؤدي هذا الحراكُ إلى حلحلةٍ ما على
الأقل في أحدِ ملفاتها الإنسانية نجده يُدخل القضيةَ السورية بكليتها في مزيدٍ من
التعقيد عن طريقِ مبادراتٍ إذا لم تُصفْ بأنها مستحيلةُ التطبيق فهي صعبةٌ لعدم
وجود أية أرضية مشتركة قادرة على جمع كافة أطرافِ الصراع حولها. لذا لمْ تستطعْ
أيُّ مبادرة قُدمت خلال السنوات التي مضتْ من عمرِ الثورة السورية أنْ تصلَ إلى
مقاربةٍ للحلِّ بل كانت نتائجها أو تداعياتها على الأرض مباشرة. وكأنَّ المرادَ من
هذه المبادرات أن تكون فقط محطات تَنقُلُ القضيةَ السورية من مرحلةٍ إلى مرحلة
أخرى تتناسبُ مع تدخل اللاعبين الجدد إليها وتشعب قضايا صرعاتهم ومصالحهم على
حسابها زمانيًّا ومكانيًّا.
لقد كان هناك كذبٌ مِن قِبل كلِّ الأطراف من دون استثناء
بما فيها المحلية أيضا في طرحِ أي أفكار أو مبادرات للحل قابلة للتنفيذ أو فيها
إمكانية التطبيق إلا في سياق قابليتها لتفجير واستدامة الصراعات وزيادة تشعباتها
بشكل يَصعب فيها العودةُ إلى جوهر القضية السورية وبخاصة بعد التدخل الخارجي
الدولي والإقليمي فيها والحول دون الحسم العسكري لأي طرفٍ لاسيما القوى الثورية
التي أوشكت في عامها الأول أنْ تصلَ إلى ذلك، وباتَ الحسمُ الجغرافي بعد تلك
المرحلة لصالح هذا الطرف أو ذاك تتحكم فيه تلك الأجنداتُ الخارجية وتتلاعبُ فيه
وَفق استراتيجياتها المتصارعة والمتنافسة في المنطقة.
إنَّ تلك المبادراتِ على تنوعها الدولي والإقليمي
والأممي والمحلي الذي ارتبط بتلك الأجندات الخارجية أو الأيديولوجية بدلًا من طرح
حل عادل وجاد للقضية السورية بعد التوافق الدولي على عدمِ الحسم العسكري استطاعتْ
أنْ تُحوِّلَ مسارَ الثورة عن الهدف الذي قامتْ لأجله وإدخالها في أتون صراعاتِ
تلك الدول التي لمْ تأتْ مبادراتُها للحل إلَّا بمزيدٍ من التعقيد من أجل إدخالها
في مرحلةٍ أكثر تصعيدًا وأشد خطرًا ودموية
من سابقاتها ومنذرة باستدامة الصراع إلى أجلٍ غير منظور لاسيما عندما تمَّ ربطه
بشكلٍ وثيقٍ بحلقاتِ الصراعات المتعددة والمتنوعة بين هذه الدول في أماكنَ مختلفةٍ
داخل الجغرافيا السورية وخارجها كأوكرانيا وشبه جزيرة البلطيق والموصل في العراق
بالإضافة لتعددِ أهدافِ هذه الدول من هذه الصراعات التي في مُجملها هي بعيدةٌ عن
جوهر القضية السورية التي اتخذوا منها مرتكز انطلاق لعملية تغيير كبرى في المنطقة
لا تقلُّ عن عملية التغيير التي أحدثها اتفاقُ سايكس بيكو لكن مع الفارق الكبير في
آليَّةِ وأسلوب التقسيم وأطرافه ونتائج التقاسم والتقسيم التي تتعدى هذه المنطقةَ
من الشرق الأوسط إلى دول أخرى التي باتت ربَّما على قناعةٍ أنها إذا ما توقفتْ
مجرياتُ الأحداث في سوريا ليس نتيجةَ حلٍّ بناءً على مبادرةٍ مَا وإنما لأنَّ
مقوماتِ استدامة الصراع قد استنفذتْ مِن قِبلِ كُلِّ الأطراف فيها وعندها سوف
تنتقلُ إليها ولهذا اللعبُ على عاملِ الوقت هو الخيارُ الوحيدُ لديها الآن في
انتظار ما هو قادمٌ من تغييرٍ جيوسياسي ديموغرافي واقتصادي ... قد لا تستطيعُ
دفعَه عنها ولكن تحاول تأخيره قدر الإمكان في سوريا في العراق بطريقة ما !!.
إذًا ليس من الصعبِ فهم المبادرات التي طرحت بزعمِ حلِّ
القضية السورية التي ما زالتْ تتصاعدُ فيها الأحداثُ يومًا بعد يومٍ ويتعقدُ
المشهدُ فيها ليصلَ إلى درجةٍ أقل ما يُقالُ فيه أنه لا يحمل رؤية لأي حل بقدر ما
يحمل نذر استدامة للصراع العسكري لدى كافة الأطراف لاسيما التي تدخلت بشكل مباشر
في الساحة السورية ولمْ يَعدْ بإمكان أي منها الخروج من هذا المستنقع الذي وجدتْ
فيه خيارًا وحيدًا في الاستمرار فيه مهما كانت النتائج التي يصعب حسمها ربحًا أو
خسارة لأيِّ طرفٍ كان والتي لابد من المشاركة فيها حتى مرحلة النهايات مهما كانت
مجهولة أو على الأقل قاسية ومكلفة من جميع النواحي المادية والمعنوية.
فمبادرة دي ميستورا وإن وكانت آخر هذه المبادرات ولنْ
تكونَ الأخيرة وقد سبقها أفكارٌ متنوعةٌ ومبادراتٌ وطروحاتٌ متعددةٌ بدءًا من
جنيف1 إلى جنيف3 ومن فيينا 2 وفيينا 2 بالإضافة إلى الاتفاق الأمريكي الروسي وكذلك
المبادراتُ التي تقدمت بها القوى الثورية السياسية والعسكرية لمْ تختلفْ عنها من
حيث الجوهر بنتائجها التي تؤدي بشكل أو آخر إلى استدامة الصراع لأنه هو مازال
المطلوب دوليًّا وإقليميًّا وكذلك أصبح محليًّا بالنسبة إلى الأطراف التي باتت
أدواتٍ ضمن تلك الأجندة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر وبإرادة منها أو أصبحت وَفق
مجرياتِ الأحداث من دون أن تدري تسير معه بعدما تلاشتِ الرؤيةُ الواضحةُ
والإمكانية والخيار في التحكم بذلك رويدًا رويدًا
بعدما فقدتْ خيارَ الحسم العسكري الذي ترتبطُ بنتيجته عادةً الثوراتُ فتكون
إما ثورةً منتصرة فتفرض خياراتها أو ثورة مهزومة فتقبل بخيارات الهزيمة!.
فإذا كانتِ المبادراتُ ليست إلَّا مبادراتٍ لاستدامة
الصراع ضمن أشكالٍ متعددةٍ ومحطات لفرض واقعٍ عسكريٍّ لكل مرحلةٍ فعلينا أن ندركَ
أنَّ تلك المبادرات تؤسس لمشروع سياسي نهائي في وسوريا والمنطقة كلها عنوانه
"التقسيم هو الحل" الذي سيفرض على الجميع واقعًا جديدًا عنوانه أًيضا
"استدامة الصراع" وَفق قواعدَ وأسسٍ جديدةٍ وأن كل الأطراف تؤسس الآن من
خلال مشاركتها العملية لدورها المستقبلي فيه!!!..
الدكتور جَبْر الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات