مأزق روسيا وخطوةٌ إلى الخلف
في المشهد السوريّ
الدكتور جَبْر الهلّول
هلْ ستعودُ فصائلُ المعارضةِ العسكريةِ إلى مواقِعها قبلَ التدخل الروسي
30/9/2015 ثمَّ تنطلقُ اللعبةُ السياسيةُ من جديدٍ في ظلِّ المتغيراتِ الميدانيّةِ
الحاصلةِ على الأرضِ، سواء على مستوى معركةِ التحالفِ الدولي ضدَّ تنظيمِ الدولة
وعلى مستوى أخذِ الثُّوَّارِ زمامَ المبادرةِ من جديدٍ في ريف حلب الجنوبي وفي ريف
اللاذقية الشمالي، وكذلك إفشال معركةِ حلب وتوقف عمليةِ الحسم فيها لي طرف؟!.
من المعروفِ أنَّ التدخلَ العسكريَّ الروسي في سوريا منذُ تسعة أشهر أحدثَ
متغيراتٍ ميدانيةً أخلَّتْ بتوازن الصراع لصالحِ النِّظَامِ ومَن مَعَه مِن
المليشياتِ الشيعية المتعدِّدةِ الجنسياتِ وأعطتْه بعضَ الأمل في تحقيقِ مكاسب
جغرافيةٍ استراتيجيةٍ تتعلَّقُ بحلب بعدما استطاعتِ القُوَّاتُ الروسيةُ في خطوتها
الأولى من تأمينِ حدود "الدولة المفيدة" عن طريقِ غطاءٍ جويٍّ كثيفٍ
وقصفٍ من البر والبحر مَكّنَ النِّظَامَ من احتلالِ غالبيةِ ريف اللاذقية الشمالي
والسيطرة على نقاطٍ استراتيجيةٍ مهمَّةٍ جعلته يخططُ إلى الخطوةِ التالية التي
تهدِّدُ مدينةَ إدلب وريفها وبالأخصِّ جسر الشغور، ثمَّ استطاعَ أيضًا أنْ
يتمكَّنَ من التقدم والسيطرة على نقاطٍ استراتيجيةٍ مهمَّةٍ في ريف حلب الجنوبي
واقتربَ من طريق حلب دمشق الدولي وبدأ يتطلَّعُ إلى إطباقِ الحصار على حلب والتقدم
باتجاه إدلب أيضا، وذلك باتجاه مطارِ تفتناز وفكِّ الحصار عن كفريا والفوعة، وخلال تلك العملياتِ استطاع
أنْ يتقدَّمَ باتجاه ريف حلب الشمالي ويحتلَّ بعضَ النقاط ويفكَّ الحصار عن نبل
والزهراء. هذه المحصلةُ الكلية للتدخل الروسي جلعتْ من مدينة حلب هدفًا محوريًّا
استراتيجيًّا وبالأخص للنِّظَام وإيران مستفيدين من الغطاءِ الجوي الروسي لأقصى
درجةٍ الذي لمْ يتوقفْ عن استهدافِ حلب منذ أكثر من شهرين ونصف وبخاصةٍ أنَّ هذا
القصفَ بالإضافة إلى توزيع الأدوار والشراكة في العدوانِ على الشعب السوري
وتحقيقًا لمصالحَ روسيةٍ متعددةٍ جاء تعبيرًا انتقاميًّا عن الموقف الروسي من
تركيا التي أسقطتْ له طائرةً انتهكتِ المجالَ الجويَّ التركيَّ كما أنَّ
النِّظَامَ وإيران كانا يريدان توجيه ضربةٍ إلى تركيا عن طريقِ روسيا واستحكامِ
الخلاف بينهما من خلالِ استهدافِ حلب وصولًا إلى الحدودِ التركيةِ والسماح لوحدات
الحماية الشعبية من تحقيق تقدمٍ باتجاه الحدود التركية ودعمها.
ولكن الآن، بعدما استطاعتْ غرفةُ جيش الفتح التي تمتِ المراهنةُ على
تفتيتها واستنزافِها أنْ تستعيدَ السيطرةَ على غالبية النقاط التي تقدَّمَ لها
النِّظَامُ ومَن معه في ريف حلب الجنوبي، كما استطاعَ الثُّوَّارُ من خلال معركةِ
اليرموكِ من استعادةِ السيطرةِ على العديدِ من النقاط الاستراتيجية في الساحلِ
السوري في شمالِ اللاذقية، وتوشكُ المعركةُ أنْ تُعيدَ الواقعَ الميدانيَّ إلى ما
كانَ عليه قبلَ التدخل الروسي في (30/9)، كما تمكَّنَ الثُّوَّارُ المرابطون داخلَ
مدينةِ حلب من التصدي لكلِّ محاولاتِ التقدم إلى داخل المدينة كما فشلتْ كلُّ
محاولاتِ حصارها والسيطرة على طريق الكاستيلو، وأنَّ التقدمَ الذي حصل في مزارع
الملاح تحتَ غطاءِ مئاتٍ من الغارات الجوية على خطورته إلا أنه لا يحتاجُ سوى أنْ
تتوقَّفَ الطائراتُ الروسيةُ حتى يتمكَّنَ الثُّوَّارُ من استعادة الوضع إلى مكان
عليه والتقدم لفرض حصار على نبل والزهراء من جديد وفتح طريق حلب الشمالي!.
إنَّ هذا الواقعَ الميداني وَضَعَ الروسَ في مأزقٍ كبيرٍ وخياراتٍ صعبةٍ
فليس من السهولة الانسحابُ من سوريا وإن أعلنوا ذلك جزئيًّا من قبل تكتيكيًّا
لأنَّ الانسحابَ هو إقرارٌ بالهزيمة إلى جانب حلفٍ لا يمتلكُ قدرةَ التحرك على
الأرض والمحافظة عليها من دون الاعتماد الطيران الروسي، كما أنَّ روسيا لمْ تدخلْ
في سوريا لتكونَ مجرَّدَ غطاءٍ جويٍّ لعملياتِ إيران والنِّظَام وحزب الله التي
تتعارضُ مع تفاهمها مع إسرائيل الذي كرَّرَ نتنياهو زيارته إلى موسكو عدَّةَ مراتٍ
في هذا الخصوص. وبالمُحصلةِ لمْ تستطعْ روسيا أنْ تُحقِّقَ شراكةً عسكريةً أو
سياسيةً مع أمريكا بخصوصِ سوريا لاسيَّما أنَّ قرارَ تدخلها العسكري مبنيٌّ على
أساسِ محاربة الإرهاب وإذا بها تجدُ نفسَها بعيدةً عن أي دورٍ داخل التحالف الدولي
ضد "الإرهاب" من العراق إلى سوريا وأنَّ أمريكا على وشك إعلانِ "انتصارٍ
" كبيرٍ في هذا المجال بدأ في الفلوجة وستتبعه في منبج ولاحقًا في الموصل
والرقة بعد الانتهاءِ من المعركة على طرفي الحدودِ السورية العراقية في الرمادي
ودير الزور.
فهل روسيا فشلتْ في معركةِ الإرادات الدولية في سوريا التي دفعتْ كلُّ
الطرافِ مَا لديها من قوةٍ فيها وبدأت تبحثُ عن مخرجٍ وبدأتْ تتخلى بشكلٍ بطيءٍ عن
حلفها الخاسر النِّظَام وإيران اللذين صعدّا إعلاميًّا وميدانيًّا حول معركة حلب
فجاءَ الرَّدُ صريحًا على لسان السفير الروسي بدمشق: "إنَّ سلاحَ الجوِّ الروسي
ساعدَ القُوَّاتِ الحكوميةَ السورية على تجنبِ الحصار قرب حلب"، مؤكداً:
"لستُ على يقينٍ من شن هجومٍ على حلب في المستقبل المنظور، وبالنسبة إلى الرقة
أودُّ أنْ أحجم أيضاً عن أي تكهناتٍ محددةٍ بخصوص تحريرها". وتابع "بصراحةٍ
أنا لستُ متأكداً على الإطلاق من أنَّ هذا قد يحدث في القريب العاجل".
لاشكَّ أنَّ هذا التصريحَ رسالةٌ سلبيّةٌ واضحةٌ موجهةٌ إلى النِّظَام
وإيران بالدرجة الأولى، ورسالةٌ إيجابيةٌ باتجاه الطرف الآخر لاسيما تركيا بناء
على المستجدات المتسارعة في إزالة تداعيات إسقاط الطائرة الروسية على العلاقات بين
بلديهما، لكنه خطوةٌ استباقيةٌ إلى أنَّ حلبَ بعد معركةِ الإرادات الدولية
والإقليمية العنيفةِ التي دارت عليها لنْ تُحسمَ لطرفٍ دون آخر وستدخل في مرحلةٍ
لاحقةٍ لإعادة الأوضاع لما كانت عليه قبل التدخل الروسي عن طريقِ معاركَ ميدانيةٍ
مخصصةٍ ثم تترك حلب مستقبلًا للمساومات السياسية وفقًا لما ستؤول إليه الحلول التي
تعتمد على تقاسم الجغرافيا السياسية وإدارتها ذاتيًّا!.
إن القضيّة السوريّة ستكون على موعدٍ آخر مع مرحلةٍ مهمةٍ وربما
حاسمة من خلال جولةٍ جديدةٍ من الحرّاك السياسيّ وفقًا للمتغيرات الميدانية
المستجدة التي تُعبر عن تفاهماتٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ عن طريق اتصالاتٍ مكثفةٍ
بين جميع الأطراف الدوليّة والإقليميّة المُؤثرة والمُتدخلة في الملفّ السوريّ،
وهذه المرحلة التي يُحضّر لها جغرافيًّا على الأرض قبل البدء بها سياسيًّا لن تُبْني
على ما تم التوصل إليه في جولات جنيف3 التي فشلت في تحقيق أي تقدمٍ والاتفاق على
مسائل جوهريّة وخطوط عريضة للحل، وإنما ستُراعى فيها مستجدات المرحلة عسكريًّا
سياسيًّا وسيُعمل في هذه الجولة على تخفيف الصدام بين المعارضة والنظام والتركيز
بشكلٍ أكبر على محاربة "الإرهاب" التي ستحرص روسيا على دورٍ أكبر في
التنسيق والمشاركة فيها جنبًا إلى جنبٍ مع أمريكا على حساب حلْفها السّابق مع
إيران والنظام من خلال اتخاذها خطوة إلى الخلف في المشهد السوري إلى ما قبل
30/9/2015 وهذه الخطوة يتوقف الإسراع في إنجازها أو التباطؤ فيها بناء على سرعة
التفاهم مع أمريكا فيما يتعلق بمقترح الشراكة العسكرية لضرب "جبهة النصرة"
وشُروطها.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات