مشاريع دول عظمى لتصفيةِ الثورة السورية!!
الدكتور جبر الهلُّول
لمْ يَخرجِ الحلُّ
السياسيُّ للقضيةِ السوريةِ مِن يدِ السوريين فقطْ بلْ خرجَ الحسمُ العسكريُّ
والحسمُ الجغرافيُّ مِن أيديهم وفَقدوا القدرةَ حتَّى على التحكمِ بإدارةِ معاركهم
ورسم استراتيجياتها، وبخاصةٍ بعدما باتتْ غالبيةُ المعاركِ التي تَجري على الأرض
السورية هي خارجُ إطار الثورة السورية مِن حيثُ أطرافها وأهدافها، إذ مِن الصعوبة
بمكانٍ أنْ تَمتلكَ الأطرافُ السوريةُ زمامَ المبادرة والقدرة على وضعِ أيِّ تَصوُّرٍ
للحلِّ السياسيِّ أو العسكري المرتبط به بعد هذا التدخل والتداخل الدولي والإقليمي
في الصراعِ في سوريا الذي لمْ يبق للثورة السورية إلا حيزًا ضيقًا من الحركة بعدما
استطاعَ توظيفها ضمنَ أجندته بشكلٍ كبيرٍ لمْ تَعدْ تستطيعِ الخروجَ عنه إلَّا في
إطارِ الهامش المسموح به أو في إطار التمرُّدِ الفردي الذي لنْ يكونَ له أثرٌ كبيرٌ
قَبلَ أنْ تسابقه تلك الأجندةُ بتقصيرِ الأجل ضمن الوسائل التي باتتْ أمرًا
عاديًّا في الساحة السورية لمْ يكنْ أوَّلُها الاغتيالَ الجماعيَّ لقادةِ حركة
أحرار الشام الإسلامية ولمْ تَكنْ آخرُها الاغتيالات المستمرة التي لنْ تَتوقَّفَ
عند هذا الأسلوب الممنهج من التصفياتِ بلْ يتعداه اليوم إلى مشاريعَ مبتكرةٍ ليس
لاستهدافِ قادةِ جماعات كأفراد وإنما لتصفيةٍ جماعيةٍ للأفراد فيها قبل القادة
لأنهم العنصر الحقيقي على جبهاتِ القتال ضدَّ النِّظَامِ تحتَ مسمَّى فرز
المعتدلين عن المتطرفين في الثورة السورية!.
إنَّ مشروعَ فرزِ
المعتدلين عن المتطرفين في الثورة السورية لمْ يكنْ جديدًا وإنْ لمْ يظهرْ بهذا
الاسم الفجِّ لكنه أخذ أشكالًا عديدةً سَلِسَةً وهادئة أحيانًا، وصاخبة ودموية
أحيانًا أخرى. وذلك بعدما أخذتِ الأدلجةُ مساراتها داخلَ الثورة السورية التي كانتْ
حركةً ثوريةً ذات طابع شعبي مناطقي أكثر منها حركات وفصائل عسكرية متمايزة
أيديولوجيًّا وفكريًّا جعلتْ مِن أولى اهتماماتها توسيعَ بَسطِ نفوذِها في المناطق
التي تُساهم في تحريرها مِن سلطة النِّظَام وتُكرس وجودها وحضورها فيها بطرقٍ شَتَّى
عن طريقِ الهيئات والمحاكم الشرعية والسلطات الأمنية والمعاهد الشرعية ومحاصصة
الإدارات الخدمية بشكلٍ أدَّى إلى تداخلٍ جغرافي بين مكونات القوى الثورية تبعًا
لمشاركاتها العسكرية في المعارك التي تحرَّرت مِن خلالها تلك المناطق التي فرضت
على الجميع تلك القوى بكل ألوانها المتمايزة حتى المصنفة منها دوليًّا المساهمة
والمشاركة فيها وذلك إمَّا لعدمِ قدرةِ أيِّ طرفٍ مهما بلغَ حجمُ قوَّتِه العددية
والمادية على خوضها منفردًا وتحقيق نصر فيها - وقد حصلت عدة محاولات فاشلة من بعض
الطراف – وإما بسبب الحرص على المشاركة بعدما ترسخ الوجود والنفوذ الجغرافي لهذه
القوى وتداخلها فيما بينها من أجلِ المحاصصة وتقاسم المكاسب من أجل المحافظةِ على
القدر المشترك من التنسيق والتعاون المستمر من أجل المعارك القادمة والحيلولة دونَ
تفاعلِ أيِّ خلافٍ يُؤدي إلى صدامٍ كُلي بين طرفين يخرج أحدهما الآخر من الساحة.
ولا يمكنُ تجاهلُ تلك الصدمات التي حصلتْ لصالح تلك القوى الكبرى التي مازالتْ
موجودةً اليوم في الساحة عن دائرة الفرز والفصل الجغرافي المستمر بين تلك القوى
التي وصلتِ اليومَ إلى التصفياتِ النهائية لقوى الثورة بعد مرورها بعدة مراحل
أشرنا إليها باختصار لعلم الجميع بها ومعايشتها ولا تخرج عن إطارها جميع محاولات
الاندماج التي شهدتها الساحةُ السورية!.
إن مشاريعَ الفصل
والتصفيات التي يُتَحدث عنها اليوم بدأتْ تَتكشفُ معالمُها وأخطارُها بعدما اتَّهمَ
الجانبُ الروسيُّ أمريكا بفشلِ الهدنة التي أرجعها إلى عدمِ وَفاء أمريكا
بالتزاماتها تجاه الهدنة التي فرضت في (27) شباط الماضي حيثُ لمْ تقمْ بفرزِ وفصلِ
"المعتدلين" عن "المتطرفين" وكان ذلك أول تصريح رسمي عن وجود
تفاهماتٍ بين الجانبين تتعلَّقُ بالساحة الثورية السورية وفرزها جغرافيًّا إلى
مناطق "معتدلين" ومناطق "متطرفين" وتحديدها على الخريطةِ بشكلٍ
دقيقٍ حتى يتم استهدافُها من قبل الجانب الروسي تحت المظلة الدولية بمكافحةِ
"الإرهاب" لصالح النِّظَام. فتلك المشاريعُ لمْ تتوقفْ بعد ذلك وإنما
خرجت من نطاق التفاهماتِ التي تعتمد في مبدئها على الثقة إلى مشروع اتفاقٍ قدَّمته
أمريكا إلى روسيا ضمنَ مقترحِ الشراكة العسكرية لضرب "جبهة فتح الشام" -
النصرة سابقًا – وتنظيم الدول. وقد شكلت لجان متخصصة من أجل الوصول إلى هذه
الشراكة التي تَعتمدُ بدايةً على الفصل بين القوى الثورية الموجودة في الساحة
السورية لاستهدافِ قسمٍ منها تحت قانون التصنيف، حيث لمْ تنقطعِ الاتصالاتُ بين
الجانبين الروسي والأمريكي بهذا الشأن رغم تصاعدِ مُجريات الأحداث الميدانية لا
سيما بمدينةِ حلب واختلافهما حولها، فقد كشفَ الاجتماعُ الأخيرُ في يوم (26) آب
الجاري بين كيري ولافروف في جنيف الذي استغرقَ قرابةَ العشر ساعات، تركَّزتِ
النقاشاتُ في جزءٍ مهمٍّ منها حول الشراكة العسكرية التي تقوم على تحقيقِ الفصل
أولًا بين القوى الموجودة في الساحة وتحديدًا في مدينة حلب وإدلب. وقد حقَّقَا
تقدمًا في هذا الملف وإنْ لمْ يَصلا بَعدُ إلى اتفاقٍ نهائيٍّ حول الشراكة التي تُركَ
للجانِ متابعةُ إتمام خطواتها، فقدْ أكَّدَ جون كيري وجودَ إمكانيةٍ لفصل المعارضة
السورية عن "الإرهابيين" وكشف لأول عن خطة يمكن أنْ تقومَ بها دولٌ
داعمةٌ للثورة في المساعدة لتحقيقِ عملية الفصل بقوله: "هناك خطوات يمكن اتخاذها
لحل هذه المسألة، من بينها تلك التي "تتعلَّقُ بإشراك دول أخرى تدعم هذه المجموعة
أو تلك وتمارس نفوذها على هذه المجموعات ولديها إمكانية المساعدة في عملية الفصل").
هذه الدولُ التي تحدَّثَ
عنها "كيري" لا يمكنها المساعدة في ذلك إلا بإحدى طريقتين: إما بمنعِ
اندماج صحيح بين جميع القوى الثورية يُعيدها إلى ما قبل الأدلجة، أو بفرضِ اندماجٍ عليل لا
يمكن أن تُجمع عليه غالبيةُ القوى الموجودة مما يؤدي إلى تحقيق الفرز داخل كل فصيل
أولًا ومن ثم يعمل على فصْلِ القوى المتداخلة جغرافيًّا لأوَّلِ مرة إلى قسمين لا
ثالث لهما، "معتدلين" و"متطرفين" ضمنَ مناطقَ جغرافيةٍ قد لا
تكون مترابطة كما هو "تنظيم الدولة" الذي قامَ بفرزِ نفسه وفصل وجوده
الجغرافي عن الثورة منذ أنِ انْشقَّ عن "جبهةِ النصرة" وجعل له كينونة خاصة لمْ يجدِ
التحالفُ الدوليُّ مشكلةً في استهدافه وإخراجه منها كما هو واقعه اليوم.
لكن إذا
كانتِ الطريقةُ الأولى من الاندماج باتتْ صعبةً للغاية إذ لا يمكن أن تعودَ عجلةُ
الثورة إلى الوراء لتعودَ شعبيَّته كما بدأت بعد مرورها بمراحلَ عدة من الفرز
والفصل المقصود لكي تصلَ إلى مرحلةِ التصفيات النهائية التي يُرادُ منها القضاءُ
على الثورة، فإنَّ الطريقةَ الثانية فهي متاحة ولكن ليست بالسهولة المتوقعة أو
بالنتائج المرجوة ولعلَّ مَا سربته وكالةُ انترفاكس حولَ اتفاقٍ روسيٍّ أمريكي
توجيه ضربات للمقاتلين الذين يرفضون إلقاء السلاح بحلب والذي سارعت أمريكا إلى نفي
هذا الاتفاق يأتي في سياق فشلِ تحقيقِ مشاريع الفصل التي قد تؤدي اغتيال الثورة
بكاملها وإن كانت على موعد مع تصفيات كبرى
من قبل الدول الكبرى -أمريكا وروسيا- التي تكاد أن تكون قد أمسكت بالقضية السورية
سياسيًّا وعسكريًّا وجعلت من جميع اللاعبين الإقليميين والمحليين مساعدين في تنفيذ
ما سيتفقون عليه بخصوصها.
ويبقى السؤال: إلى أي مدى
يمكن أن تنجح تلك المشاريع التي لمْ تتوقفْ ولنْ تتوقفَ عن إيجاد طرقٍ ووسائل التي
يُراد منها إضعاف الثورة ومن ثم القضاء عليها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تساعد بعض تلك
الدول الداعمة للثورة بعد أن تنقلب على ذاتها في إنجاح تلك المشاريع التي تخدم النِّظَام
وحلفاءه وتحديدًا روسيا وإيران ومقابل أي ثمن؟!. وإلى أي مدى تدركُ القوى الموجودة
على الأرض حقيقة ما يُخطط لها من مشاريع فتعمل على إفشالها ولا تساعد عن حسن نية
في إنجاحها؟!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات