قراءة سياسية في الاتفاق الأمريكي الروسي

قراءة سياسية في الاتفاق الأمريكي الروسي
الدكتور جبر الهلُّول
لم يكن مُفاجئًا بشكلٍ عامٍّ الاتفاقُ الذي توصّلَ إليه وزيرُ الخارجية الأمريكي "جون كيري" ووزيرُ الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في وقتٍ متأخرٍ من ليلة الجمعة /السبت (9-10/9/2016)، وبخاصةٍ أنَّ جوهرَ الاتفاق ركّزَ على نقاطٍ جوهريةٍ سُرّبتْ بشكلٍ مقصودٍ عبرَ مراحلَ متعددةٍ إلى وسائل الإعلام كانَ آخرها قبل أيام من الاتفاق، الرسالة التي وجهها المبعوثُ الأمريكيُّ إلى سوريا "مايكل راتني" إلى الفصائل العسكرية المعارضة على الأرض، ثم إن ما جاء بعد ذلك في المؤتمر الصحفي على لسان مُهندسَي هذا الاتفاق كان كافيًا وواضحًا ولا يحتاج إلى كثير من التفسيرات والتأويلات لبنوده ونقاطه التي ذكرت، أما ما لم يُكشفْ عنه بحسب "لافروف" لا يعدو كونها ترتيبات إجرائية عملياتيّة عسكرية حساسة  تخصُّ الطرفين الأمريكي والروسي لتنفيذ اتفاقِ الشراكة العسكرية بينهما على الأرض السورية!.
فالاتفاقُ الأمريكيُّ الروسي من حيثُ المبدأ لمْ يكنْ سريًّا فقد جاء بعد كثيرٍ من اللقاءات والاتصالات والمشاورات على مستويات عدةٍ تمثلتْ مُؤخرًا بلقاء الرئيسين "أوباما" و"بوتين" على هامش قمة العشرين حيثُ تمَّ الاتفاقُ بينهما وتركت اللمسات الأخيرة والإعلان لوزيري الخارجية في جنيف. وكما أنَّ الفصائلَ علمتْ به بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة عن طريق الرسالة التي بعث بها "راتني" إليهم، فإنَّ النِّظَام كان على معرفةٍ بهذا الاتفاق كما صرَّح "لافروف" بقوله: إنَّ "الحكومةَ السورية على معرفة بهذه الاتفاقات، وهي مستعدة للالتزام"، وهي النقطةُ التي جعلت كيري يتوجه إلى نظيره بالقول قبيل اختتام المؤتمر الصحفي: "أشكرك جداً وأشدد على تأكيدك أن روسيا قد تحدثت بالفعل مع الحكومة السورية". لكن وإن كان الطرفان المعنيان بالأمر الفصائل العسكرية والنِّظَام جاءت معرفتهما بنص الاتفاق ضمن العلم والخبر ليس إلا ولا يملكان من الأمر شيء فإن ما أعلنته الهيئة العليا للمفاوضات عن عدم إرسال نص الاتفاق إليها أو استشارتها به، يشير إلى أنها غير معنية به ولا تمثل الفصائل على الأرض في هذا المجال العسكري البحت ولا تنوب عنها بالموافقة أو الرفض وأن مهمتها تقتصر على الجانب السياسي في المهمة التي أوكلت إليها في المفاوضات في حال استؤنفت لاحقًا بناء على ما سيتفق عليه الطرفان الأمريكي والروسي في المسار السياسي إذا نجح الاتفاق في مساره العسكري أولًا بين الطرفين على الأرض.
إن العودة إلى الاتفاق في سياقه الزمني وأهدافه فإنه ينطلق من هدنة وقف الأعمال العدائية في (27) شباط الماضي والقرار الدولي الذي نص عليها (2268) والقرار الدولي (2254) وبخاصةٍ فيما يتعلَّقُ بوقف إطلاق النار ومن ثم تثبيته وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة ومحاربة التنظيمات المصنفة وبالأخصِّ "جبهة فتح الشام" -جبهة النصرة سابقًا - ومن ثم "تنظيم الدولة". لكن وإن كان يرجع الطرفان فشلَ الهدنة السابقة لأنها قامتْ على تفاهماتٍ بين الطرفين وعدم الاتفاق على ترتيبات دقيقة لتنفيذها فإنهما عملا في الاتفاق الأخير على تجاوز ذلك وتخطي التفاهمات المبنية على الثقة في التنفيذ إلى الاتفاق على خطوات ملموسة في المسار العسكري بين النِّظَام والفصائل العسكرية المعارضة ومسار الشراكة العسكرية بين الطرفين ضد التنظيمات المصنفة التي لا يشملها وقفُ إطلاق النار وعلى وجه الخصوص "جبهة فتح الشام" ومَنْ تَرفض من القوى وقف إطلاق النار، وتعليق الاتفاق على المسار السياسي بناء على نجاح الطرفين في المسارين الأول والثاني عمليًّا على الأرض وذلك من خلال التوقيع على وثائق خمسة لمحاربة "الإرهاب" ضمن الشراكة العسكرية الأمريكية الروسية المخصوصة وإعادة تفعيل الهدنة على قواعد جديدة تُخرج طرفي الصراع والنِّظَام جانبًا وتُثبت حدود السيطرة الجغرافية التي وصلا إليها قُبيل بدء سريان الاتفاق اعتبارًا من الساعة صفر من ليلة الأحد / الإثنين من (11-12/ 9/2016).
إن الاتفاق على الخطوات الملموسة وبدء تنفيذها اعتبارًا من الإثنين تشكل الهدنة (48) ثم تكرارها لمرة واحدة ومن ثم تثبيتها الخطوة الأولى من أجل الانتقال بعد أسبوع إلى الخطوة الثانية بالانتقال إلى العمل العسكري المشترك بين أمريكا وروسيا من خلال إنشاء مركز تنسيق خاص بهما لهذا الغرض. ولكن مقتضيات الخطوة الأولى التي نصَّ عليها الاتفاقُ فإنها أخطر بكثير من الخطوة الثانية التي هي نتيجة للخطوة الأولى التي تشترط أولا التزام كافة الأطراف المعنية بالاتفاق بوقفِ إطلاق النار اعتبارًا من يوم الإثنين ومن ثم خلال (48) ساعة الأولى أن تتعهد بشكلٍ كاملٍ بالاتفاق وذلك بحسب ما جاء بمسودة الاتفاق في رسالة "راتني" إلى الفصائل: «في اليوم الأول لدخول اتفاق وقف الأعمال العدائية حيز التنفيذ، يتوجب على كل الأطراف المشمولة به أن تتعهد مجدداً الالتزام بالاتفاق بشكلٍ كاملٍ والتقيد ببنوده كافة وفق الاتفاق في شباط (فبراير) الماضي، لمدة 48 ساعة وتمديده في حال نجاحه" . ولا يقتصرُ الأمرُ على ذلك بل يجب عليهم خلال الأسبوع الابتعاد عن مواقع جبهة فتح الشام وعدم التعاون معهم بأي طريقة بمجرد دخول الاتفاق حيز التنفيذ وفق ما تحذيرات "راتني" للفصائل، مما يعني ان عملية الفصل بين "المعتدلين" و"المتطرفين" وفق الاتفاق تعتمدُ على تقسيم الجغرافية للمعارضة أولًا: وأنَّ معيارَ التصنيف والاستهداف العسكري يقومُ على البقاء والتداخل ضمنَ مناطق نفوذ وسيطرة جبهة فتح الشام"، ثانيًا: التعاون مع الجبهة بأي طريقة كانت، ثالثًا: رفض الالتزام بوقف إطلاق النار، رابعًا: التعهد والالتزام بالاتفاق الذي يفرض التعاون والمشاركة في محاربة "الإرهاب". خامسًا: إن كل من يبقى ضمن منطقة الراموسة هو مستهدف جغرافيًّا ولا يشمله وقف إطلاق النار حيث نص الاتفاق وفق ما ذكره "راتني" برسالته إلى الفصائل: "على كل طرفي المعارضة والقوات الموالية للنِّظَام، بحسب الوثيقة، عدم محاولة الاستيلاء على مناطق جديدة تقع تحت سيطرة الطرف الآخر، وستعمل الولايات المتحدة الأميركية مع الأطراف الموقعة على هذا الاتفاق لإخراج «القاعدة» في سورية من هذه المناطق المحددة". وأشارت إلى أن هذا الاتفاق لا ينطبق على المجموعات المعارضة الموجودة في المنطقة الجنوبية الغربية من حلب، ضمن المنطقة الواقعة حول الراموسة، إضافة إلى أنه ".. عليكم إزالة القاعدة من المناطق التي تقع تحت سيطرتكم لتجنب استهدافكم خلال قيامنا بعمليات هجومية ضد العناصر الإرهابية في سورية وفقاً لاتفاقنا مع الروس".
إن الاتفاق الأمريكي الروسي وَضَعَ الفصائلَ من خلال مسارِ وقف إطلاق النار ومسار الشراكة العسكرية ضد "جبهة فتح الشام" في تحدٍّ بنويٍّ كبيرٍ وخيارات صعبة، إذ أن الاتفاق سينهي عمليًّا غرفةَ جيش الفتح ودورها العسكري على الأرض، ويعمل على الاستفادة من معركة فك الحصار في ريف حلب الجنوبي لاسيَّما بعد استعادة احتلالها من قبل النِّظَام واستنزاف القوى التي شاركت في غرفة جيش الفتح فيها واعتبارها هدفًا مستثنى من وقف إطلاق وفرض خيار الانفصال الجغرافي والديموغرافي عن باقي المناطق وعن باقي الفصائل، وهذا الواقعُ الجديدُ الذي سيفرضه الاتفاقُ سيُفرِّقُ بين القوى الثورية على تنوعها على جبهات النِّظَام على مدار السنوات الخمس وسيجبرُ بعضها أن يتخلى عن بعض، وسيجعلُ مِن بعضها وجها لوجه في معركة سيكون الطرفان فيها خاسرين لمصلحة روسيا وأمريكا.
كما أنَّ الاتفاقَ سيجعلُ الفصائلَ في موقفٍ صعبٍ تجاه المدنيين الذين سيجدون في الاتفاق مخرجًا طال انتظاره يخلصهم من معاناتهم من عدوان الحلف الثلاثي الروسي والإيراني والنِّظَام الذي لم تعد تستطع الفصائل أن تخفف من مأساتهم وترد العدوان عنهم وبخاصة بعدما فشلت من فك أي حصار عنهم وباتوا عرضة للتهجير القسري عن مدنهم وقراهم.
إنَّ الاتفاقَ باستثناءِ الشراكة العسكرية ضد "جبهة فتح الشام" التي جعلت فصيلًا من المعارضة مقابل إخراج النِّظَام والفصائل عن دائرة الصراع والتوقف عن معارك الحسم الجغرافي هو بوابةٌ لفرضِ حلٍّ سياسيٍّ مستقبليٍّ يقوم على تقسيم الجغرافيا السياسية دوليًّا ومن ثم إقليميًّا وذلك بناء على نتائج هذا الاتفاق الأمريكي والروسي، ولهذا على هذا الفصيل "جبهة فتح الشام " التي كان لها دورها الكبير على كل الجبهات في مواجهة النِّظَام جنبًا إلى جانب مع غالبية الفصائل العاملة على الأرض، وبخاصةٍ في معركة ملحمة حلب الكبرى لفك الحصار عن حلب أنْ تجدَ الآليةَ في التعامل مع هذا الاتفاق الذي جعل منها محور الاستهداف بالشراكة العسكرية الأمريكية الروسية وذلك للتخفيف من تداعياته وآثاره، كما يجبُ على جميع الفصائل والقوى الثورية أن تعمل بالطريقة التي تجدها مناسبة للتخفيف عن إخوانهم في جبهة فتح الشام،  ويجب عليهما معًا أن يعملا على التماس الأعذار لبعضهما وعدم الوقوع بفخ التخوين والصدام فيما بينهم وتفويت الفرصة على الهدف الحقيقي من هذا الاتفاق!!.



المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »