سوريا جديدة (4)
الشَّراكةُ العسكريّةُ الأمريكيّةُ الروسيّةُ
لضربِ "جبهة النُّصرة" ومآلاتها!!.
الدكتور جَبْر الهلّول
إنّ العدوانَ متواصلٌ على الشعب السوري، والمعاركُ حامِيةٌ في سوريا على
جبهاتٍ عدة، فالنِّظَامُ ومَن مَعه من إيران وروسيا ومليشياتٍ متعددةِ الجنسيات
لمْ تتوقَّفْ عن محاولاتها إحداث خرقٍ مهْمَا كانَ حجمُه على إحدى الجبهات،
لاسيَّما في مدينةِ حلب فهو بالنسبةِ لهم هو خرقٌ كبيرٌ جاء بعدَ مئاتٍ من
الغَارَات من الطيرانِ الحربي للنِّظَام والروسي الذي جعل من سوريا ميدانًا
لتجريبِ أسلحته العنقودية والفوسفورية وغيرها من الذخائر التي يَزعمُ أنها محرمةٌ
دوليًّا باستثناء قتل الشعب السوري، بالإضافة إلى البراميلِ المتفجرة التي لمْ
يتوقَّفِ النِّظَامُ عن إلقائها لتدمير المُدن والقرى والبلدات والأحياء السورية
على من فيها من البشر، وذلك تمهيدًا لاقتحامها. ولعلَّ مَا يَجري في الملَّاح
وحريتان وعندان وكفر حمرة ... في حلب من محاولاتٍ ليست الأخيرة من أجلِ حصارِ
المدينة والانتقام من أهلها. لكن في مُقابل ذلكَ العدوان الثّلاثيّ (روسيا وإيران
والنِّظَام) كانتْ هناك فصائلُ عسكريةٌ وقُوى ثوريّةٌ لمْ تتصدَّ لتلك الهجماتِ
التي هي الأعنفُ في تاريخِ الثورة السورية، وتَحُلْ دونَ اختراقٍ كبيرٍ على تلك
الجبهات فحسب، وإنّما عَمِلتْ ولم تتوقّفْ عن أخذِ زمام المبادرة والتَّحَوّل من
الدفاعِ إلى الهجومِ، وإحْداثِ خرقٍ وتقدمٍّ كبيرٍ على جبهات العدو وإلحاق خسائر
كبيرةٍ به بشريّة وماديّة على الرغم من عدمِ التكافؤِ في العَدَدِ والعُدَدِ
وبالأخصِّ سلاحُ الطيران.
لا شكَّ أنَّ التَّطوراتِ الميدانيةَ الأخيرة على جبهاتِ القتالِ في ريف
حلب الجنوبي وريف اللاذقية الشمالي ومعارك الملاح وحريتان وغيرها مَعْلمًا مهمًّا
على التعاونِ والتنسيق الكبير بين الفصائل المقاتلة فيما بينها وبالأخصِّ مع
"جبهة النصرة" التي برز أثرُها في الميدان وشهدَ لها الأعداءُ قبل
الأصدقاء والحلفاء في ذلك، وفي سياقِ هذه المجرياتِ والتطورات الميدانية لصالحِ
الثورة يأتي الحديثُ عن مقترحٍ أمريكيٍّ لروسيا عن إمكانيةِ التنسيقِ والتعاون
لضربِ جبهة النصرة واستهدافِها مُقابلَ أنْ يتوقَّفَ النِّظَامُ - وبالتَّأكيد معه
روسيا ضمنًا- عن استهدافِ الفصائل التي تُصَنِّفها أمريكا بأنها معتدلةٌ التي هي
بطبيعةِ الحال مبدئيًّا كلُّ الفصائل باستثناء "جبهة النصرة"
و"تنظيم الدولة" ومَن سيُضافُ إليهما بناءً على قرارٍ سياسيٍّ أمريكيٍّ
لاحقًا، وليس عن طريقِ تصنيفٍ منهجيٍّ موضوعيٍّ محدَّدِ المعايير - كما تُحَاذِرُ
بعضُ الفصائل أنْ تُنسبَ إليها كفكرِ "القاعدة" خشية التصنيف – التي ما
هي إلَّا قوالبُ جاهزةٌ تتبعُ القرارَ السياسي أولًا وأخيرًا. فمثلًا كان يَحْرص
"جون كيري" حتى بداية (2015) عندما يتكلَّمُ عن الفصائل في سوريا أن
يُقْرِن بخطابه: بينَ حركةِ أحرار الشام وجبهة النصرة في إشارةٍ على أنهما وجهانِ
لعملةٍ واحدةٍ هي "القاعدة" على اعتبار أنَّ النصرةَ مصنفةٌ وأنَّ هذا
الاقتران هو تهديدٌ غير مباشر على طريق التصنيف. لكن بعد ذلك عَدَلَ عن هذا
الاقتران من خلال الخطابِ السياسي لا لتغييرٍ حَصَلَ من قِبَل فكرِ الحركة ومنهجها
وإنَّما القرارُ السياسيُّ الأمريكي اقتضى أنْ تَبقى الحركةُ وجيشُ الإسلام على
اعتبارِ أنَّهما أكبر فصيلين في الساحة السورية بمقابلِ وجودِ "تنظيم
الدولة" و"جبهة النصرة" خارج دائرةِ التصنيف السياسي من أجلِ
المحافظةِ على توازنِ القوة في الساحة السورية. ولعلَّ هذا الحرص الأمريكي برز
واضحًا بعد التدخلِ الروسي العسكري في سوريا وبدأ التحضيرُ لتشكيلِ وفدٍ تفاوضي
يُمثِّلُ المعارضةَ العسكرية على الأرض من أجلِ البدء بمحادثاتٍ مع وفد النِّظَام
ضمنَ رعايةٍ دوليةٍ من أجل حل القضية السورية سياسيًّا.
إنَّ التجاذباتِ السياسيةَ بين أمريكا وروسيا لمْ تتوقَّفْ حول وجودِ
تمثيلٍ لجيش الإسلام وأحرار الشام في الوفد التفاوضي إلى أنْ تمَّ الاتفاقُ على
الهدنة في (27) من شهر شباط الماضي وتَبنّيها من قبل مجلس الأمن بالقرار الدولي
(2268) حيثُ نصَّتِ الهدنةُ على وقفِ الأعمال العدائية بين النِّظَام وفصائل
المعارضة باستثناء "تنظيم الدولة" و"جبهة النصرة"، عندها بدأ
البازارُ السياسيُّ ميدانيًّا على الأرض بين الطرفين الأمريكي والروسي حولَ الفصائل
الموجودة في الساحة السورية وبخاصةٍ الموجودةُ منها في الجبهاتِ الاستراتيجية التي
اختارتْ روسيا دعمها إلى جانبِ النِّظَام مباشرةً وبخاصةٍ في مدينة حلب وريفها،
فبينما روسيا أخذتْ تستهدِفُ كافَّةَ الفصائلِ الموجودة في حلب بحجَّةِ أنَّ
"جبهة النصرة" هي العنصرُ الغالبُ فيها وأنها تَسعى إلى السيطرةِ على
حلب. ووفقًا للبازارِ صرَّحتْ روسيا رسميًّا أنَّ أمريكا لمْ تفِ بالتزاماتها
بفصلِ النصرة عن الفصائل المعارضة ولم تقدم لها خريطة توضح ذلك، ولمْ تقبلْ أمريكا
مشاركتها العسكرية مراقبة الهدنة واستهداف من استثنته وتحديدًا النصرة. وفي حين راهنتْ
أمريكا وبعضُ الأطراف على أنَّ الهدنةَ ستؤدي إلى ابتعادِ كثيرٍ من الفصائل عن
النصرة وتكوين رأي شعبي ناقمٍ عليها أُعيدتْ هيكلةُ "غرفة جيش
الفتح" واستطاعتْ أنْ تُحققَ
انتصارًا كبيرًا في ريف حلب الجنوبي وتُفشِل مخططَ معركةِ حلب من جهةٍ، ومن جهةٍ
أخرى عاد البازارُ بين روسيا وأمريكا للانعقادِ لتعديل شروطِ الاتفاق وبخاصةٍ
بعدما استطاعتْ أمريكا أنْ تُحققَ تقدمًّا كبيرًا في محاربةِ تنظيم الدولة
وأَبْعدتْ روسيا من التنسيقِ والتعاون والمشاركة معها في الوقتِ الذي أُحبطتْ
روسيا وأَدركتْ أنها خُدعتْ في الهدنة من حيثُ البنود ومن حيث التطبيق، وفي حين
كانتِ الاتصالاتُ بين الجانبين مستمرةً لإيجادِ صيغةٍ يُتَّفقُ عليها حول جبهةِ
النصرة كَشَفَتْ مُؤخرًا صحيفةُ الواشَنطن بوست الأمريكية أنَّ أمريكا عَرضتْ
اقتراحًا على روسيا يتعلَّقُ بشراكةٍ عسكريةٍ حول ضرب جبهة النصرة مقابل تَوقف
النِّظَام عن استهدافِ فصائل المعارضة التي تُحدّدها أمريكا بالاسم!. ومما نشرته
الصحيفةُ نقلًا عن مسؤولٍ أمريكي: أنَّ نصَّ الاتفاق "تمَّ إرساله الى روسيا
الإثنين الفائت بعد أسابيع من المفاوضاتِ وجدل داخل الإدارة الأميركية".
ويستندُ جوهرُ الاتفاق الذي يتمُّ درسه إلى «مشاركة الولايات المتحدة الطيران
الروسي في تبادلِ المعلوماتِ والتنسيق في ضرب جبهة النصرة... والتعاون بشكلٍ غير
مسبوق ضد المجموعة". وذكر أنَّ أوباما وافَقَ شخصيًّا على الخطةِ، التي فاوضَ
حولها ودعمها بشدةٍ وزيرُ الخارجية جون كيري فيما تحفَّظَ عليها وزيرُ الدفاع
آشتون كارتر.
لكن، وإنْ لمْ يتمَّ التصريحُ الرسمي من قبل الجانبين حول هذا الاتفاق بعد،
وإن قال سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي تعليقًا عنه، في حديث لوكالة
"نوفوستي" الروسية،: "لم نتسلمه بعد، على الرغم من أننا رأينا التقارير
عنه، عندما سنتلقاه سندرسه بشكل دقيق، التعاون الوثيق في محاربة الإرهاب مطلوب فعلا"،
إلا أن الكشف عنه وتسريبه إلى الإعلام بهذا التوقيت الذي تتقدم فيه الفصائل على
جبهاتٍ عدة أهمُّها ريف اللاذقية وريف حلب الجنوبي ومعركة التحالف الدولي في منبج
مهم وخطير جدًّا، بمعنى أنه يُشترط في الاتفاق أن يتوقفَ النِّظَامِ عن استهدافِ
فصائل عسكرية معارضة بالاسم – بالتأكيد هي غير قُوَّات سوريا الديموقراطية التي
لمْ تُستهدفْ من قبل النِّظَام وهي خارجٌ دائرةِ الاشتباك مع النِّظَام أصلًا –
وأنَّ هذه الفصائل ستتوقف عن مواجهةِ النِّظَام أيضًا أي سوف تتوقف المعارك بين
النِّظَام وتلك الفصائل وتبقى الحربُ منحصرةً بمحاربة "جبهة النصرة" في
مناطق المعارضة. ومن المعلوم أنَّ قاعدةَ وجود جبهة النصرة هي مدينةُ إدلب وريف
حلب الجنوبي بشكلٍ أساسيٍّ، وبما أن المعارك ضد تنظيم الدولة باسم التحالف الدولي
الذي تقودُه أمريكا في منبج في الشمال السوري فإن الحرب ضد النصرة في أماكن وجودها
ستكون ضمن تحالف دولي آخر تقوده روسيا وأمريكا في سابقة هي الأولى من نوعها بين
الدولتين!.
إنَّ هذه الشراكةَ العسكريةَ بين روسيا وأمريكا وإن اقتصرت على العمليات الجوية
والمعلومات الاستخباراتية وتحديد الوجود الجغرافي من دون تعيين مواقع بعينها وإن
حُصرِت بجبهةِ النصرة بعينها، إلَّا أنها تأتي في سياق فرض مناطق آمنة وخروجها عن دائرة الصراع وذلك تثبيتٌ
لواقعِ الجغرافية السياسية على الأرض بالقوةِ وتثبيت حدود السيطرة والنفوذ لكلِّ
طرفٍ وقبول النِّظَام بذلك، والإعلان بشكلٍ غير مباشر أن قسم سوريا المعارضة تحت
إشراف أمريكي، وأن قسم النِّظَام تحت إشرافٍ روسي وداخل كل قسم ينحصر نفوذ الدول
الإقليمية ودورها.
لقد فتح البازار النهائي السياسي العسكري الأمريكي الروسي على الفصائل
بجبهة النصرة، لفرض حلِّ القضية السورية عن طريق تقسيم الجغرافيا التي يجب أن تخلو
من الفصائل "الإرهابية"، لكن بمن ستنتهي هذه الشراكة العسكرية؟ وكيف؟
ولماذا؟ وما هي فرص نجاحها؟ ومن هي الفصائل المقابلة التي ستقدمها أمريكا بالاسم
لكي يتم تجنب استهدافها؟ وما دور هذه الفصائل بعد أن تخرج عن دائرة المواجهة مع
النظام؟ وهل ستصبح الحرب مقتصرة على محاربة "التنظيمات الإرهابية" - وفق التصنيف الأمريكي - بمعنى هل الحرب انتهت بين النظام والمعارضة، وستبدأ التسويات السياسية بعيدًا عن معارك المواجهة الأخيرة لتحسين مكاسب الجغرافيا؟!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات