تعقيدات المشهد السوري تُغيّر ملامح الحل باستمرار
الدكتور جبر الهلُّول
إنّ المُتابع للمشهدِ السوري عسكريًّا وسياسيًّا يجده
بات مُعقدًّا لدرجةٍ تبعثُ على التساؤل أين أصبحت الثورة السورية بكل مفرداتها بين
هذه الصراعات والتنافسات الدولية والإقليمية والمحلية؟ وهل يمكن تخيّل أيّ حلٍّ
سياسيًّ سوف تتوافق عليه هذه الأطراف جميعًا دفعة واحدة؟ ومتى، وبعد أي معركة أو
معارك قادمة لا شيء يُنبئ عن قرب نهايتها طالما أنها جزء من حرب متعددة الوجوه
والأهداف؟! وبخاصة أنّ الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية هي في تحالفاتٍ
مُتحركةٍ ومُتقلبةٍ تتنازعها المصالح البينيّة والحديّة التي انعكست آثارها
السلبية على الساحة السورية عسكريًّا وسياسيًّا ولم تُؤخّر نجاح الثورة وسقوط
النظام بل كادت أن تجعله مستحيلًا - على الأقل في المدى المنظور - لأن الثورة
والنظام معًا أصبحَا ضمن تلك الأجندة وبندًا من بنود مشاريعها التي هي أكبر من
سوريا كجغرافيا وكشعب وإن كانت تلك الجغرافيا قد شَكلتْ مركز الثقل ونقطة الارتكاز
التي تقاطعتْ عليها تلك المشاريع الكبرى التي تَرْسِمُ خريطة المنطقة لعشراتٍ من
السنين القادمةِ وتُحدّدُ مصير شعوبٍ متعددةٍ إثنيًّا وعرقيًّا ودينيًّا على حساب
الشعب السوري بكلّيته.
فإن كان ضحية تلك المشاريع - إلى غاية الآن - ما يزيد عن
نصف الشعب السوري بين قتيل وجريح ونازح ومهجر ولاجئ وبُناه التحتية والفوقية مدمرة
فإن ذلك وِفْقَ مُنَظّري ومُخطّطي تلك المشاريع هو مُجرد "رقمٍ بسيطٍ"
من تلك التكاليف الباهظة التي وُزِّعت أعباؤها على دول المنطقة برمّتها التي لا
يُمكن فَهْمها واستيعابها إلا ضمن عمليّاتٍ حسابيَّةٍ مُعقدّةٍ تجري أولًا داخل كل
دولةٍ ثم تُجمع النتائج مع بعضها، بمعنى لا يمكن فصل الأثمان التي تدفع في سوريا
عمّا دُفِع ويُدفع – وسيدفع - بالعراق وتركيا واليمن وليبيا... وغيرها من الدول الأخرى
التي تُشكل بمجموعها الصورة الكّلية من المشهد المُعقّد في سوريا الذي لا يمكن
استيعاب مجريات أحداثه وتداخلاته الدولية والإقليمية والمحلية بعيدًا عن مُجريات
أحداث المنطقة كلها وتقلبات المصالح فيها.
إن العودة إلى صورةٍ واحدةٍ من المشهد السوري قبل بضعة
أشهرٍ فقط حيث ذهب كثيرٌ من المتابعين والمحللين إلى اقتراب اشتعال حربٍ عالميةٍ
ثالثةٍ كانت ستنطلق شرارتها من سوريا بين أمريكا من جهة وروسيا من جهة أخرى
وحلفائهما لاسيما بين تركيا وروسيا بعد إسقاط تركيا طائرة روسية لاخترقها مجالها
الجوي والتهديدات الروسية التي تبعتها، ومن ثم دعمها وحدات الحماية الشعبية
الكردية وفتح مكتب تمثيلي لفدراليتها في روسيا، الأمر الذي انعكس سلبًا على الثورة
السورية وفصائلها العسكرية وجعلها تخسر كثيرًا من الجغرافيا السياسية لصالح النظام
ومن معه من جهة، ولصالح (byd) التي دعمتها روسيا بالإضافة دعم أمريكا لها، من جهة أخرى، وكذلك
لصالح تنظيم الدولة الذي استفاد من هذا الصراع الإقليمي والدولي ليكون طرفًا
ثالثًا في محاربة الفصائل الثورية والتقدم باتجاه ريف مدينة إعزاز. ثم نجد اليوم
صورةً مُغايرةً تمامًا حيث يجرى التصريح الرسمي عن وجود اتفاقٍ أمريكيٍّ روسيٍّ
عسكريًّ، وأنه تم الاتفاق أيضًا بين تركيا ورسيا على عمل عسكري مشترك ضد
"الإرهاب" على الحدود التركية السورية، لقطع الطريق على قوات سوريا
الديموقراطية التي تحارب تنظيم الدولة، وقد أنهت سيطرتها على مدينة منبج وتُريد أن
تنتقل إلى مدينة أخرى يُسيطر عليها التنظيم، تقرب من وصولها إلى مدينة عفرين التي
تلقّت فيها تلك القوات في ذروة الصراع الروسي التركي المساعدات العسكرية الروسية
من أجل التقدم والسيطرة على مدينة إعزاز المعقل الأخير للثوار في ريف حلب الشمالي
الذي لم يتوقف حينها إلا ضمن تفاهماتٍ دوليةٍ خشية اشتعال حرب إقليمية كبرى.
بالتأكيد لا يغيب عن هذا المشهد إيران الشريك العسكري
القوي لروسيا والنظام على الأرض ضمن حلفٍ عسكريٍّ واحدٍ كان جزءًا أساسيًّا من
القوة البرية التي تشكلت من قواتها مباشرة ومن خلال المليشيات المتعددة الجنسيات
التابعة لها، حيث وضع هذا الحلف الثلاثي ثقلًا عسكريًّا كبيرًا في معركة حلب الذي
أراد من خلال حصارها تحقيق الحسم العسكري والقضاء على الثورة التي كان لتركيا
دورًا إيجابيًّا في إيقافها من خلال دعمها معركة فك الحصار عن حلب.
إن تعقيدات المشهد السوري بناءً على تلك التحالفات
الدولية والإقليمية المتحركة التي أمست تتغير معها ملامح الحل السياسي وتتغير
مجريات الأحداث العسكرية على الأرض التي مازالت لها الأولوية عند كل الأطراف
المتصارعة والتي لا يبدو أن هناك حسم قريب لها طالما أن الحراك السياسي الجاري
اليوم لا يتحدث عن شراكات للحل للقضية السورية بقدر ما يتحدث عن شراكات عسكرية
وتحالفات مصلحية تعود إلى تلك الدول، وينذر بمعارك حسم جغرافية وشيكة يعيش الشمال
السوري على وقع مقدماتها وتنافساتها بالإضافة إلى المعارك القائمة على كل الجبهات
التي لا تنفصل عن هذا المشهد المُعقد وتداعياته بشكل من الأشكال التي لم تعد تخفى
على أحد، وأن أي حل سياسي يجري تداوله الآن لن يخرج عن ذلك التعقيد الذي يُقلل من
فرص نجاحه وقبوله عند كل الأطراف بما فيهم الشعب السوري وقِواه الثورية!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات