مدينةُ حلب
ضحيةُ خدعِ اللعبةِ الدولية التي تَرسمُ مَصيرَ القضية السورية كلِّها
الدكتور جبر الهلّول
إنّ
مُجرياتِ الأحداث الميدانية في حلبَ ليست مجرياتٍ عاديةً في سياقِ الصّراع القائم
في سوريا وإنما تُلخّصُ صورةَ المشهد الدولي والإقليمي المُعقّد في الصراع على
سوريا وصعوبةَ الاتفاق على آلياتِ حلٍّ سريعٍ للقضية السورية أو المراهنة على
استمراره أو نجاحه. فما شهدته حلبُ في الأيام الماضية لم يكنْ يَرسمُ خريطةَ
الأطراف المحلية على الأرض فقط، وإنما كان يرسمُ عمليًّا خريطةً جديدةً لمواقع
القِوى والنفوذ للدولتين روسيا وأمريكا ومن ورائهما الدول الإقليمية الحليفة لكل
منهما، حيث استطاعت روسيا أن تُخادع أمريكا بأن تُخلّ بقاعدةِ التوازن العسكري
السلبي المُتفاهم عليها بينهما كخطوةٍ من الخطوات العملية الملموسة التي يتوقفُ
عليها إتمامُ الاتفاقِ بينهما والبدء بتنفيذه اعتبارًا من الأول من آب وَفق مسارته
الثلاثة: الشراكة العسكرية، وفرض وقف إطلاق النار طويل الأمد، وعملية الانتقال
السياسي. لهذا ما حصل يُعْتبرُ المُهدّد والتحدي الأول أمام هذا الاتفاق الذي
يعتمدُ بالدرجة الأولى على تحقيقِ التوازن العسكري بين الطرفين على الأرض وإنَّ
أيَّ خللٍ عسكري في موازين القوى سيكون مبعثه في الأساس عائدًا إلى طرفي الاتفاق،
وبخاصةٍ روسيا التي تعتبر طرفًا مباشرًا في الصراع الدائر بحلبَ من خلال غطائها
الجوي الكثيف الذي مكَّنَ النِّظَامَ ومَن معه من تحقيقِ تقدمٍ ملموسٍ على الأرض
لفرضِ حصارٍ مؤقتٍ مرتهنٍ ببقاء الطيران الروسي في الجو ومن ثم فرض وقف لإطلاق
النار يثبت لهم النقاط التي وصلوا إليها والتي لا يمكن أن تؤدي إلى حلٍ سياسيٍ
بقدر ما ستؤدي إلى فرضِ حلٍّ عسكريٍّ تُريده روسيا ومن ورائها النِّظَام وإيران
وهذا يتعارضُ مع مبدأ الاتفاق الروسي الأمريكي الذي يجري العملُ على وضع اللمسات
الأخيرة عليه من أجلِ تفعيله على الأرض مع بداية آب.
إنَّ أهميةَ وخطورةَ ما هو مُتوقّع في حلب يأتي من حِدِّيَّة الصراع بين
الطرفين الدوليين أولًا، ويكفي ما تقومُ به روسيا والنِّظَامُ على الأرض من عدوانٍ
وحصارٍ واتخاذ خطوات إعلامية من خلال إعلان فتح ممرات إنسانية انتقامية تأتي في
سياق الحربِ النفسية التي تفرض الاستسلامَ على المدنيين قبل العسكريين واعتبار
أنَّ المدينةَ بحكمِ الساقطة عسكريًّا الذي يَعني دعائيًّا أنها قصمتْ ظهرَ
الثورةِ وحسمتْ معاركها في حلب وأن وقف إطلاق النار سيُفْرض لاحقًا بعد القضاء على
الطرف الآخر العسكري تحت مسمى محاربةِ الإرهاب من خلال تفعيلِ الشراكةِ العسكريةِ
الروسية الأمريكية لضربِ "جبهة فتح الشام"- "جبهة
النصرة" سابقًا – ومن هو قريب منها،
وبالتالي اختزال الاتفاق الأمريكي الروسي على مسارٍ واحدٍ فقط الأمر الذي يرضي
الجانب الروسي وحلفائه الذي ينطلق من مبدأ أنَّ المعركةَ الدائرة سترسم مستقبلَ
الوضع في سوريا ومَن يجمع النقاط الاستراتيجية الأكثر على الأرض سيكونُ الأقوى على
طاولةِ المفاوضات في جنيف وإنه لابد من حسم نتائجها قبل الذهاب إليها.
لذا جاءتِ التحذيراتُ البريطانيةُ والفرنسية والأممية والأمريكية لخطورةِ
الوضع في حلب بسببِ تجاوز روسيا خطوطَ التفاهم التي أخلّتْ بالتوازن العسكري
المطلوب للمرحلةِ التي يُحضَّرُ لها دوليًّا منذ عدة أسابيع وأنَّ ما جرى على بعض
الجبهات لاسيما في ريف حلب الجنوبي واللاذقية وحتى حصار حلب من دون التقدم الذي
حصلَ والتطورات الميدانية التي أعقبته لمْ تكنْ لتحصلَ بحسب متابعين للقضية
السورية إلا برضى الطرفين الأمريكي والروسي ورعايتهما بشكلٍ مباشرٍ وأنَّ الاتفاقَ
بينهما مرتبطٌ بقدرةِ كل منهما على إلزام الطرف الذي يُعتبر حليفًا له وقادرًا على
ضبطه بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة عن طريق الحلفاء الإقليميين لأطراف الصراع على
الأرض.
فما حصلَ بصورةٍ مختصرةٍ أن طرفًا قيَّد يدَ حلفائه على الأرض، والآخر
أطلقها فكانتِ الخديعةُ التي كانت ضحيتها مدينة حلب وأهلها التي أصبح مصيرها في
عهدة القيادة العسكرية الروسية التي ستعملُ على سباقٍ مع الحراك الدولي المناهض
لها على تقطيعِ أوصال مدينة حلب في محاولة لتفريغها من السكانِ وسحقِ الثورة فيها
ومن ثم فرض واقعٍ ميدانيٍّ جديدٍ عليها أمام الأطراف الدولية لاسيما أمريكا التي
لا شك أنها تدرك خطورةَ هذا الواقع في حلب وريفها وأهدافه وأبعاده وهو الأمر الذي
دفعَ وزيرَ الخارجية الأميركي جون كيري الى اعتبارِ الممرات «خدعة». ولأنَّ
الخداعَ الروسي للعالم يتكرَّرُ في سورية للمرة الألف، كما أنَّ المخدوعَ الأميركي
سقَطَ في الفخ الروسي، لهذا حذَّرَ كيري من أن الاتفاقَ الذي يعملُ عليه مع زميله
سيرغي لافروف أصبح مُعرضاً للخطر!!.
إنَّ الواقعَ الجديد الذي فرضته موسكو بحلب يُشكل تحديّا كبيرًا أمامَ
الاتفاق الروسي الأمريكي الذي تَعملُ روسيا على اختزاله بتحقيق الشراكة العسكرية
مع أمريكا بحجةِ محاربة الإرهاب الذي تَمثَّل بالدرجة الأولى بـ"جبهة فتح
الشام" و"تنظيم الدولة" على الرغم من فك ارتباطها بالقاعدة ويُطلقُ
يدَها باستهدافِ كافة المناطق لاسيَّما في حلب وإدلب واستهدافِ المدنيين فيهما على
اعتبار أنها مناطق نفوذ "جبهة النصرة" - سابقًا – وقد استبقتْ تنفيذ
الشراكة بحملةٍ تصعيديةٍ من الغارات الجوية تريدُ أنْ تجعلَ من الاتفاق قائمًا
بالأمر الواقع أمام أمريكا ولو اقتصرَ التنفيذُ عليها وحدها. وقد جاءتْ خطوةُ فكِّ
الارتباط أيضًا "لجبهة النصرة" التي اعتبرتها أمريكا وروسيا خطوة غير
كافية لتساعد روسيا على استمرار عدوانها، وتشكل عاملَ تحدٍّ آخر أمام أمريكا
لتنفيذِ الاتفاق الشراكة العسكرية بينهما في الوقت الذي تصرُّ فيه أمريكا على
تلازمِ المسارات الثلاثة بينما روسيا تريدُ بعد الذي حققته في حلب أن تختزله في
مسارِ الشراكة العسكرية وأن يكون للنِّظَامِ دورٌ فيه.
إنَّ تصحيحَ خللِ التوازن العسكري على الأرض لاسيَّما في حلب باتَ ضرورةً
محليةً وإقليميةً ودوليةً ومن دون هذا التصحيح يصعبُ توقعُ مجريات الأحداث
الميدانية القادمة وتطوراتها، وبخاصةٍ أنَّ حِدية الصراع بين الطرفين الأمريكي
والروسي والخديعة الروسية الأخيرة ستفرض على الجانبِ الأمريكي الذي هدَّد بإيقاف
تنفيذِ الاتفاق بين الجانبين التدخل العسكري عن طريقِ حلفاءَ إقليميينَ ومحليينَ
لإعادة التوازن المطلوب في الساحة العسكرية السورية الأمر الذي تُراهنُ على جديته
روسيا التي إذا ما تأكدتْ من احتمالية خسارتها الشراكة العسكرية مع أمريكا فسوفَ
تعملُ على إعادة الأمور كما كانتْ عليه إما فك الحصار عن حلب من طريق الكاستيلو
برفع الغطاء الجوي عن النِّظَام ومن معه كما حصلَ في ريف حلب الجنوبي وريف
اللاذقية الشمالي، أو أنه لنْ تُمانعَ
وتجبر عن طريق عملياتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ من فك الحصار عن المدنية من نقاطٍ أخرى تعيدُ
مدينةَ حلب مقسمة "نفوذًا" بين طرفين لتكون ورقة مساومة كبرى في الحل
القائم على تقاسم الجغرافية السياسية ومن ثم تكون حلب في النهاية جزءًا أساسيًّا
من معادلة الشمال السوري لتضاف إليها لاحقًا إدلب بعد الانتهاء من ترتيب وضع القوى
الإسلامية فيها.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات