الاتّفاق الأمريكيّ الروسيّ بين الرّبح والخسارة طَرفَا الاتّفاق أوّلًا!!.

الاتّفاق الأمريكيّ الروسيّ بين الرّبح والخسارة
طَرفَا الاتّفاق أوّلًا!!..
الدكتور جبر الهلُّول
لم يكنِ الاتّفاق الأمريكيّ الرّوسيّ الذي توصّل إليه "جون كيري" و"سيرغي لافروف" يوم الجمعة الماضية (9/9/2016) في جنيف اتّفاقًا عاديًّا حول القضيّة السوريّة التي دخلت في مرحلةٍ مختلفةٍ بكل المقاييس عن المراحل السابقة، فالقضيّة السوريّة لن تكون كما كانت قبل الاتّفاق سواء نجح أو فشل أو تعثّر تطبيقه، لأنّ جميع الأطراف المحليّة والإقليميّة والدوليّة المُتدخّلة والمُتداخِلة في الصّراع على سوريّا وفي سوريّا سينعكس عليها هذا الاتّفاق بتداعياته الإيجابيّة والسلبيّة وسيكون هناك رابحون وخاسرون بحسب نسبة تطبيق هذا الاتّفاق ومدى قرب الأطراف من القضيّة السوريّة وبعدهم ومشاركتهم في الصّراع المباشر وغير المباشر على الأرض السورية وتقاطع مصالحهم فيها وارتباط هذه المصالح في مُستقبل المنطقة كلّها.
إنّ الاتّفاق بين اللاعبِين الكِبار لاسيما أمريكا وروسيا جاء بدايةً كمقترحٍ أمريكيٍّ بناءً على طلبٍ روسيٍّ مُلحٍّ لتحقيق نوعٍ من الشّراكة العسكريّة مع أمريكا ولو في حدّها الأدنى سعت إليها بكل الطّرق والسّبل والوسائل الإجراميّة بحقّ الشّعب السوريّ بعد تدخّلها العسكريّ في سوريّا في (30/9/2015) لصالح النّظام نتيجة التّوصل إلى تفاهماتٍ هشّةٍ ضمن "مجموعة العمل الدوليّة (17) المُتعلّقة بسوريّا" لاسيما عندما اُختزلت هذه المجموعة بأمريكا ورسيا وهُمِّشت باقي الأطراف وبدأت بهدنة "وقف الأعمال العدائية" في (27) شباط الماضي التي لم تصمد أمام استمرار العدوان الثّلاثيّ الذي تقوده روسيا في سوريّا والذي تركّز على مدينة حلب التي أصبحت بعد تَمكّنهم من إعادة إِطباق الحصار عليها في بداية شهر أيلول الجاري قاعدةً أساسيَّةً للاتّفاق الروسيّ الأمريكيّ ومِعيارًا لنجاح هذا الاتّفاق أو فشله بين الطّرفين، ومن خلال ذلك ستتّضح ملامح الرابحين والخاسرين من هذا الاتّفاق الذي هو أقرب إلى اتّفاقٍ عسكريٍّ ثنائيٍّ على نقاط مُتدرّجةٍ مُتَسلسلةِ التّطبيق كُتبتْ بعنايةٍ بالغةٍ من قبل الطرفين لتضبط قواعد الصّراع بين الجانبين الأمريكيّ والروسيّ على الأرض السوريّة وتعكس مدى سعة الاختلاف بينهما وعمقه، ولابدّ أن يكون أحدهما رابحًا والآخر خاسرًا بمقتضى تطبيقات بنود هذا الاتّفاق، وبخاصة أن كلّا منهما يسعى بدهاء السياسة ومكرها أن يُلحق هزيمةً سياسيةً ذات طابعٍ عسكريٍّ بالآخر أو يُحرجه من خلال تطبيق نقاطه التي كشف عنها أو التي لم يُكشف عنها والتي تُعبّر عن حقيقة وجوهر الصّراع وليس الاتّفاق بينهما، وهذا ما ظهر من خلال تصريحات الطرفين بعد إعلان الاتّفاق ومطالبة روسيا أمريكا الكشف عن وثائقه كاملة مع العلم أنّ "لافروف" نفسه ذكر عقب الإعلان أن ما لم يُكشف عنه في المؤتمر الصّحفيّ يتعلّق بأمورٍ إجرائيّةٍ حسّاسة بينهما.
إنّ المُعطيات تُشير على الرغم من النّقد للسّياسية الخارجيّة الأمريكيّة تجاه سوريّا أنّها أثبتت من خلال هذا الاتّفاق بأنّها تُدير الصّراع في سوريّا لتحقيق مزيدٍ من المكاسب لها وليس لصالح هذا الطّرف أو ذاك وليس لتجنّب أو تخفيف الخسائر عنها بخلاف روسيا التي ما تدخّلت عسكريًّا في سوريّا إلّا من أجل المحافظة على مكاسبها ومصالحها التي أصبحت مُهدّدةً فيها بعد نجاحات الثورة على حساب النظام الذي أوشك على الانهيار لولا تدخّلها العسكريّ، والعمل على التّخفيف من خسائرها التي تدرك أنّها كلّما طال أمد الصّراع في سوريّا الذي باتت هي طرف مباشر فيه إلى جانب النّظام زادت خسائرها وتناقصت مُكتسباتها لصالح أمريكا في سوريّا والمنطقة كلها.
فإنْ كان يرى كثيرٌ المُحلّلين أنّ السّياسة الأمريكيّة في سوريّا فقدت الكثير من المصداقيّة في تعاطيها مع القضيّة السوريّة – وهذا صحيح بلا شك – إلًا أنّ الزاويّة التي تعني أمريكا في القضيّة السوريّة من هذا الاتفاق هي بالدّرجة الأولى مُحاربة "القاعدة" المُتمثّلة "بجبهة فتح الشّام" بغضّ النّظر عن دورها في مُحاربة النّظام وعلاقتها بالفصائل العسكريّة ومن ثم بالدّرجة الثّانية مُحاربة "تنظيم الدّولة" الذي استطاعت أن تقود تحالفًا دوليًّا مؤلفًا من (65) دولة ضدّه وتُدخِل تركيّا مُؤخّرًا في ذلك من خلال حملة "درع الفرات" في الشّمال السوريّ بينما لم تستطع أنْ تُدخِل روسيا في ذلك التّحالف الذي تقوده والتي تسعى وتحرص إلى شراكةٍ عسكريٍّة مع أمريكا التي وجدت فرصةً لذلك من خلال الاتّفاق معها حول ذلك مُقابل إخراج النّظام والفصائل "المعتدلة" من دائرة الصّراع عن طريق تجميده وليس حلّه من خلال اتّباع الخطوات الملموسة التي نصّ عليها الاتّفاق من وقفٍ لإطلاق النّار الذي بدأ في الثّاني عشر من هذا الشّهر ولمدّة أسبوعٍ اختباريّة يتخلّلها إيصال المساعدات الإنسانيّة ومن ثمّ بعد ذلك تفعيل الشّراكة العسكريّة بينهما والتفرّغ إلى محاربة "جبهة فتح الشّام"، بمعنى آخر تُريد أمريكا أن تُصبح مُجريات الأحداث كلّها في سوريّا مُنصبّة على محاربة "الإرهاب أولًا"، التي تتطلب توظيف كلّ الأطراف المحليّة والإقليميّة والدوليّة وتسخير طاقتها بهذا الاتّجاه بطريقةٍ عسكريّةٍ أو أخرى تخدم السّياسة الأمريكيّة في معركتها مع "الإرهاب" من دون خسائر تُذكر. لكن في المقابل فإنّ روسيا التي ستُنهي عامها الأول من التدخل العسكري في سوريّا في نهاية هذا الشّهر من ودون تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة التي سعت إليها فإنّها تجد نفسها في مأزقٍ كبيرٍ لا يُنقذ موقفها إلا بتحقيق الشّراكة العسكريّة والدّخول العمليّ فيها للإثبات أن تدخّلها في سوريّا لم يكن إلا لمحاربة الإرهاب وأن كلّ ما يجري في سوريّا وما يقوم به النّظام وحلفائه يأتي في سياق ذلك. 
إن الاتّفاق الأمريكيّ الروسيّ الذي وصفه "كيري" بأنّه سيكون "مُنعطفاً مصيريًّا" إذا تمّ الالتـزام به، وقال عنه "لافروف:" إنّه خُلاصة "عملٍ ضخمٍ"، وهو بالفعل كذلك بالنسبة للجانبين من الزاوية التي يسعيان إلى تحقيقها من هذا الاتّفاق الثّنائيّ بينهما. لذا يُمكن القول: إنه إذا كان الاتّفاق هو مكسب إضافيّ في المدة المُتبقيّة من فترة الرئيس "أوباما" إذا تمّ الالتزام به فإنّه بالنّسبة إلى روسيا عمل ضخم لإيقاف خسائرها وبوابة وحيدة للخروج من مأزقها من العديد الملفات ليست في سوريا فحسب وإنما في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم والعقوبات الغربيّة عليها والدّرع الصّاروخي، ولهذا خيارات الرّفض الأمريكيّ أوسع بكثير من الخيارات الروسيّة فيه.

ولكن إذا كان الاتّفاق هو فرصة أخيرة للطّرفين الأمريكيّ والروسيّ في سوريا بما يتوافق مع مصالح كلّ منهما إلاّ أنّه ليس كذلك لباقي الأطراف الإقليميّة والمحليّة التي لم تُعط حتى حقّ الاطلاع على وثائقه السريّة لتوافق أو ترفض على بيّنة على رغم أنّها وجدت نفسها معنيّة بالاتّفاق بشكلٍ مباشرٍ به ربحًا وخسارة على حساب القضية السورية التي رُهن مصيرها بهذا الاتّفاق ودخلت في مرحلةٍ جديدةٍ خطيرة بكلّ أبعادها سواء فشل أو نجح الاتّفاق لأن النّجاح والفشل سيكون نسبيًّا لكلّ الأطراف وسينعكس كلّ ذلك ويَظهر في مُجريات الأحداث الميدانيّة، وستتكشّف معالم هذه المرحلة أكثر مع تطبيقات بنود هذا الاتّفاق العلنيّة والسريّة المُتدرّجة والمُتسلسلة، لكن ليس هناك ما يُشير أو يُوحي أنّ حلًّا  سياسيًّا يلوح في الأفق القريب!!.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »