البُعدُ السياسيُّ لمعركةِ مدينةِ حلبَ

البُعدُ السياسيُّ لمعركةِ مدينةِ حلبَ
الدكتور جَبْر الهلُّول
لمْ تأخذْ معركةٌ جَرَتْ في سوريا منذُ انطلاق الثورة وإلى غاية اليوم بُعدًا سياسيًّا مُتعدّدَ المستوياتِ والاتجاهاتِ دوليًّا وإقليميًّا ومحليًّا كالذي أخذتْه معركةُ حلب. فقد غلبَ البُعدُ العسكريُّ على غالبيّة المعارك التي حصلتْ في سوريا وإنْ كانتْ لا تخلو من جانبٍ سياسيٍّ، إلا أنّ معركةَ حلب منذ بدايتها غلبَ عليها البُعدُ السياسيُّ، لكن طُغيانَ هذا البعد ترسّخَ واتّضحَ جليًّا بعد التدخل العسكريّ الروسيّ في أواخر العام الماضي، حيثُ أرادَ الروسُ وضعَ القضية السورية على مسارِ الحلِّ السياسيِّ من خلالِ معاركَ عسكريةٍ استراتيجيةٍ ذات بعدٍ سياسيٍّ تُعيدُ إنتاجَ النِّظَام وتُجبِر المعارضةَ على تقديمِ تنازلاتٍ سياسيةٍ كبيرةٍ تُفْقِدُ الثورةَ مضمونَها وأهدافَها.
وإذا برزَ الصّراعُ السّياسيُّ بين الدول الإقليمية المُتدخّلة والمُؤثّرة في القضية السورية ولبستْ ثوبًا عسكريًّا إقليميًّا من خلالِ المعاركِ التي أرادتْ روسيا أن تُحدثَ خللًا في التوازن العسكري على الأرض لصالح النِّظَام وتستثمر ذلك سياسيًّا على طاولة محادثات جنيف3 التي توقفتْ في شهر نيسان الماضي، حيث وبناءً على إعلان "معركة حلب الكبرى" التي أعلنها الحلفُ الثلاثيُّ - روسيا وإيران والنِّظَام - التي أدركتْ روسيا من خلالِها أنَّها مَا لم تَحسمْ تلك المعركةَ لن تستطيعَ أنْ تُحققَ مَا تُريدُ على طاولة المفاوضات من حلٍّ.
 لكن ذلك لمْ يكنْ ليحدثَ لولا تفاهم حَصَلَ بينها وبين أمريكا التي أطلقتْ يدَ روسيا عسكريًّا في سوريا على حساب الدول الإقليمية المؤيدة والداعمة للثورة السورية التي هُمِّش دورها داخل مجموعة العمل الدولية (17) المتعلقة بسوريا وقُيّدتْ حركتها ودعمها للفصائل المقاتلة، الأمر الذي سمح لروسيا والنِّظَام ومَن معه أن يُحقق تقدمًّا على الأرض ويُحدث تغييرًا في ميزان القوى لصالحه في بعض النقاط الاستراتيجية في مدينة حلب وريفها كان آخرها محاصرة مدينة حلب عن طريق الكاستيلو الذي قُرِئ سياسيًّا على أنه جاء أيضًا في سياق الخطوات الملموسة التي يجبُ اتخاذُها لتسهيل الاتفاق الأمريكي الروسي  المطروح بمساراته الثلاثة: الشراكة العسكرية ووقف إطلاق النار وعملية الانتقال السياسي، حيثُ من المعلوم أنَّ ذلك الاتفاق ما كان ليُطرح أصلًا لولا التدخلُ العسكري الأمريكي المباشر على الأرض ضمن معركةِ محاربةِ تنظيم الدولة التي انطلقتْ في الشمال السوري وتركزتْ في ريف حلب الشرقي، حيثُ باتَ واضحًا أنَّ المعاركَ التي تجري في حلب وريفها فيها طرفان دوليان بشكل مباشر وغير مباشر وأن الشراكة العسكرية ما كانت لتطرح بينهما إلا من خلالِ معركة حلب التي أخذا يُديران من خلالها معركةً سياسيةً بامتياز يريد كلٌّ منهما حسمَ الجغرافيا السياسية التي تخدمُ مصالحَه في سوريا كلها وبالأخصِّ بحلب التي ترسم من خلالها وتقسم سوريا بين النفوذين الأمريكي والروسي قبل العودة مرة أخرى إلى جنيف.
لاشكَّ أنَّ التفردَ الأمريكي والروسي في القضية السورية لمْ يكنْ ليُرضيَ الأطرافَ الإقليمية المعنية مباشرة بالقضية السورية لكلا الطرفين التي ما فتئتْ أن تستغلَّ حِدّةَ الصراع السياسي بين الطرفين الدوليين لتشاغبَ في الحديقة الخلفية لكل منهما حيث قام النِّظَامُ ومعه الجانبُ الإيرانيُّ لتحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض لها ثقلها السياسي في مفاوضات قادمة دعتِ النِّظَامَ أنْ يُعلنَ عن موافقتِه على محدثاتِ جنيف التي اقترح موعدها دي ميستورا في نهاية شهر آب الجاري ليستثمرها سياسيًّا بخلاف ما كُشِفَ عنه في الاتفاق الأمريكي الروسي الذي يُقيّد دور النِّظَام ومن معه ويخرجه مع المعارضة العسكرية في الوقت نفسه من دائرة الصراع المباشر عن طريق وقف إطلاق النار والتفرغ لتنفيذِ الشراكةِ العسكرية مع روسيا ضدَّ "جبهة فتح الشام" - النصرة سابقًا - و"تنظيم الدولة"، وينقل الطرفين إلى محادثاتٍ سياسيةٍ تكون قد حَسمتْ مُحدِّداتها معركة حلب التي تقتضي التوازنَ الذي يُشْعِر الطرفين الأمريكي والروسي بأنه لمْ يخدعْ كل منهما الآخر حتى ينتقلا معًا إلى تفعيل الاتفاق بينهما.
 لكن هذا الاتفاق الذي فَرَضت وجوده مدينة حلب بثقلها السياسي الحاسم في القضية السورية  فإنَّ نجاحَه وفشلَه ليس مرتبطًا بتوافق الطرفين الأمريكي والروسي فحسب وإنما مرتبطٌ أيضًا بالأطراف الإقليمية والمحلية القادرةِ على تعطيلِه وإفشالِه أو على أقلِّ تقديرٍ تأخير تنفيذه ريثما تُحَسِّن من مكاسبها السياسية على حساب التناقضات بين طرفي الاتفاق من خلال معارك يمكن أن تخرجَ قليلًا عن السيطرة الجزئية في استثمارِ عاملِ الوقت القصير الذي يغض فيها الطرفان عن ذلك، إما عن قصدٍ لتوجيه رسائل سياسية بينهما عن طريق تلك المعارك، أو أنها تكون خارجة عن السيطرة فعلًا وتُجبر الطرفين على الاستعجال لاحتوائها من خلال تفعيل الاتفاق بينهما إذا تعارضت مع مصلحيتهما معًا، كما أنها قد تأتي تعبيرًا عن فشل الطرفين وعجزهما عن تحقيق أي اتفاق، أو تكون تلك المعارك لصالح أحد الطرفين فلا يعود يرى هناك أهمية في الاتفاق بكليته ومساراته الثلاثة وإنما تكون لديه الفرصة لتحسين شروطه ويتمسك بما يعنيه منه ويحقق مصالحه فقط!.
فمعركةُ حلبَ لها بعدٌ سياسيٌّ كبيرٌ لدى جميع الأطراف بل إنَّ هذا البعد هو المحركُ الأساسُ وراء تلك المعارك سواء كانت لفرض الحصارِ عليها أو لفك هذا الحصار وأنَّ تلك المعارك ليستْ إلَّا تأكيد على أهمية مدينة حلب دوليًّا وإقليميًّا ومحليًّا ودورها الحاسم في حل القضية السورية من المنظور الدولي المرتبط بشكلٍ مباشرٍ بالاتفاق الروسي الأمريكي ورضا وقبول الأطراف الإقليمية له.

 لكن السؤال إذا كان النِّظَامُ ومَن معه لاسيما روسيا قادرٌ على الاستثمار السياسي لمعركة حلب عندما يتحققُ الحسمُ الجغرافي لصالحه، فمن الذي سيستثمرُ معاركَ فكِّ الحصار عن مدينة حلب سياسيًّا؟ وكيف؟ ولمصلحة مَن؟!.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »