"الدولةُ المُفيدةُ" في خِدمةِ مشروع "الشرقِ الأوسطِ الجديد"!!..

"الدولةُ المُفيدةُ" 
في خِدمةِ مشروع "الشرقِ الأوسطِ الجديد"!!..
الدكتور جبر الهلُّول
إنَّ المُتابعَ لمجرياتِ الأحداثِ الميدانية في سوريا يَرى أنَّ مَعَالِمَ الدولةِ المفيدةِ التي طَالما كَثُرَ الحديثُ عنها على أنها الخطَّةُ "ب" روسيًّا وإيرانيًّا وعند النِّظَام، قد باتتْ خطواتُها العمليةُ مُتسارعةً على الأرض، ممَّا يَعني أنَّ مَشاريع التقسيم الجغرافي بصورها المتعددة وحدودها العريضة هي التي أصبحتْ مُرجّحةً إلى هذا الحلفِ الثلاثي بعدما يَئِسَ مِن تحقيقِ الخطة "أ" بفرضِ سيطرته على كلِّ سوريا وسحق الثورة فيها التي مُنعت نتيجةَ تفاهماتٍ دوليةٍ وتوافقاتٍ إقليمية مِن خيار الحسم العسكري منذ نهاية عامها الأول الذي كانَ مِن الممكن لو ترك الخيار متاحًا أن يُحافظ على سوريا موحَّدة التي لا يمكنُ بعد إعلان الثورة في شهر آذار بداية (2011) أنْ تكونَ كذلك إلَّا بأحد الخيارين: النِّظَام أو الثورة كطرفينِ وَحيدَيْنِ يُمكنُ أن تُحسم الساحة الجغرافية السورية عسكريًّا لأحدهما وتحكم سياسيًّا من قبله بعد ذلك. لكن بعدَ أنْ وجد تنظيم الدولة كطرفٍ ثالثٍ ووجدت قُوَّات سوريا الديموقراطية التي جوهرها وحداتُ الحماية الشعبية الكردية كطرفٍ رابعٍ صَعَدَا على أكتافِ الثورة ومرتكزاتها الجغرافية الاستراتيجية وجعلا من خلال ذلك ثلثا الأرض السورية خارِجَ إطار الثورة، وأبْقيا فقط على ثلثها تقريبًا تحت دائرة الثورة مع النِّظَام الذي تُشكّل "الدولة المفيدة" فيه قرابةَ ثلاثةِ أرباعه، وما تَبقَّى من الثلث هو محورِ الحراك العسكري والسياسي اليوم، وهو المعني بشكلٍ مباشرٍ بخطَّةِ "دي ميستورا" بوقْفِ إطلاق النار والتمكن من إيصال المساعدات، وهو محورُ مباحثات "كيري لافروف" وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّقُ بالشراكة العسكرية والاتفاق على إخراج مدينةِ حلبَ من دائرة الصراع والاستهداف من قبلِ الطَّائرات الروسية والنِّظَام والتركيز على إدلبَ وريفها وبعض ريف حلب!.
إنَّ المشاريع التي يُعمل عليها اليوم كخيارٍ لحلِّ القضية السورية لا تخرج عن إطار التقسيم بحكمِ الأمر الواقع نتيجةَ التداخل الدولي والإقليمي والمحلي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر عن طريقِ حربِ الوَكالات الحصرية أو بالأصالة، جعل من إمكانيةِ إعادةِ قيام دولةٍ موحدةٍ جغرافيًّا وديموغرافيًّا ومنع تقسيمها طرحًا يُناقض الواقعَ بكلِّ تفصيلاته واتجاهاتِ مجرياتِه العسكرية والسياسية، الأمر الذي لمْ يدركِ النِّظَامُ حقيقَته الآن وإنما أدركها بشكلٍ مسبَقٍ حيث أعد له خطته الاستراتيجية التفصيلية الدقيقة لحظة اعتمد سياسة الحصار وفرض الهدن المؤقتة كمرحلةِ انتظارٍ ريثما تتكشَّفُ الخياراتُ النهائيةُ له في مساقاتها الدولية والإقليمية ومجرياتها العسكرية المحلية التي وصل من خلالها لاسيما بعد فشلِ حصار حلب، والصدام في الحسكة أن "الدولة المفيدة هي ملاذُه الأخيرُ الذي بقي متاحًا، لاسيما بعدما أيقن أنَّ الجغرافيا التي سيطرتْ عليها قُوَّاتُ سوريا الديموقراطية والتي ستسيطرُ عليها على حساب تنظيم الدولة لنْ تَرجعَ إلى سلطته بأيِّ طريقة كانت، وبخاصةٍ بعد تجربة استخدام القوة والصدام معها في الحسكة حيثُ كانَ الرَّدُّ الأمريكيُّ واضحًا وصريحًا بهذا المجال، الأمر الذي أجبره على توقيعِ اتفاقٍ مُذلٍ بهذا الشأن وجعلَ من صمتِه وعدم اعتراضه على العملية العسكرية التركية "درع الفرات" التي قرأ فيها الهواجسَ التركية من قيامِ دولةٍ كرديةٍ على حدودها فرصةً للانتقام من جهةٍ وخلط لأوراق الصراع في سوريا من جهةٍ أخرى تتيحُ لها المجال لترتيب خياره الأخير الدولة المفيدة من الداخل. ولهذا سارَعَ إلى إنجازِ تنفيذ داريا الذي استطاع من خلاله أنْ يمتصَّ مَا يمكن توقعه من اعتراضات دولية وأممية إقليمية لما تمثله مدينة داريا المحاصرة من أربع سنوات في الرأي العام وتنتقل إلى فرض اتفاقات مشابهة وربما بشروط أشد مع المناطق الأخرى كالمعضمية ومن ثم لاحقًا إجراء ترتيبات مشابهة مع الغوطة الشرقية ويتطلع إلى مدينة دوما ثم سينتقل إلى عمليات التهجير الديموغرافي للتخفيف من الكثافةِ السنيةِ في مدينة حماة وريفها وكذلك المدن الأخرى التي سيجدد لها مبرراتها ويبتكر لها أساليبها التي تحقق له الغرض المطلوب في توازنات الديموغرافية من خلال تفريغ الجغرافيا بما تتناسبُ مع طبيعة الدولة المفيدة ذات الصبغة المذهبية النصيرية الشيعية المسيطرة فيها.
إنَّ اتفاقياتِ التفريغِ الديموغرافي عن طريقِ الترحيل والتهجير القسري هي حركةٌ ممنهجةٌ سيكون لها أثرُها وتداعياتُها في المنطقة كلِّها وهي ربمَّا جزءٌ مِن مفرداتِ الحلِّ الدَّولي بين أمريكا وروسيا الذي يعتمد بشكلٍ مباشرٍ على التقسيم والتقاسم ومن ثم كل طرف يَعملُ على إرضاء حلفائه بما يتقاطع مع مصالحه ويخفف من حساسيات موقفه، ولعلَّ الصمت الدولي والإقليمي والعجز المحلي عما قام به النِّظَامُ في داريا وما سيقوم به في المناطق الأخرى وبمساعدةِ الأمم المتحدة التي كانَ ردُّها كلاميًّا على لسانِ وكيل الأمين العامِ للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة "ستيفن أوبراين" الذي قال: إنَّ "الاتفاقياتِ التي يَنجمُ عنها إجلاءٌ جماعيٌّ للمدنيين بعد فترةٍ طويلةٍ مِن الحصار لا تتوافقُ مع قانونِ حقوق الإنسان الدولي، وأنه كان ينبغي رفع الحصار، ولا ينبغي أنْ يكونَ هناك أيُّ اتفاقٍ يُؤدي إلى التهجير القسري للسكان المدنيين". وأضاف: "إنَّ الاتفاقَ الذي تمَّ بموجبه إجلاءُ السكان عن مدينةِ داريا المحاصرة، يومي 26 و27 أغسطس الجاري، لا يتوافقُ مع قانون حقوق الإنسان الدولي".  ولكن كما هو معلومٌ من خلال كل مجريات الأحداث الميدانية في سوريا ومنها جرائم الكيماوي أن قانون حقوق الإنسان الدولي لا ينطبقُ على الشعب السوري إلا في بعض التسهيلاتِ التي تُساعدُه على الهجرة واللجوء إلى دولِ الشتات التي تقلِّلُ من إمكانية عودته إلى سوريا مستقبلاً، تلك التسهيلات التي تأتي ضمن مصطلحات "معركة الرقم" التي تنظر إلى الديموغرافيا كنوعٍ قنبلة خطيرة لا يمكنُ نزعُ فتيلها إلَّا عن طريق تسهيلاتِ "الترانسفير" عبر الحدود الدولية وتوزيعها بشكلٍ يَصعبُ اجتماعها مرة أخرى في جغرافية واحدة، ولعلَّ "الترانسفير" هي المنهجية نفسها التي طُبِّقَت من قبل الصهيونية على الشعب الفلسطيني في فلسطين وطبقت على الشعب اللبناني والعراقي واليوم الشعب السوري، لا تختلف الفكرة والمنهجية المتبعة في التغيير الديموغرافي المقصود وإنما تختلف فقط بالوسائل والأدوات والطرق المتبعة التي تعطي نتائج أسرع في تحقيق التغيير الديموغرافي لصالح "الدولة المفيدة" .... ولعلَّ المراقب اليوم يجد في كلِّ دولةٍ في المنطقة هناك نواة وملامح "دولة مفيدة" ضمن جغرافيا محددة ومخصصة وبالباقي هو دولة غير مفيدة. 
إنها استراتيجية الفوضى الخلاقة في إنشاء قواعد ومرتكزات مفيدة في خدمة مشروع "الشرق الأوسط الجديد"!!.


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »