اتفاق داريا في سياق مجريات الأحداث!!

اتفاق داريَّا في سياق مجريات الأحداث!!
الدكتور جبر الهلُّول
لمْ يكنِ اتفاقُ داريا مفاجئًا بعد أكثر من خمسِ سنواتٍ من الثورة المستمرة داخل حصار ومعارك لمْ تتوقفْ للدفاع عن مدينة داريا ومحاولات توسيعِ دائرةِ الحصار أحيانًا عنها، لكن المفاجئ التوقيت الذي جاء ضمنَ ترتيباتِ الخريطة السورية الثورية في الجنوب السوري وشماله وغربه وشرقه ووسطه، والمفاجئ بشكلٍ أكبر أنَّ هذه الترتيبات كلها تأتي في سياقِ مزاعمٍ تتحدَّثُ عن وحدةِ الدولة السورية وعدم تقسيم جغرافيَّتها والحرص على تنوعها السكاني والإبقاء على صورةِ سوريا القديمة قبل الثورة، بينما مجريات الأحداث على الأرض عكس ذلك تمامًا. فالمعطياتُ تُشيرُ من خلال ما يَجري على الأرض إلى أنَّ هناك عمليات تقسيم وفرز في الخريطة الجغرافية السورية لا تقتصر على المعارضة والنِّظَام وإنما بين جميعِ القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في القضية السورية وأنَّ خريطةَ سوريا القديمة جغرافيًّا وديموغرافيًّا لمْ تبق سوى صورة في سجلات التاريخ يُستفادُ منها عند المقارنة مع الخرائط التي ستنتهي إليها المنطقةُ بشكلٍ متدرِّجٍ وَفق جدولٍ زمنيٍّ تُحدده حدّةُ الصراعات والاختلافات الدولية والإقليمية والمحلية ودمويتها في المنطقة والتي يَبدو أنَّ نهايتها ليستْ بالقريبة الآن. وإذا كان ليس من الأهمية انتظار نهايتها لأنها بالفعلِ قد بدأتْ مع بدءِ الربيع العربي وربَّما قبله مع بدءِ حربِ الخليج الأولى والثانية، فإنه من الأهمية بمكانٍ أن ننظرَ إلى الأحداثِ في سوريا وفي المنطقة على أنها تأتي في هذا السياق ولا تنفصل عنه، وعلينا أنْ نُحدِّدَ دورنَا وكيفيةَ التعامل مع واقع الأحداث الآن لأنها جزءٌ من الصورة الكلية التي ستكونُ المنطقةُ عليها بالمستقبل، وليس التعامل مع الصورة القديمة للخريطة التي بات من العبثِ التفكيرُ بالعودة إليها أو مجرد الوقوف عندها إلَّا كمرحلةٍ من الماضي التاريخي للمنطقة!.
إنَّ اتفاقَ داريا ومِن قبله حمص وما سيتبعها من مناطقَ سواء في الغوطتين أو حي الوعر بحمص أو غيرها من المناطق الأخرى هي جزءٌ من حركة التغيير الجغرافي والديموغرافي المقصود في المنطقة التي لا تنفصلُ عن حركةِ التهجير الكبرى التي تَعيشها سوريا منذ بداية الثورة ولا تنفصل عن المعارك التي تَجري على كافةِ الجبهات فيها، منذُ أن تمَّ العملُ على تحويل الثورة من ثورةٍ ضدَّ النِّظَام في كافةِ الخريطة الجغرافية السورية والعمل على إسقاطه فيها، إلى ثورةِ تحريرِ الجغرافيا من النِّظَام فقط وإعطائه الفرصة من قبل غالبية الدول ومساعدة بعضها كروسيا وإيران على تدميرها بشكلٍ كليٍّ وتهجير أهلها منها، وتمكينه في المقابل من إخراجِ العاصمة ومدن مهمَّةٍ أخرى عن دائرة الثورة ووضعها ضمنَ خريطةِ الدولة المفيدة التي كرَّسَ النِّظَامُ وجودَه عليها وحدَّد معالمها الجغرافية والديموغرافية، بينما أصبحتِ المناطقُ المحررةُ جغرافيًّا بشكلٍ جزئيٍّ هي مقسمةٌ ومفرزةٌ بين القوى التي حرَّرتها وأصبحتْ تخوضُ معاركَ استنزافٍ بَشريٍّ وماديٍّ كان من الطبيعي أن تصلَ إلى ما وصلت إليه داريا أمام نظَامٍ مازال يمتلكُ دعمًا مفتوحًا  ومشاركة عسكرية من دول كبرى كروسيا وإيران، وغض طرف أممي ودولي وإقليمي وتخاذل محلي عنها لاسيما بعدما باتتْ غالبيةُ القوى الثورية المحلية تبعًا لإرادة الداعم في المناطق التي تُسيطر عليها، ولا تسطيعُ مؤازرتها إلا في معارك مشاغلة بسيطة يأذن بها الداعمُ أو في بياناتٍ تُعلنُ قَبولَ اتفاقِ التسليم والتهجير من خلال ترحيبها باستقبالهم في مناطقهم الجغرافية المحررة!.
إنَّ حركةَ التهجير الديموغرافي القسري عبر التاريخ تقول: إنه مِنَ النَادر أنْ تَعودَ هذه الحركة إلى الوراء مرة أخرى، ولهذا عندما يصلُ النِّظَامُ إلى فرضِ هذا الاتفاق وفي هذا التوقيت فإنه يرسمُ خريطةَ الجغرافيا التقسيمية التي يَسعى للبقاء فيها مدركًا حقيقةً واقعيةً أنَّ الجغرافية الكلية التي كان يُسطرُ عليها قد انتهتْ وأنَّ مآلها إلى التقسيم، وبخاصةٍ إذا كان هذا التقسيمُ تَرعاه دولٌ كبرى متصارعةٌ في سوريا وعلى سوريا والمنطقة، وأخذت تطبيقاته العملية تَجري على الأرض بعيدًا عن الثورة ومجريات أحداثها الميدانية والسياسية، بل توحي هذه التطبيقات العمليةُ المتسارعة أنَّ الدولَ تريدُ الآن تحصيلَ مكتسباتها من القضية السورية ووضع اليد على حصصها الجغرافية والديموغرافية فيها، إمَّا في إطارٍ تَفاهميٍّ أو اتفاقي أو فرض الأمر الواقع عن طريقِ القوة العسكرية. وما يَجري الآن من معاركَ في الشمال السوري بدءًا من مدينة حلب وبين أطراف متعددة خارجَ نطاقِ الثورة تعمل على الاستفادة من مفرزاتها وتداعياتها بما يتناسبُ مع مصالح تلك الأطراف سواء أكانت دولية أو إقليمية أو محلية.
فإذا كان غربُ نهر الفرات خطًّا أحمرَ بالنسبة إلى تركيا التي تدخَّلتْ ضمنَ حملة "درع الفرات" لتثبيتِ ذلك الخط أمام وحدات الحماية الشعبية الكردية فإنه اعترافٌ لها بالمقابل بشرقي نهر الفرات الذي يمتدُ إلى الحدود العراقية وتدعمُه الولاياتُ المتحدة الأمريكية وترسخه بقواعدها العسكرية، التي فرضتْ حظرًا جويًّا مؤخرًا بعدما حاولَ النِّظَامُ أنْ يُغيِّرَ قواعدَ التحالفاتِ في الحسكة مستهدفًا تلك القُوَّات التي أعلنت في السابق عن "فدرالية شمال سوريا". وإذا كانتْ منطقةُ شرق نهر الفرات بات مفرزة جغرافيًّا وديموغرافيًّا ولمْ تحقق عمليًّا وتتوسع إلا من خلال محاربة تنظيم الدولة، فإنَّ منطقةَ غربِ الفرات التي تدخلتْ تركيا عسكريًّا لفرضِ وجودها وحماية حدودها ما كانت لتحصل لولا الموافقات الدولية والإقليمية والمشاركة المحلية وأنْ تكونَ ضمنَ مظلةِ التحالفِ الدولي في محاربةِ الإرهاب المتعلق بتنظيم الدولة، الذي أدركَ أهدافَ العمليةِ فانسحبَ مِن وسطِ طرفي الصراع مباشرةً ليتحققَ الصدامُ وجهًا لوجهٍ سريعًا على أولويات التقسيم الجغرافي بناءً على أُسسٍ قوميةٍ ديموغرافيةٍ هي خارجُ عقيدته العسكرية القتالية ليستفيدَ منها في معاركه القادمة تجاه الطرفين معًا.
فمعاركُ الشمال السوري سواءً أكانت بين تنظيم الدولة وقُوَّات سوريا الديموقراطية أو بين النِّظَام وتلك القُوَّات أو بين تركيا وتنظيم الدولة من جهةٍ وقُوَّات سوريا الديموقراطية هي معارك خارج نطاق الثورة تمامًا، وأنَّ المعاركَ بين النِّظَام والفصائل العسكرية في حلب وإن كانت معاركَ على الجغرافيا أيضًا  إلا أنها ما زالتْ تَحملُ صورةَ الثورة التي ارتبطتْ بالجغرافيا منذ بدايتها وإنْ كانتْ لا تنفصلُ عن تلك الأطراف المتصارعة حول تقسيم وتقاسم الجغرافيا وَفقَ مصالحها ومشاريعها وتتأثر بتداعياتها ونتائجها، ولا يمكنُ فصلُ اتفاقِ داريا وما سيتبعه من اتفاقياتٍ بالطريقة نفسها عن مجرياتِ الأحداث التي تأتي كلها تحتَ عنوانِ مَنعِ تقسيم سوريا جغرافيًّا وديموغرافيًّا!!.
إنَّ اتفاقَ داريا الذي لمْ يكنْ مُفاجئًا من خلال مجريات الأحداث الميدانية التي عمرُها من عُمرِ الثورة السورية وإنَّما المفاجئ التوقيت الذي تَخضعُ فيه الجغرافيا السوريةُ لترتيباتٍ لمْ تَعدْ تَخفى على أحدٍ، حيثُ إنَّ تَفريغَ داريا القَسري من أهلها هو جزءٌ من هذه الترتيبات التي باتت ترعاها الأممُ المتحدةُ على الرغم من أنها جريمةٌ في القانون الدولي وتباركها بعضُ الدول وتَصمتُ عنها دولٌ أخرى معنيةٌ بالقضية السورية، فهي جزءٌ من حركة التغيير في المنطقة التي لا يمكنُ أن تعودَ إلى الوراء، ولا يمكنُ فَهمُ نقلِ المقاتلين من داريا إلى إدلب إلا في إطارِ حصرِ الثورة من خلال تجميعِ المقاتلين وتضييق الجغرافيا عليهم فيها. وهذا سَيؤدي إلى مزيدٍ من اختناقاتِ الثورة جغرافيًّا إذا لمْ يتمَّ تداركُ ذلك من خلال العملِ على إعادة هيكلةِ العمل الثوري وإخراجه من نطاق الجغرافيا المحررة فقط وتفعيله من جديدٍ في الأراضي غير المحررة حتى تكون هناك معارك بالفعل معارك ثورية تُسقط النِّظَامَ وكلَّ مشاريعِ التقسيم والتقاسم ليس في سوريا فحسب وإنما في المنطقة كلها.


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »