حلب ومعركة نهاية الحسم الجغرافي

حلب ومعركة نهاية الحسم الجغرافي
الدكتور جبر الهلُّول
لمْ يكنْ مُفاجئًا أنْ يَتقدمَ النِّظَامُ وإيرانُ والمليشياتُ المتعددةُ الجنسيات تحت المظلة الجوية الروسية ويُحاصرَ مدينة حلب من خلال السيطرةِ على طريق الكاستيلو وبعضِ النقاط القريبة منه، وأن يَحدُثَ تراجعٌ عند الفصائلِ ويتمَّ الانسحابُ من بعض النقاط لتصبح المدينةُ بشكلٍ عام في وضعٍ ميدانيٍّ معقَّدٍ أكثر من ذي قبل، وإنما تجدرُ الإشارةُ أنه كان من المفاجئ أنْ تَصمدَ تلك الفصائلُ أمام هذا الهجوم العنيف من قِبل العدوان الثلاثي (روسيا وإيران والنِّظَام) مدةً زادتْ عن الثلاثة أشهر، تعرَّضتْ فيه حلبُ بكل أحيائها ومراكزها الخدمية بالإضافة إلى محاور الجبهات التي تقدم إليها النِّظَامُ بعد آلافٍ من الغاراتِ الجوية الروسية وللنِّظَام معًا ومئات من البراميل المتفجرة التي ألقاها طيرانُ النِّظَام المروحي وعشرات من محاولات التقدم الفاشلة من جميع المحاور استطاع النِّظَامُ ومَن معَه على الأرض منذ عشرين يومًا تقريبًا أن يُحقق تقدمًا على جهة الملاح وأن يُسيطرَ على طريق الكاستيلو ناريًّا وتمكّن في الأيام الماضية أن يتقدم بريًّا للسيطرة على الطريق بالإضافة إلى بعض النقاط القريبة منه لاسيما في بني زيد.
فحلب لم تُحاصرِ اليومَ، وإنما حُوصرتْ عندما أصبح طريق الكاستيلو منذ ثلاثة أشهر طريقَ الموت وأصبحتْ أحياءُ حلب ومشافيها ومدارسُها وأفرانُها أهدافًا "مشروعةً" بحجة محاربة "الإرهاب" للعدوان الروسي الذي أمّنَ الغطاءَ الكاملَ للعدوان الإيراني وللنِّظَام، ولمْ تستطعْ أنْ تتَّفقَ الفصائلُ وأنْ تُنسّقَ خطةً عسكريةً قادرةً على مواجهة معركة حلب التي وضع مُخططها في الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع الروسي والإيراني والنِّظَام في طهران (9‏/6‏/2016)، كما زاد من إرباكها وتشتت جهدها وإضعاف موقفها الميداني على الأرض توقف دعمها من الدول الحليفة لها الذي جاء تعبيرًا ضمنيًّا عن تفاهم دولي وإقليمي واتفاق أمريكي وروسي أطلَقَ يدَ روسيا في استهدافِ حلب وغض الطرف عن العدوان الإيراني الطائفي في محاولةٍ للتخلص من بعض الفصائل وإضعاف بعضها الآخر التي لمْ تقبلْ بشروطٍ وإملاءاتٍ الاتفاقَ الجديدَ وتمهيد الأرضية للقبول بما سيفرضه من حلٍّ على جميع الأطراف، حيث من الواضح من خلال مجرياتِ الأحداث الميدانية في حلبَ أنَّ غالبيةَ الأطراف الإقليمية الداعمةِ للثورة السورية إما أنها استسلمتْ لتلك الرؤية أو باركتها أو لا حول ولا قوة لها، ولعل محاولةَ الانقلاب الفاشلة في تركيا وما سبقها من عوامل ضاغطة على الحكومة فيها كانت عاملًا مساعدًا تستغلها الأطرافُ الدوليةُ في فرضِ الحل الذي ينسجمُ مع مصالحها ويستفيدُ منها النِّظَامُ ومَن مَعَه كفرصةٍ استثنائيةٍ بانشغال أحد أهم الأطراف الإقليمية المعنية بشكلٍ مباشرٍ بالقضية السوري وتداعياتها لإحداث التغيير الجيوسياسي الذي يُرجِّحُ ميزانَ القوة لصالها في مفاوضاتٍ عمليةِ الانتقال السياسي المقبلة. 
فمن خلالِ نظرةٍ إلى خارطةِ الصراع الدائر في سوريا كلها، يُمكنُ رؤيةُ أنَّ معظمَ الجغرافيا السياسية السورية، تقعُ ضمنَ "محاصصة" محلية وإقليمية ودولية، ولمْ ينته المستفيدون من حسمها بعد، لاسيما في حلب التي اعتبرتها كافةُ الأطراف أنها بيضةُ القبان التي سترسم حدودَ السيطرة والنفوذ لكل الأطراف وبمقدار السيطرة على جغرافيتها تترجح معادلةُ الانتصار والهزيمة. لهذا لا يمكنُ اعتبارُ أن ما وصلت إليه معاركُ الحسم الجغرافي في مدينة حلب قد انتهتْ وحُسمت لصالح النِّظَام الذي يُحاولُ أن يثبتَ ذلك وبخاصةٍ إعلاميا ضمن الحرب النفسية، حيث ما زال من الممكن العملُ على أخذ زمام المبادرة من جديدٍ قبل أن يبسط النِّظَامُ سيطرته بشكلٍ نهائيٍّ على كراجات الليرمون ومنطقة معامل الليرمون ومول ماركتنا ودوار الليرمون، لقطع الطريق على الفصائل، ومن ثمَّ سيعملُ – كما يرجح متابعون للوضع الميداني -  على تعزيز سيطرته باستكمالِ السيطرةِ على نقاط الارتكاز الأساسية المرتبطة بالمعارك اللاحقة في اتجاه الغرب نحو حيّان وحريتان وعندان وبلدة كفر حمرة التي ستكون السيطرة عليها أولوية بعد انتهاء التثبيت في نقاط التقدم الحالية.

إذًا، لابدَّ من إدراكِ أنَّ معارك الحسمِ الجغرافي في حلب وفي غيره من المناطق لم تنته بعد، ولمْ تتوقَّفْ عند هذا الحد، وأنه يمكن اعتبارُها إلى غاية الآن ضمنَ معارك الكر الفر، ولكن خطورةَ هذه المعارك تكمنُ في عامل الوقت الذي سيفرضه الاتفاقُ الأمريكي الروسي من خلالِ إعلانٍ مؤقتٍ زمنيٍ قصيرٍ لفرض وقفِ إطلاق النار ويثبت كافةُ الأطراف حدودَ سيطرتها الجغرافية ويعطي النِّظَام فرصة تعزيز وجوده وتثبيت محاصرة مدينة حلب بالكامل وامتلاك ورقة قوية في القدرة على المساومة فيها. لذا يمكن عامل الوقت القصير في ظل المعطيات الميدانية الجديدة هي لصالح النِّظَام وهو عامل تحد كبير أمام الفصائل التي تفكر أن تعمل على استرجاع النقاط الاستراتيجية التي فقدتها عمليُّا في الأيام الأخيرة قبل فوات الأوان. مع مراعاة والانتباه لوجود "قُوَّات سوريا الديمقراطية" كطرف ثالث موجود داخل المدينة ينافس على الجغرافية السياسية في مدينة حلب قد دخل على خط السيطرة وتقدم على حساب الفصائل باتجاه السكن الشبابي، سيكون له أهميته وحضوره ليس في معارك الحسم الجغرافي فقط في حلب وإنما في الشمال السوري كله!.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »