الاستراتيجيّاتُ التي تَتحكّمُ بالقضيّةِ
السّوريّة
الاستراتيجيّة الأمريكيّة ثانيًا!!..
إنَّ التَّدخُّلَ الدَّوليَّ والإقليميَّ في القضيَّةِ السوريَّةِ والصراعَ
على سوريا والمنطقةِ مِن خلالِ سوريا يَنطلقُ مِن استراتيجياتٍ خَطّطتْ لها تلك
الدُّولُ صغيرُها وكبيرُها، عالمية كانت أم إقليمية، ودخلتْ على أساسها هذه الساحة
سواء عن طريقِ الاختيار أو الإجبار إذْ لا فرقَ في ذلك كثيرًا طالما أنَّ العلاقةَ
بين هذه الدول التي تحْكمُها المصالحُ التقتْ في هذه الدولَةِ ووجدَتِ الفرصةَ
لتحقيقها ولا خيارَ لَها في التَّنازلِ عنها بغضِّ النَّظرِ عن جوهرِ القضيةِ التي
تَذَرَّعُوا الدُّخولَ بسببها من دونِ مراعاةٍ لمعاناةِ أهلها.
إذًا، إنَّ منطقَ الصراعِ يفترضُ وجودَ استراتيجياتٍ من قِبلِ هذه الدول،
وأنَّ هذه الاستراتيجيات باتتْ تَتحكَّمُ بالقضية السورية، وتفرض ثقلها وتداعياتها
عليها، ومِن خلالها سيتحدَّدُ مصيرُها، الذي لا يمكنُ أنْ ينفصلَ عنها بأيِّ حالٍ
من الأحوال. وإذا كان الأمر كذلك فإنه يقتضي أنَّ كلَّ دولةٍ على علمٍ وإدراكٍ
بالاستراتيجيات المقابلة لها ولا يُفترض الجهالة بذلك إلَّا بالقدرِ الذي يُتقنُه
كلُّ طرفٍ من تكتيكاتٍ خاصَّةٍ باستراتيجيته. لهذا لا نُضيفُ معلومةً جديدةً إذا
قلنا إنَّ الحربَ الباردة منها والساخنةَ بين هذه الدول هي حربٌ مكشوفةٌ عند كل
الأطراف، لاسيما الولاياتُ المتحدة الأمريكية وروسيا اللتان مهما بلغَتَا مِن
التَّفاهم والاتفاقات لا يُمكن أنْ يَخرُجَا عن دائرةِ الاختلاف البَيني بينهما عن
إطارِ ضبطِ قواعدِ اللعب التي تَحكمُ هذا الاختلافَ وهذا الصراعَ الذي كاد أنْ
يصلَ في الساحة السورية إلى الصدام المباشر، وكثرتِ احتماليَّةُ ذلك بعد تعليقِ
المحادثات وفشل الاتفاق الذي توصَّلا إليه في التاسع من أيلول الماضي حول سوريا.
فالاختلافُ والصراعُ هو الأصلُ في العلاقاتِ الروسيةِ الأمريكية
والاستثناءُ عن ذلك هو تكتيكٌ يَخدمُ الأصلَ بأساليبَ وطرقٍ مختلفةٍ تُناسبَ
المرحلة زمانيًّا ومكانيًّا، وإنَّ الأزمةَ الحاليةَ بينهما ليستْ وليدة القضية
السورية كما صرَّحَ بذلك "بوتين" بعد قمَّةِ "لوزان" وإن
كانتْ مرحلةً من مراحلها المتأخرةِ التي سلَّطتِ الضوءَ على عمقِ هذا الاختلاف
وشراسته وخطورته التي باتتْ تُنذرُ بمقدِّماتٍ عن حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ.
فروسيا تعلَمُ أنَّ الاستراتيجيةَ الأمريكيةَ معها في سوريا لنْ تتغيَّرَ
عمَّا كانتْ عنه بأفغانستان سواء عن طريق الفصائل المعتدلة أو غير المعتدلة، وكذلك
تُدركُ أمريكا أنَّ الاستراتيجيةَ الروسيةَ في سوريا لنْ تتجاوزَ استراتيجيَّتَها
في الشيشان وفي عاصمتها غروزني تحديدًا وستعامل الأطراف الدولية والإقليمية على أن
تدخلها غير مشروع في سوريا وإليها يعودُ قرارُ السلمِ والحرب فيها، وبخاصةٍ أنَّ
مهندسَ تلك الاستراتيجية هو بوتين نفسُه ولهذا لنْ يعنيه كثيرًا التمييزُ أو
الفصلُ بين الفصائل العسكرية طالما أنها كلها تُواجهُ النِّظَام الذي تَدخلُ إلى
جانبه، وأنَّ مَن يَعنيه ذلك الفصل عليه أنْ يقوم به. ولهذا لا يفتأ الطرفان عن
التصريح وتذكير الآخر بأنه عالمٌ بخطته، فروسيا تقول: إن أمريكا لمْ تغيرْ دورَها
في تعاملها معنَا في سوريا عن أسلوبها في أفغانستان من خلالِ دعمِها الفصائل
المقاتلة وتشكك على الدوام في جدية أمريكا في قضيةِ التصنيف والفصل فيما بين
الفصائل العسكرية بين معتدلين ومتطرفين. بينما أمريكا أكَّدتْ وعلى لسان وزير
خارجيتها جون كيري في ختامِ اللقاء الأخير في لندن الذي أعقبَ لقاء لوزان الفاشل
بأنَّ تدميرَ روسيا حلبَ في شكلٍ كاملٍ، على طريقة غروزني، لن يُنهيَ الحربَ السورية.
لكن إذا كانتِ استراتيجيةُ روسيا في
الشيشان لن تُنْهي الحربَ في سوريا كمَا قالَ كيري فإنَّ روسيا تَرى أنَّ
استراتيجيةَ أمريكا معها في سوريا وَفقَ أفغانستان كذلك لن تُنْهي الحربَ أيضًا.
وبطبيعةِ الحال المَقصودُ هنا انتهاءُ الحرب التي ستؤدي بطريقةٍ مَا إلى صِدامِهما
المباشرِ. ولعلَّ الاتفاقَ الثنائي بينهما تَمَحْوَرَ حول ذلك ولمْ يكنْ أكثر من
"لعبة الموت بينهما" بأن يتنازلَ كلٌّ منهما عن جوهرِ استراتيجيته تجاه
الآخر خطوةً مقابلَ خطوةٍ، الأمر الذي لمْ يكنْ أيُّ طرفٍ على الاستعداد للوصول
إليه في النهاية، فأدَّى إلى فشله سريعًا، وكانَ تعليقُ المحادثات من قبل أمريكا
أولًا مقصودًا لذاته من دون النظرِ إلى الأسباب التي تذرَّعت بها، وذلك لتعزيزِ
استراتيجية "الأفغنة" والتمكن من الإمساك بخيوطها والتجييش لها من خلال
دفع بروسيا إلى ردَّةِ فعلٍ عنيفةٍ متوقعة نحو التمترس باستراتيجية "الشيشنة"
كطريقٍ وحيدٍ مع إدراكها الدقيق أنَّ الفخَّ الأمريكي أوقعَها في المستنقع السوري
الذي لطالما تجنَّبته طيلةَ السنوات الماضية من القضية السورية خشيةَ تكرارِ
السيناريو الأفغاني مع الفارقِ الكبيرِ في الحال الذي كانَ عليه الاتِّحادُ
السوفيتي كدولةٍ عالميَّةٍ قطبيةٍ وروسيا اليوم كدولةٍ إقليميَّةٍ تُعاني مشكلات
وأخطار وجودية تُهدِّدُ مستقبلها وتجعلها بالإضافة إلى ذلك ومن خلال تدخلها
العسكري في سوريا إلى جانب النِّظَام من جهةٍ والمليشيات الطائفية المتعددة
الجنسيات من جهةٍ أخرى بالإضافة وإلى جانب إيران كشريكٍ استراتيجي معها في الحرب
ببُعدِها القومي الصفوي والطائفي الشيعي في مواجهةٍ إسلاميةٍ سنيةٍ وعربيةٍ
وإنسانيةٍ تَوَلَّى الأوروبيون رفْعَ لوائها بشكلٍ احترافيٍّ وبالأخصِّ فرنسا
وبريطانيا، هذا المواجهةُ لنْ تَنتهيَ آثارُها عند توقُّفِ الحرب بسوريا وتدمير
حلب على طريقة غروزني لأنَّ حلب المدمرةَ على يدِ روسيا ومَن مَعها لن تكونَ
غروزني التي طواها ملفُّ النسيانِ الأممي على اعتبار أنها شأنٌ داخليٌّ روسيُّ
وإنْ كان لها بعد إنساني!.
لا شك أنَّ روسيا تُدركُ آثارَ تدخلها في سوريا وتدرك أبعاده الاستراتيجية
الأمريكية المواجهة لها ولكن لمْ يكنْ هذا التدخلُ إلا إجباريًّا بعدما وصل
النِّظَامُ إلى مرحلةِ الانهيار وبدأ التسابقُ الدوليُّ والإقليميُّ على تقاسمِ
الكعكة السورية وأظهرتِ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية ليونَةً شجَّعتْ روسيا على
تسلُّمِ ملفِّ القضية السورية عسكريًّا وسياسيًّا فكانتْ وراء فيينا1 وفيينا2
ومحادثات جنيف3 وصدور قرارين دوليين (2254) و (2268) وذلك كله ضمنَ ثنائيةٍ
خاصَّةٍ مع أمريكا كانت تَراها تُحقِّقُ أحدَ أهمِّ أهدافِها الاستراتيجية التي
تُخرجُها من نطاق الإقليمية إلى العالميةِ التي فقدتْها عقبَ هزيمتها في
أفغانستان، وأنها من دونِ هذا التدخل ستخْسرُ أهمَّ مواقِعِها خارج روسيا التي مِن
المتوقع أنْ ينتقلَ إليها الصراعُ مستقبلًا بناءً على خلافاتها مع أوروبا وأمريكا
بما يتعلَّقُ بشبه جزيرة القرم وأوكرانيا والدرع الصاروخية والعقوبات الاقتصادية
الأوروبية ولهذا لمْ يكنْ أمامَها إلَّا هذا التدخل على مبدأ "الهجوم خير
وسيلة للدفاع"، وقدْ وجدتْ في سياسةِ الرئيس الأمريكي التي اتَّسمتْ
إعلاميًّا بالترددِ وعدم الوضوح وبتجنب العمل العسكري في سوريا وبخاصةٍ بعد تجاوز
مجزرة الكيماوي بناءً على المقترح الروسي فكانت فرصة للنجاح أكثر من الفشل، ولكن
في المقابلِ كانت أمريكا تعملُ جاهدةً بطريقةٍ غير مباشرة لجرِّ روسيا إلى سوريا
للمواجهة مرة أخرى وَفق استراتيجيتها في أفغانستان وأنَّ هذه الفرصة لنْ تتكررَ
مرة أخرى ولنْ تتحققَ ظروفُها في أماكنَ أخرى كأوكرانيا وغيرها، وحسمُ الصراع في
سوريا مع روسيا سيحسمُها في باقي المناطق الأخرى من العَالم ويَقضي على الحلمِ
الروسي بالعالميَّةِ ويُحجِّمُها ضمنَ إطار دولةٍ إقليميَّةٍ لا تَستطيعُ أنْ تقفَ
أو تعرقلَ المشروعاتِ الأمريكيةَ في المنطقة والعالمِ وتصبح عضوًا في التحالف
الدولي الذي تقودُه أمريكا ضدَّ "الإرهاب" والذي ترفضُ روسيا إلَّا أنْ
تكونَ شريكًا ثنائيًّا فيه إلى غاية الآن، وربما يساعد تحييد روسيا جانبًا من خلال
القضية السورية وإغراقها بتداعياتها التفرغُ الأمريكيُّ بشكلٍ أكبر لمواجهةِ خطرِ
الصين عليها فيما بعد!.
إذا كانَ قدرُ القضيةِ السورية أنْ تكونَ ضحيةَ استراتيجياتٍ تدميريةٍ كبرى
فلنا أنْ نتخيَّلَ تعقيداتِ الحل وسيناريوهاتِه بناءً على ذلك، وبخاصةٍ أنَّنا
تكلمنَا باختصارٍ فقط عن الاستراتيجية الأمريكية والروسية ولمْ نتكلمْ عن
الاستراتيجية الإيرانية والتركية وغيرها من الدول المتدخلةِ بالقضية السورية بشكلٍ
مباشرٍ ، وإنه من السذاجةِ القولُ أو التصديقُ أنه ليس لتلك الدول استراتيجيات
خاصة بها في سوريا، وبخاصةٍ القول: إنَّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية لمْ يكنْ
لها استراتيجيةٌ واضحةٌ في سوريا، إذ من الخطأ التسرعُ والحكمُ بأنَّ سياسةَ
أوباما التي اعتمدتْ أنْ تقودَ عملياتِها من الخلف أنها فاشلة وأرجعت أمريكا إلى
الخلف فعلينا الانتظارُ ريثما تنقشعُ غبارُ هذه المعركة بين هذه الاستراتيجيات
التي باتتْ تتحكمُ بالقضية السورية لاسيما الاستراتيجية الأمريكية والروسية على
الأقل!!!...
الدكتور جَبْر الهلُّول

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات