إنها موقعة حلب الكبرى
والتذاكي الروسي بين الابتزاز السياسي والشراكات العسكرية!!..
الدكتور جبر الهلُّول
لم تنته معركة حلب بعد، ويبدو أنها مازالت على موعد مع
معركة حاسمة أو معارك أخرى تحت مسميات متعددة، تتجاوز فيها مسمى معركة الحصار وفك
الحصار، إلى معركة محاربة الإرهاب، أو فرض التسويات القادمة بالقوة، لأن ما وصلت
إليه مجريات الأحداث الميدانية لم تشكل حسمًا عسكريًّا جغرافيًّا ولم ترضي غالبية
الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية، لاسيما حلف العدوان الثلاثي الروسي والإيراني والنظام . لذا أعلن وزير
الدفاع الروسي" سيرغي شويغو" الإثنين الماضي (15/8/2016)) أن روسيا
والولايات المتحدة على وشك التوصل إلى اتفاق حول تعاون عسكري في حلب، حيث قال:
"إننا نتقدم خطوة خطوة نحو ترتيب - ولا أتحدث هنا سوى عن حلب - يسمح لنا
بإيجاد أهداف مشتركة والبدء بالقتال سويًّا من أجل إحلال السلام على هذه الأرض
التي تعاني منذ فترة طويلة". لقد جاء هذا الإعلان بعد معركة فك الحصار
وتداعياتها الميدانية المحلية وصداها الإقليمي والدولي، وكذلك بعد حراك سياسي
إقليمي كان محوره تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أسفر عن عودة العلاقات
التركية الروسية والاتفاق على محاربة "الإرهاب" ومن ثم التقارب التركي
الإيراني وزيارة وزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة، وفي ذلك إشارة أرادت منها
روسيا وإيران الإيحاء بأن "حلفًا سياسيًّا جديدًا" يتشكل من أجل الحل
القضية السورية بناء على أسس ثلاثة وحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها من خلال
العمل على عدم قيام كيان كردي ومحاربة "الإرهاب".
فإن كانت وحدة
الأراضي السورية أصبحت من خلال الواقع والمستقبل المنظور شيئًا من الماضي، وبخاصة
بعد تنوع وتعدد القواعد العسكرية الدولية التي مهامها ووظائفها أكبر من حجم القضية
السورية بكل تعقيداتها وتشعباتها، والوجود العسكري الدولي والإقليمي والمليشياتي
المتعدد الجنسيات على الأراضي السورية، لا يُدلل على ذلك، بل العكس، وأن قيام كيان
كردي على أسس قومية لا توجد مقوماته بعد، إلا أن محاربة "الإرهاب" شكلت
القاسم المشترك بين الأطراف الثلاثة من جهة وشكلت في الوقت نفسه القاعدة المشتركة
التي أعلن وزير الدفاع الروسي "شويغو" عن قرب التوصل إليها مع أمريكا في
حلب على وجه التحديد، الأمر الذي لم تُعلق عليه أمريكا هذه المرة، وإن كانت في
السابق قد رفضت أي شراكة عسكرية لضرب "جبهة فتح الشام" - جبهة النصرة -
"وتنظيم الدولة" إلا في سياق مقترح الاتفاق الذي قدمته لروسيا في مسارته
الثلاثة (وقف إطلاق النار، والشراكة العسكرية، وعملية الانتقال السياسي) ولم تلق
عليه جوابًا كليًّا بل وجهت روسيا إليه ضربة كبرى في معركة الحصار. لكن أن يأتي
هذا الإعلان الروسي بهذا الشكل وفي سياق هذا الحراك السياسي الإقليمي الذي تراعاه
روسيا تحديدًا وإن كان محوره تركيا بشكل خاص ثم يُترجم ذلك الحراك تصعيدًا روسيًّا
من القصف العنيف ويتركز على حلب وإدلب بشكل جنوني لم يقتصر على استخدام طائراتها
وقاذفاتها الموجودة في سوريا بل أعلنت استخدامها لأول مرة قاذفاتها المدمرة من
قاعدة "همدان" بإيران لاستهداف الشمال السوري وارتكاب مجازر بحق المدنيين
وتدمير ما تبقى من مستشفيات ومراكز طبية تحت حجة محاربة "الإرهاب"!.
قد لا يكون التصعيد والهمجية الروسية مفاجئة لأنها
الأسلوب الوحيد الذي اتبعته منذ تدخلها العسكري في سوريا لصالح النظام، وبخاصة أن
روسيا، التي تتجه بخطى حثيثة لاستعادة مكانتها في النظام العالمي، دخلت اختباراً
صعباً منذ أن قررت هذا التدخل العسكري الذي مر عليه ما يقرب من عام من دون أن يؤدي
إلى اختراق استراتيجي حاسم في مسار الحرب، لكن المفاجئ هو الصمت الدولي والإقليمي
على هذا التصعيد وكأن فيه ضوءا أخضر أطلق يدها في سوريا، حيث لم يكن الاحتجاج الأمريكي
على ما ارتكبته القاذفات الروسية التي انطلقت من إيران وإنما كان الاحتجاج
لمخالفته كسر القيود المفروضة على طهران فقط، كما أن الصمت الإقليمي والعربي
الحليف والداعم للثورة والحديث عن حل سياسي ولقاء مسؤولين روس يأتي في سياق إما
أنهم عاجزون عن فعل شيء، أو أنهم خدعوا بما تقوم به روسيا أو أنه تفويض غير مباشر
لما تقوم به بحجة القضاء على "الإرهاب" تمهيدًا لفرض الحل السياسي الذي
يحرصون على سريته لأنهم يعتقدون مسبقًا أنه لن يلبي رغبة الشعب السوري وثورته،
وبالتالي الكل مسؤول، والكل شريك بما يجري، ولكن لن يكون هناك إلا غالب ومغلوب في
النهاية!.
إن إطلاق يد روسيا وقاذفاتها في سوريا لن يكون في أي
لحظة من اللحظات في محاربة "الإرهاب" وإنها ما تدخلت عسكريًّا في سوريا
إلا لأنها تعتبر الثورة السورية بكل مكوناتها هي عمل إرهابي يجب القضاء عليه، وإذا
لم تستطع إنجاز تلك المهمة على الرغم من وضع كل إمكانياتها العسكرية في ذلك لأنه
كان هناك أطراف دولية وإقليمية متصارعة معها ومتنافسة كان له دور ما في دعم الثورة
أو على الأقل لم تحاربها وقد ظهر ذلك في معركة فك الحصار في حلب التي لم ترض روسيا وحلفائها عن نتائجها
بكل تأكيد، بل إنها تعمل الآن من خلال حراك سياسي ابتزازي مخادع لكل الأطراف على
كسب عامل الوقت من أجل تهيئة الأجواء السياسية والتحضيرات العسكرية لقلب المعادلة
العسكرية التي فرضتها معركة حلب وكسر طوق الحصار النسبي عنها، وإذا ما نجحت فقط
بكسب الوقت وإلهاء الأطراف الدولية والإقليمية من خلال جولة نائب وزير الخارجية
"بوغدانوف" في المنطقة ولقائه بعض الأطراف المحلية المحسوبة على
المعارضة الذي هو بحد ذاته اعتراف بما تقوم به روسيا في سوريا وإن لم يكن هناك
قبول لما يطرحه من حل سياسي للقضية السورية الآن إلا أنه إذا جرت المعركة على
النحو الذي تعمل عليه روسيا الآن تزامنًا مع هذا الحراك السياسي فإن الأمور ستتغير
لصالحها. فهي تُعد مع حلفائها لمعركة إعادة الإطباق على حلب ولعل التصعيد العسكري
الكبير والقصف العنيف من أجل منع تحقيق فك الحصار عمليًّا وتدعيمه وتوسيع نطاقه،
حيث تراهن على أن الفصائل العسكرية ستجد صعوبة كبيرة في الاحتفاظ في مواقعها فضلًا
عن تثيبت فك الحصار بسبب الغزارة النارية
من جهة وأن تلك المواقع غير سكنية فلا صعوبات بشرية تمنع قساوة القصف، فكيف إذا
توقف الدعم عنها، وأُطلقت يد روسيا أكثر من ذي قبل ضمن الصمت الدولي والإقليمي
الذي تفرضه الشراكات العسكرية الدولية والإقليمية في محاربة "الإرهاب"،
ووجد بوتين الفرصة الانتهازية متاحة لتحقيق إنجاز يؤكد حضور موسكو ليس في الساحة
السورية فحسب، وإنما في الساحة الإقليمية والدولية لاسيما أنه بات يحرك عسكريًّا
علنًا من مطار همدان في إيران ويستخدم البوارج الحربية لإطلاق الصواريخ بعيدة
المدى لقتل الشعب السوري؟ وكيف لو شاركت إلى
جانب روسيا بعض تلك الأطراف وفقًا لاتفاق الشراكات العسكرية، عندها علينا
أن نتخيل الحل السياسي الذي سيفرض ليس على الشعب السوري بل على كل الأطراف التي
خدعت بروسيا عن قصد أو غير قصد وأين أصبحت مصالحها التي راهنت عليها في المنطقة
التي يرسم معالمها الأقوياء على الأرض، ويحسم معاركها المنتصرون فيها، ولعل معركة
حلب التي لم تنته بعد، هي التي ستختصر كل ذلك قريبًا!!.
فمعركة حلب ستُحدد في الأيام القادمة ملامح نهاية مرحلة، وتعلن
الخاسر من الرابح محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وستجرى بناء على نتائجها المفاوضات
القادمة، ولكن هذه المرة، ليس على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وإنما على
قاعدة المنتصرون في معارك الجغرافيا السياسية في الشمال السوري وبالتحديد بحلب
وريفها!!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات