مدينةُ حلبَ مَا بعدَ الهدنةِ الرُّوسيَّةِ!!...
إنَّ اجتماعَ "لوزان" الماضي ومِن خلالِ
الشكلِ الذي جاء فيه والمضمونِ الذي نتَجَ عنه رسَخَ التَّوافقُ الضمنيُّ بين
الذين اجتمعوا هناك وأنْ لا حلَّ يلوحُ بالأفقِ للقضية السورية، وأنَّ هذا
التوافقَ وإنْ كانَ لا يُؤدِّي إلى سقوطها على الرغم مِن المراهنةِ على عاملِ
الزمن في إنهاكها وتفجرِ الخلافاتِ الداخلية فيها، لاسيَّما بعدَ مُضيِّ قرابةِ
السِّتِّ سنواتٍ مِن عُمرها، إلَّا أنَّ لِهذا التوافقِ دورًا كبيرًا بإسقاطها من
الخارج بشكلٍ مباشرٍ وغيرِ مباشر بحسب سلَّمِ الأولوياتِ التي يتمُّ التعاملُ معها
مِن قِبلِ كلِّ طرفٍ. وقد ثبتَ ذلك من طريقةِ اختزالِ الثورة السورية بما وصلتْ
إليه مجرياتُ الأحداثِ عسكريًّا وسياسيًّا بحلبَ التي كانتْ عند البعضِ على رأسِ
سلَّمِ أولوياته واعتبرها معركَتَه الكبرى كروسيا وحِلْفِها، وعند البعض الآخر هي
عبارةٌ عن ورقةٍ مهمَّةٍ من الأوراق التي يلعبُ فيها مع روسيا كأمريكا، وعند
الآخرين الذي لا خيارَ لهم في لُعبةِ الكبارِ سوى الاستثمار في هذا الوقتِ في
الحديقةِ الخلفيَّةِ لساحةِ الصراع لتحقيقِ بعض المكاسب على حساب الجميع، ولكن
جميع هذه الأطراف أثبتَ حراكَها السياسي والعسكري الأخير الذي كَشَفَ أنَّها
تَعملُ على إسقاطِ مدينةِ حلب بالفعل، أو باللعب، أو بالاستثمار عن قصدٍ أو بدونه،
وأنَّ لكلٍّ منها دورًا في ذلك لمْ يعدْ خَافيًا على أحدٍ!.
فاجتماعُ لوزان وما جَاء قَبلَه وبعدَه قدْ لخَّصَ
حقيقةَ مَا يَجرى مِن حراكٍ سياسيٍّ دوليٍّ وإقليميٍّ حول القضية السورية بدءًا من
مدينةِ حلب الذي لمْ يكنْ – ولن يكون - مُفاجئًا بنتائجه السلبية تجاه مدينة حلب،
لأنَّ سياقَ هذا الحراك لمْ يكنْ في جوهره مُنصبًّا على إيجاد خطواتٍ عمليةٍ
إيجابيةٍ بهذا الاتجاه، بقدر ما كان حراكًا يدفعُ بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة
بمجريات الأحداث الميدانية نحو الأمام وجعل غالبية الأطرافِ تَسيرُ في اتجاهٍ
واحدٍ نحو معركةِ النهايات – كما يُسميها البعضُ- بكل ما تحملُ من توقعاتٍ
وسيناريوهاتٍ بحسب الاستراتيجيات الدولية والإقليمية المتصارعة في الساحة السورية
التي جعلتْ مِن معركةِ حلب معيارًا لتحدي الإرادات فيما بينها ولا تحمل في جوهرها
لسكان المدينة المحاصرة سوى مزيدٍ من التدمير والقتل للمدنيين الذي لمْ يتوقفْ
بالأصل منذُ التدخل العسكري الروسي والذي تركَّزَ على مدينة حلب منذ شهر نيسان
الماضي بهدفِ إعادةِ احتلالِ المدينة من جديدٍ تحتَ مزاعم أنَّ "جبهة فتح
الشام" -النصرة سابقًا - هي القوة العسكرية الضاربة داخل المدينة التي تُريدُ
أنْ "تُسيطرَ" على المدينة التي تجتمع فيها غالبيةُ القوى الثورية ثم
اكتشف دي ميستورا بطريقة إحصائية غريبة وملتبسة أنَّ عددَ مقاتليها (900) ثم
ليتراجعَ عن ذلك ويقول: ربَّما هم أقلُّ من ذلك ولكن ليستِ الأهميةُ للعدد بقدر ما
هي للفكرة التي تتطلبُ خروجَ الجبهة من حلب لتجنب المدينة التهديدات الروسية التي
تنذر "بغروزني" جديدة في سوريا. الأمر الذي لا يعني مع صعوبة تنفيذ
الفكرة التي بَسَّطها دي ميستورا كثيرًا ولاقَتْ توافقًا عليها في لوزان، وشُكِّلت
من أجلها اللجانُ لمتابعة ذلك في جنيف إلّا المضي بالعمل على إسقاط حلب كنتيجة،
وإن تعددت أهداف الأطراف من ذلك وتباعدت، لكنهم ربما باتوا يرون ذلك بوابة للحل كل
بحسب تكتيكات استراتيجيته للمرحلة القادمة!!.
فالاتصالاتُ والاجتماعات واللقاءات الأممية والدولية
والإقليمية التي تتمحورُ حول مدينة حلبَ ظهرتْ وكأنها تقفُ عاجزةً عن تقديمِ أيِّ
شيءٍ عمليٍّ لها وأنَّ الخيارَ الوحيد يرجعُ إلى مَن بَقي فيها مِن المدنيين
والعسكريين مِن أبنائها الذين لا يستطيعُ أحدٌ الرهانَ على خيارهم الوحيد الذي
اتخذوه في البَقاءِ والدفاع عن مدينتهم وأنَّ المسؤوليةَ تقعُ على عاتقهم وحدهم،
في مواجهةِ الحلف الدولي الإقليمي المحلي الذي تقوده روسيا التي ما فتأتْ تستعرضُ
عضلاتِها العسكريةَ وتستقدمُ منه ما تُفاخر به على أنه سيكونُ رداعًا لمن يُفكر أن
يَحُول بينها وبين تطبيق استراتيجيتها العسكرية على طريقة "غروزني"
وإلّا فلتكن "حربًا عالمية ثالثة" التي تعلم يقينًا أنه ليس هناك من
أحدٍ من الأطراف الدولية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية على استعدادٍ لتلك
الخطوة المدمرة عالميًّا، وإن كان في خياراتها ربما المستقبلية في عهد الرئاسة
القادمة الأمريكية العملُ العسكري ضد النِّظَام في سوريا.
إنَّ روسيا تُريدُ من خلالِ هذه الخطواتِ الاستباقية
التصعيدية الاستعراضية للقوة العسكرية والإعلان أنَّ سوريا أمام خيارين: إمَّا
"الأسد" أو "القاعدة" قطع الطريق على الخيار الأمريكي بفرضِ
الأمر الواقع الذي تعملُ عليه روسيا في حلب، وكذلك التدخل بالانتخابات الأمريكية
والتشويش عليها لتحقيقِ الهدف نفسه. بمعنى أنَّ تلك الخطوة التصعيدية التي تريدُ
أنْ تستكملَ تطبيقَ استراتيجيتها الاحتلالية في سوريا من جهةٍ وتحاول أنْ تبعدَ عن
طريقها أيَّ اعتراضٍ أمريكي مستقبلي من خلال استباقِ أيِّ خيارٍ عسكري أمريكي،
وذلك عن طريقِ التدخل غير المباشر في الانتخابات الأمريكية وتحديدًا باتجاه
المرشحة "هيلاري كلنتون" والتأكيد على أنَّ الاستراتيجيةَ الأمريكية
التي تدَّعِي أنها تُحاربُ "الإرهاب" هي التي تَدعمُ هذا
"الإرهاب" نفسه في سوريا الذي تحاربه روسيا، ولا خيار في سوريا إلا
"الأسد" الذي تدعمه أو "الإرهاب" الذي تدعمه أمريكا إذا ما
اختارتِ الخيارَ العسكري ضدَّ النِّظَام، وعلى الأطرافِ الدولية والإقليمية والأممية
المعنية بالقضية السورية أن تختار بين ذلك وتخضع للمنطق الروسي الذي جاءت مبادرة
دي مستورا تدعمه في حلب!.
فالهدنةُ الروسيةُ التي أَعلنتْ عنها من جانبٍ واحدٍ وإن
كانت مناورةً عسكرية قبل أن تكون مناورةً سياسيةً قد انتهت من دون أنْ تَلقى صدىً
دَوليًّا أو إقليميًّا أو محليًّا على النحو الذي تٌريده موسكو إلا أنها وضعتْ
كافَّةَ الأطراف أمام الخطوة الإجبارية التالية في "معركة النهايات"
التي يُراد منها أن تكون كذلك، ولكن على الأغلبِ لنْ تكونَ إلا مرحلةَ تغيرٍ كبرى
في مسارِ الثورة السورية لا سيما في الجانب العسكري والسياسي بالنسبة إلى القوى
الثورية مجتمعة لاسيما بعدما وضعت هذه
القوى على تعددها الفصائلي والأيديولوجي في ساحةِ انصهارٍ واحدةٍ وخيارٍ
واحدٍ سواء مَن كانَ داخلَ المدينة أو خارجها وأنَّ هذا الخيار يتوقف عليه
استمرارُ الثورة كلها بروحٍ جديدةٍ واستراتيجية ثورية واحدة وتكتيكات ستجد نفسها
خلفَ خطوط النِّظَام ومن معه، لتنطلق بالعمل خارج قيود الجغرافيا المحررة متناسبة
مع طبيعة المرحلة القادمة بكل تفاصيلها.
الدكتور جَبْر الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات