الاستراتيجيّات التي تتحكّم بالقضيّة السّوريّة الاستراتيجيّة الرّوسيّة أولًا...

الاستراتيجيّات التي تتحكّم بالقضيّة السّوريّة
الاستراتيجيّة الرّوسيّة أولًا ...
صادَقَ الرئيسُ الروسيُّ، فلاديمير بوتين، الجمعة (14) من شهر تشرين الأول الجاري، على اتفاقِ نشرِ مجموعةِ القُوَّات الجوية الروسية على الأراضي السورية، وجاء توقيعُ بوتين بعْدَ أنْ صادَقَ مجلسُ النواب (الدوما) الروسي على الاتفاق، وصوَّتَ له مجلسُ الشيوخ (الاتحاد) الروسي. وقد نصَّ الاتفاقُ على نشر مجموعة القُوَّات الروسية في سوريا إلى أجلٍ غير مسمى، وفي حالِ رغبةِ أحدِ الطرفين الخروجَ من الاتفاقية، يُوقَفُ سريانُها بعدَ مرورِ عامٍ من تقديمِ الطرفِ بلاغًا رسميًا. 
تلكَ الخطوةُ الروسية وإنْ كانت إجرائيةً داخليَّةً وبدتْ عمليًّا في الواقع السوري شكليةً على اعتبار أنَّ الوجودَ الروسي العسكري قد مضى عليه أكثرُ من عام فيها، إلا أنَّها خطوةٌ لابدَّ من الوقوف عندها في إطارِ فَهمِ مجريات الأحداث في سوريا والاستراتيجيات التي تتحكم فيها، لاسيَّما أنَّ هذه الخطوة الروسية جاءتْ بعد تعليقِ المحادثات الأمريكية الروسية حولَ الاتفاق الذي عملوا من أجل الوصول إليه شهورًا طويلة، وقد تصاعدتْ لهجةُ الخطاب بينهما إلى درجةٍ فتحتْ مجالَ التكهناتِ والتوقعاتِ إلى احتماليةِ الصدام العسكري بينهما إذا ما لجأتْ أمريكا إلى الخيار العسكري ضدَّ النِّظَام. ولهذا كان لابدَّ لروسيا أنْ تُؤكدَ على الدوام قانونيةَ وجودها العسكري في سوريا وبخاصةٍ بعدما ارتفعتْ بعضُ الأصوات الأوروبية كبريطانيا وفرنسا ضدَّ استراتيجيتها العسكرية التي تتَّبعها في سوريا لاسيما بحلبَ على وجه التحديد واعتبار أنَّ ما تقومُ به إلى جانب النِّظَام يُعتبرُ جرائم حرب. وكان خيارها الذي لا يمكنها الخروج عنه وَفقَ استراتيجيتها في سوريا استخدام حق الفيتو الذي تكرَّرَ للمرة الخامسة إلى جانبِ النِّظَام قدْ حَسَمَ موقفَها النهائيَّ من القضية السورية على أنها طرفٌ أساسيٌّ فيها، وقد جاء نشرُها لصواريخ (S300) و (S400) ومن ثم استقدامها لسفنٍ حربيةٍ إلى شواطئها بالإضافة إلى حاملةِ طائراتها (أدميرال كوزنيتسوف) ومن ثم العمل على جعل قاعدتها في طرطوس قاعدةً عسكريةً دائمةً، بالإضافة إلى قاعدةِ حميميم التي جعلتْ منها لحظةَ تدخلها العسكري مقرًّا لإدارة احتلالها العسكري في سوريا التي خَضَعَ لها النِّظَام بعيدًا عن مفهوم السيادة الذي  تتصف به الدول المستقلة في القانون الدولي.
إنَّ روسيا بعد تدخلها العسكري المباشر ومن خلال هذه الخطوات المتصاعدة قرَّرتْ أنْ تَمضي في استراتيجيتها إلى النهاية وجعلت من نفسها مع حلفائها في سوريا في كفَّةٍ وأمريكا وحلفائها في كفَّةٍ أخرى مواجهة وبناء على ذلك صعّدت مُؤخرًا من حملتها الإعلامية لاسيما داخل روسيا وكأنَّ حربًا نوويةً تُوشكُ أنْ تقعَ عليها من قبل أمريكا وبالغت في الخيارات العسكرية الأمريكية تجاه سورية وشرح سيناريوهاتها وإظهار استعداداتها للردِّ عليها وبدتْ روسيا من خلال تلك الحملة أنها تدفع بهذا الاتجاه بشكلٍ غير مباشر وكأنها جزءٌ من صناعة القرار الأمريكي الذي تعلم أنه منقسم حول الخيار العسكري في سوريا. كما أن روسيا من خلال حملة التجييش الإعلامي والتصريحات الرسمية الروسية بخصوص الخيارات العسكرية الأمريكية أرادتْ أنْ تصرفَ الانتباه الإقليمي والدولي وربَّما المحلي إلى مخاطر أكبر مما تجري الآن بسوريا لاسيما ما تقومُ به في مدينة حلب من خطةٍ تدميريةٍ ممنهجةٍ لمْ تتوقفْ منذ تدخلها قبل عامٍ إلى اليوم وتعتقد أنَّ خطتها قد وصلت إلى مراحلها النهائية ولهذا لابدَّ لها أن تُسابقَ الزمن لفرضٍ واقعٍ ميدانيٍّ جديدٍ عليها قد يكون رادعًا أو حاسمًا لنتائج أي تحرك عسكري أمريكي غير متوقع وبخاصةٍ من الرئاسةِ الأمريكية القادمة التي تفترض موسكو سلفًا أنها لن تعتمد استراتيجية أوباما في تعاطيها مع القضية السورية ولن تعطيها الفرصةَ مرة أخرى كالتي حصلتْ عليها منذ أكثر من عام وَفق الظروف الدولية والإقليمية والمحلية نفسها التي منحتها تفرَّدًا مقصودًا في الساحة السورية لمْ يحتجْ فيها أحدٌ من تلك الأطراف الدولية والإقليمية على وجودها العسكري في سوريا وإنما كان الاحتجاجُ مقتصرًا على السلوك الروسي العسكري المخالفِ لما أعلنت عنه سببًا لتدخلها في محاربة الإرهاب كما أن ظهور الاحتجاج كان متأخرًا فقد جاء من قبل بريطانيا وفرنسا بعد تعليق المحادثات بينها وبين أمريكا على منهجيتها العسكرية في مدينة حلب فقط ورفضها لوقف إطلاق النار فيها وإدخال المساعدات إليها.
إنَّ الموقفَ الدولي والإقليمي من التدخل العسكري الروسي في سوريا لمْ يتغيرْ ولمْ يُوصفْ بأنه احتلالٌ غير مشروع، حيث من المعلوم أن القُوَّاتِ الروسيةَ التي بدأتْ أولى ضرباتها الجوية في سوريا، الأربعاء (30 أيلول 2015)، قد أدخلت القضية السورية مرحلة جديدة، حيث بدأ معها سلاحُ الجو الروسي في عدوانه المساند للنِّظَام بأولى ضرباته العسكرية على الشعب السوري بعد موافقة "مجلس الاتحاد الروسي" بجلسته الأربعاء (30/9/2015)، بناءً على طلبٍ سريعٍ تقدَّم به بوتين للموافقةِ باستخدام القُوَّاتِ الجوية الروسية خارجَ الحدود "بما فيها سوريا" وأنَّ مديرَ الديوان الرئاسي، سيرغي إيفانوف، ذكر أنَّ استخدامَ القُوَّات الجوية في سوريا، جاء بعد أن توجه الأسد "بطلب إلى روسيا لتقديم مساعدات عسكرية إلى دمشق".
إنَّ تلك الخطوة التي اتخذتها روسيا منذ أكثر من عامٍ ثم جاءتْ خطوةُ بوتين الذي وقع منذ أيام على بقاء القُوَّات الجوية في سوريا إلى أجل غير مسمى لمْ تكنْ مُفاجئةً ولنْ تلقْ اعتراضًا من قبل الأطراف الدولية والإقليمية التي تعترضُ على الخطوة الأولى التي لاقتْ ترحيبًا غريبًا على اعتبار أنها جاءتْ في سياقِ محاربة "الإرهاب" في سوريا على الرغم أنها كانتْ واضحةً بمجرد دخولها عملت على تغيير الواقع الميداني لصالح النِّظَام واستهدفتْ غالبيةَ فصائل المعارضة العسكرية والحاضنة الشعبية من المدنيين في غالبية المناطق المحررة من النِّظَام واستطاعتْ أنْ تغييرَ في موازين القوى الدولية والإقليمية لصالح النِّظَام ومَن معه مِن المليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات من خلال إطلاق يدها في سوريا بشكلٍ كاملٍ والتعامل معها من قبل كل الأطراف الدولية والإقليمية على أنها الطرف الأساس في القضية السورية، مما دفع الكثيرَ من المراقبين والمحللين للتساؤل حول الدافع وراءَ ذلك، ولماذا وصلتْ روسيا إلى هذا الدور الذي لمْ تعدْ تُراعي فيه أو تكترث لنتائجه حتى لو أدَّى إلى مواجهةٍ عسكرية مع أمريكا مقابلَ تحقيقِ استراتيجيتها في سوريا التي دخلتْ من أجلها ولمْ يَعدْ بإمكانها التراجعُ فيها ولو خطوة واحدة إلى الوراء!.
إن المتابعَ للدَّورِ الروسي العسكري والسياسي في سوريا يُدركُ تمامًا بعيدًا عن التكهنات أبعادَ وأهدافَ الاستراتيجية الروسية في تعاطيها مع القضية السورية في إطارها الدولي والإقليمي والمحلي وأنَّ هذا الاستراتيجية لمْ تكنْ خافيةً على الولايات المتحدة الأمريكية على الأقل التي ظهرت من خلال تعاطيها مع روسيا خلال عامٍ كاملٍ بدءًا من التفاهم إلى الاتفاق بينهما الذي علقتِ المحادثاتِ حولَه مؤخرًا ومن خلال التصريحات الرسمية أنه كان لديها علمٌ مسبقٌ بالتدخل العسكري الروسي وخططه وأهدافه وذلك من دون تفاهمٍ مسبقٍ بينهما بشكل صريح، وربما عدم الاعتراض الأمريكي على تصريحاتِ الروس أن التدخلَ لمحاربة "الإرهاب أولا" هو الذي شجَّعَ الروسَ على التدخل العسكري وتوريطهم في المستنقع السوري. لإدراكِ أمريكا أنَّ روسيا بمجرد تدخلها العسكري المباشر في سوريا ستصبحُ طرفًا محليًّا وسيختلف تعاطيها مع القضية السورية في بُعدها الدولي والإقليمي ويفرض عليها خيارات محدودة في إدارة والصراع والاختلاف مع جميع الأطراف.
إنه لا يمكننا فهم الاستراتيجية الروسية في سوريا إلا من خلالِ المراجعة التاريخية للاستراتيجية الروسية التي اتبعتها في الشيشان ومع عاصمتها غروزني " عام (19992000) عندما استلمَ فلاديمير بوتين مهامَ الرئاسةِ بالنيابة. ولكن السؤال هل كانت هناك مخادعة دولية أمريكية من خلال إدراكها الاستراتيجية "البوتينية" وتطلعاتها المستقبلية فسهَّلَتْ له ذلك عن قصدٍ على حساب الشعب السوري وقضيته لتكون في واقعٍ أشد تعقيدًا مما كانت فيه بأفغانستان من أجل تسهيلِ وتعجيلِ بناءِ شرقٍ أوسط جديد لا تكون فيه روسيا قوةً عالميةً أو أن تفكر أن تطمح إلى ذلك مرة أخرى، وأن تكون دولة إقليمية مأزومة كباقي دول المنطقة التي تورَّطتْ في المستنقع السوري التي لن تخرج بأحسن حال مما دخلتْ أو تدخّلت أو أُدْخلت فيه!!.

الدكتور جَبْر الهلُّول
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »