أينَ هيَ الثَّورة السّوريّة مِن مُجرياتِ الأحداثِ اليومَ؟!

أينَ هيَ الثَّورة السّوريّة مِن مُجرياتِ الأحداثِ اليومَ؟!
الدكتور جَبْر الهلُّول
إنَّ المتابعَ لمجرياتِ الأحداث الميدانية في سوريا لا سيما في مدينةِ حلب يجد تعقيدًا كبيرًا يَصعبُ مِن خلاله تخيُّلُ متى ستكون النهاية؟! وكيف؟! ولصالح مَن؟! وبخاصةٍ بعد تداخلِ الصراعات الدولية بالإقليمية والمحلية مع الثورة السورية ضمنَ أجنداتٍ واستراتيجياتٍ مختلفةٍ يتعارضُ البعضُ منها مع بعضٍ ويتصادمُ، والبعضُ الآخر يتقاطعُ مع تلك الاستراتيجية دون الأخرى المتحالفة معها بشكلٍ باتَتْ فيه غالبيَّةُ الأطراف تَدورُ في حلقاتٍ متعددةٍ من الصراعات تتَّسعِ في كل مرحلةٍ بعد أخرى مِن كل جوانبها ولا تضيق حتى يُعرف مِن أين سيكون الخروجُ على الأقل من إحداها، وكأنَّ الجميعَ دخل في متاهةٍ واحدةٍ ويَصعبُ على أيِّ طرفٍ بمفرده إيجادُ خريطةٍ للطريق للخروج منها. ولهذا أصبحتْ جميعُ الأطراف المعنية بالقضية السورية مأزومةً إلى درجةٍ تشبه المقدمات إلى حربٍ عالميَّةٍ جديدةٍ التي تدفع إلى الصدام الذي لا يريده أيُّ طرفٍ ولا يوجد لديه الاستعدادُ لذلك. ولعلَّ التداعي إلى اللقاءات الدولية والإقليمية وتفعيل الحراك السياسي بعد تعليق المحادثات بين روسيا وأمريكا حول سوريا بناءً على الاتفاق الأخير بينهما الذي توصل إليه وزيرا خارجية البلدين في التاسع من شهر أيلول الماضي تُشيرُ إلى خطورةِ المرحلة، وإنَّ لقاءَ "لوزان" في سويسرا يومَ السبت القادم ومِن ثم لندن وتكرار عرض مشاريع القرارات على مجلس الأمن للتصويتِ عليها على الرغم من توقعِ فشلِها مسبقًا تأتي في نطاقِ الفرصة الأخيرة ليس لحلِّ القضية السورية وإنما للتخفيفِ من حدة الاختلاف وضبط الصراع الدولي والإقليمي بينَ اللاعبين الكبار الذين يُريدونَ أنْ يُثبتوا أنَّهم ما زالوا يُمسكونَ بخيوطِ اللعبة كل من جهته وقادرين على التحكم والسيطرة في إدارةِ الصراع فيما بينهم على حسابِ الشعب السوري وشعوب المنطقة وأنَّ حدَّةَ التصعيد والاختلاف لن تصلَ بهم إلى تجاوزِ الخطوط الحمر من أجل ذلك.
  إنَّه لا شكَّ أنَّ هذه المجريات الميدانية وهذا الحراك السياسي الدولي والإقليمي الذي وصلتْ إليه القضيةُ السوريةُ من التعقيد والمأسوية لا ترجع إلى الثورة في كلِّ مراحلها لا مِن قريبٍ أو بعيدٍ ولا يمكن تحميلها المسؤولية عمَّا وصلتْ إليه الأمورُ الآن وبخاصةٍ أنَّ غالبيةَ الصراع الدائر الآن في الساحة السورية هو خارجٌ عن دائرة الثورة وأهدافها التي قامتْ لأجلها ولتوضيح ذلك لا بدَّ من مقاربةٍ بسيطةٍ لتسلسل الأحداث التي أوصلتْ إلى هذه النتائج التي كانت بسببِ التدخل الدولي والإقليمي في هذه القضيةِ للاستفادة منها وتوظيفها ضمنَ أجندةِ استراتيجياتها المتناقضة والمتصادمة قبل بدء الثورة (2011).
ولإيضاح ذلك لابدَّ من الوقوفِ مع التدخل العسكري الروسي بسوريا وتحديدًا بمدينة حلب، إذ لا يمكنُ مقارنةُ مجرياتِ الأحداث العسكرية اليوم بعد هذا التدخل العسكري بما كانت قبله، ولا يمكنُ توصيفُ المعاركِ التي تجري بحلبَ منذ بداية التدخل الروسي إلى غايةِ اليوم بأنها معاركُ تندرجُ تحت مفهومِ الثورة ضدَّ النِّظَام كما كانت قبل ذلك عندما اقتحمَ الثُّوَّارُ المدينةَ عام (2012) وبدأوا بتحرريها لتنضمَّ بشكل سريع أجزاءٌ منها لا سيما قسمُها الشرقي إلى المناطق المحررة وبخاصةٍ إلى المساحات الكبيرة من ريفها وبالأخصِّ الريفُ الشمالي الذي يلتقي مع الحدود التركية وأوشك الثُّوَّارُ حينها على حصار النِّظَام داخل المدينة لولا ظهور لاعبين جدد في الساحة السورية تمثل بداية بظهور "تنظيم الدولة" في بداية شهر نيسان (2013)، ومن ثم إعلانُ جبهة النصرة مبايعتها لتنظيم القاعدة لتبدأ بعد ذلك مرحلةٌ جديدةٌ بدأت تختلط فيها الثورة بمعارك أخرى بينية ضدَّ التنظيم وتتقاطع مع معركة التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ تحت مسمى "محاربة الإرهاب" فوق المساحة الجغرافية التي حرَّرتها الثورةُ والتي سيطر على قسم كبير منها "تنظيمُ الدولة" والقسم الباقي أصبح متداخلًا بين "جبهة النصرة" - قبل أنْ تفكَّ ارتباطَها بتنظيم القاعدة وتصبح جبهةَ فتح الشام - وبعض التنظيمات المصنفة "إرهابيًّا" من قبل الغرب مع الفصائل الثورية التي تقاتل معًا على جبهات واحدة ضد النِّظَام وتحقق الانتصارات عليه وقد أوشك على الانهيار قبيل التدخل الروسي في (30/9/2015) وباتت المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها دون (20%).
لا شك أنَّ تداخلَ محاربة "الإرهاب" الذي قادته أمريكا مع الثورة جاءَ مقصودًا من أجل تجيير الثورة لصالح تلك الحرب وعلى حسابها وخدم النِّظَام ومَن معه مِن إيران ومليشيات طائفية متعددة الجنسيات على اعتبار أنَّ النِّظَام اعتبر أنَّ ما يَجري في سوريا هو إرهابٌ وليس ثورة شعبية وذلك لكي ليأتي قمعه لها مبررًا ومنسجمًا مع الهوى الدولي في محاربة الإرهاب ولعله من خلال ارتكابه مجزرة الكيماوي في الغوطة أدرك أنَّه لا خطوط حمر دولية أمامَه وبخاصةٍ عندما أدركَ جدِّيَّةَ الموقفِ الروسي إلى جانبه وضعف الموقف الأمريكي وتردده تجاه ما يجري في سوريا.
إنَّ التدخلَ الروسي العسكري إلى جانب النِّظَام وإنْ جاء تحت مسمى محاربة الإرهاب أيضًا إلا أنه أدخلَ القضيةَ السورية في مرحلةٍ جديدةٍ غلب عليها طابعُ الاحتلال الذي تدخَّلَ من أجل حماية النِّظَام ومنع سقوطه مقابل تعهده القضاء على الثورة وقواها الثورية وحاضنتها الشعبية، وركَّزَ في عدوانه على مدينة حلب وَفق المنهجية التي اتبعها بوتين في معركة "غروزني" (1999- 2000)، وأثناء ذلك التدمير الممنهج الذي تتعرَّضُ له حلب ظَهَرَ لاعبٌ آخر جديدٌ تحت مسمى "قُوَّات سوريا الديموقراطية" التي في جوهرها وحدات الحماية الشعبية الكردية ضمن مشروع "فدرالية شمال سوريا" الذي نما على حساب الثورة وجرَّها إلى معاركَ أخرجتها عن نطاق مواجهة النِّظَام وأشغلتها عنه، إلى أن جاءتْ عمليةُ درع الفرات في (24) من شهر آب الماضي التي تقودها تركيا لتوقف طموحات ذلك المشروع وتبدأ بمشروعٍ جديدٍ خارج نطاق الثورة أيضا وبعيدًا عما يجري في مدينة حلب وعلى حسابها لاسيَّما بعد فشلِ الاتفاق الأمريكي الروسي وانكشاف استراتيجية كل منهما بخصوصِ سوريا التي تُشيرُ إلى الفارق البيني في تعاطيهما لإدارة الصراع وخصوصًا من حلب!.
لقدِ التقتْ في الساحة السورية وعلى حساب الثورة أطرافٌ دوليةٌ وإقليمية ومحلية لها أجندتُها واستراتيجياتها المختلفة واختلطتِ الثورةُ بمحاربة الإرهاب ومقاومة الاحتلال الذي لمْ يقتصرْ على الجانب الروسي وإنَّما الإيراني وقيام مشاريع متعددة قومية وطائفية وظهور صراعاتٍ داخل القوى الثورية ذات بُعدٍ أيديولوجي وفكري جعلتْ من الصعوبة فهم أو استيعاب المشهد السوري ومآلاته ما لمْ ندركْ حقيقةَ تلك المشاريع والاستراتيجيات التي نمتْ على حساب الثورة وعملتْ على توظيفها ضمن أجندتها التي تتعارضُ مع كلِّ ما قامتْ لأجله ودفعتْ ثمنًا باهظًا في سبيله ودعتنا للتساؤل: أين هي الثورة السورية من مجريات الأحداث اليوم؟!..


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »