سوريا جديدة (3)
ملامِحُ سِيناريو حلّ القضيّة السوريّة
الحلّ الجُيوسياسي لإنهاء الحرب (التقسيم غير المباشر)
الدكتور جَبْر الهلُّول
باتَ يسودُ شبُه اقتناعٍ لدى كثيرٍ من المراقبين والمحلِّلين أنَّ المعاركَ
التي تَجري في الشمال السوري هي معاركُ التقسيم التي تَرسمُ حدودَ السيطرةِ والنفوذ
التي ستنتهي عندها القضيةُ السوريةُ كأمرٍ واقعٍ ضمنَ سيناريوهاتٍ متعددةٍ لا
تخرجُ عن هذا السياق. مع العلمِ أنَّ مشاريعَ التقسيمِ للمنطقةِ يتمُّ تداولُها
منذُ سنواتٍ عدَّةٍ وبخاصةٍ كلما يتمُّ الحديثُ عن سايكس بيكو ورغبة الدول الكبرى
بالتغيير وَفقَ متغيراتِ القوة التي يفرضُها الصراعُ والتنافسُ الدوليُّ على الشرق
الأوسط.
إنَّ الحديث عن مشاريع التقسيم بالأصل طُرحت من ضمن الخطط الاستراتيجية
الصهيونية التي نُشرت في الصحف الإسرائيلية في بدايةِ الثمانينيات من القرن الماضي
وجعلت أولويات التقسيم أنَّ تبدأ بالعراق وسوريا ومن ثم سائر دولِ المنطقة، لكن كل
ما سبق ذكرُه عن التقسيم لمْ يكنْ يعدو سوى دراساتٍ وأبحاث مستقبلية لمْ تصلْ إلى
بدء ترسيخ قناعاتٍ عمليةٍ بأنَّ ذلك سيكون ممكنًا واقعًا إلَّا مع تصاعدِ الأحداث
في سوريا، وإدراك أنَّ تعقيداتِ حلِّ القضية السورية ووصولها إلى طريقٍ مسدودٍ،
وتعاظم صناعة "الإرهاب" في سوريا، وهدمِ حدود سايكس بيكو أمامه بقرارٍ
دوليٍّ، وتحول الصراع الدولي والإقليمي بشكلٍ مباشرٍ إلى داخل سوريا، هي الخطواتُ
العمليةُ التي ستُرجّح أحد سيناريوهات التقسيم المطروحة وَفقَ مُتغيراتِ
موازين القوة على الأرض واعتماد مبدأ الحسم الجغرافي والعمل العسكري لإخراجِ مناطق
بعينها عن دائرةِ الصراع لتكونَ ضمنَ المشروعية الدولية على اعتبارِ أنه تمَّ عن
طريقها طردُ "الإرهاب" منها المتمثل في سوريا والعراق بتنظيم الدولة!.
إنَّ تصورَ أيِّ سيناريو من سيناريوهات التقسيم لمْ يكنْ يقترب من مُخيلة
السوريين، ولم يكنْ يجد مجرَّد الأرضيةِ أو قابلية التفكير به أو إمكانية مناقشته
على الرغمِ أنَّ واقعَ الثورةِ جعلَ الجغرافية السورية مُقسّمة، قِسْمًا محررًا من
النِّظَام، وقِسْمًا ما زالَ يُسيطرُ عليه النظام، وأنَّ تنظيمَ الدولة سيطَرَ على
قسمٍ كبيرٍ من المُحرّر فأصبح قسمًا ثالثًا، وكلًّا من الأطراف الثلاثة في تلك
الأقسام الجغرافية اتَّسمتْ معاركُها الأخيرةُ بأنها معاركُ تتعلقُ بالجغرافيا
بالدرجة الأولى. لكن على الرغم من هذا الواقعِ التقسيمي المُعاش، وعدم وجود تصور
واضح عن إمكانية وكيفية أن تكونَ تلك الأقسام الثلاثة مستقبلًا قسمًا واحدًا يضمُّ
إليه قسمًا رابعًا ظهرَ على أكتافِ الثورة تحت مسمى "فدرالية شمال
سوريا" التي تخوضُ أيضًا الآن معارك ضد تنظيم الدولة ترسم من خلالها حدودها
الجغرافية في الشمال السوري، ما زالتْ هناك إشكالية مُنحصرة بالمعارضة في مواجهة
هذا الواقع والتعامل معه على الأقلِّ أنه أسوأ الاحتمالاتِ التي ستخرجُ به الثورة،
ومن الضروري التعاملُ معه بجرأةٍ وجديةٍ، وبخاصةٍ أنه أصبح مطلبًا لبعض الأطراف،
وخيارًا لابدَّ منه عند ، وأنه الخيار الوحيد المتفق عليه دوليًّا، وإنَّ الخلافَ
لمْ يعدْ على الفكرة وإنما على السيناريو الذي تَسعى الأطرافُ الدوليةُ على فرضهِ
وفق مبدأ القوة وصراع المصالح والنفوذ على سوريا وفي سوريا!.
إنَّ المعاركَ القائمة الآن، وبالأخصِّ في الشمال السوري هي معاركُ الحسم
الجغرافي، وهذا الحسم يعني التقسيم في صورة من صوره ووفق أحد سيناريوهاته، وإنَّ
اختيارَ مدينة منبج ليس إلّا لتكون أحد بواباته الرئيسة التي ستؤدي تِباعًا إلى
إبراز معالمه وَفق أحدِ السيناريوهات المطروحة التي يُعمل على تنفيذها الآن من
خلال تكوينِ مجالس عسكرية ومدنية باسم المُدن التي تَكادُ تُشيرُ إلى إبقاء غرب
سوريا ضمنَ كينونةٍ واحدةٍ تمتدُّ من اللاذقية إلى دمشق - وتشمل اللاذقية وطرطوس
وحمص وحماة ودمشق - تحتَ سلطة النِّظَام المركزية، بينما الشمالُ السوريُّ "فدرالية
شمال سوريا" سيكون قِسْمًا آخر يكون لكلِّ مدينةٍ فيه إدارتها الذاتية
مدنيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا ضمنَ مظلةٍ واحدةٍ تجمع المدن على أن لا يكون لكل
مدينة سيادة سياسية مستقلة خاصة بها. ثم سيُعمل في مرحلةٍ لاحقةٍ في إطار حلِّ
القضية السورية على إيجادِ مظلة واحدة مدنية وعسكرية تُمثّل السيادة السورية سياسيًّا تجمع القسمين
الشمالي والغربي، بالإضافة إلى الأقسام الأخرى – الجنوب السوري _ تحت مسمى
"دولة سوريا" الجديدة ضمن آليات دستورية تناسب الواقع الجيوسياسي الجديد!.
لكن الإشكاليةَ المطروحةَ في هذا السيناريو ما زالت تتعلَّقُ بشخصِ
"بشار الأسد" تحديدًا وليس بنظامه. إذ أنَّ بقاءَه في السلطة سيبقى
مانعًا أو مُعرقلًا لوجودِ المظلة الموحدة التي تُحافظُ على بقاء اسم الدولة.
وبوجودِ دعمٍ روسيٍّ له مباشر وعدم وجود إرادة دولية لاستخدام القوة لإزاحته عن
السلطة يمكن عن طريق هذا السيناريو تجميد الصراع بين النِّظَام والمعارضة على
الأقل ريثما يتم الاتفاق على مصير "الأسد" ودوره في المرحلة اللاحقة
التي على الأغلب سيكون فيها للمجلس العسكري العام دورًا بارزًا في قيادة المرحلة
الانتقالية والتوجه نحو محاربة "الإرهاب"!.
إنه يمكنُ عن طريق هذا السيناريو أنْ
تعودَ الحياة تدريجيًّا إلى المدن المُحررة التي ستنشغل بإدارة نفسها لمعالجة ما
خلفته الحرب بينما تنطلقُ المحادثاتُ السياسيةُ بعيدًا عن ضغط مجريات الأحداث
الميدانية من أجل البحث عن اتفاقٍ حولَ آلية الحكم المستقبلية وفق الجغرافية
السياسية التي أفرزتها القضيةُ السورية والتدخلات الدولية والإقليمية والمحلية.
لكن ريثما يتمُّ هذا الاتفاق المرتبط بالأطراف الدولية والإقليمية الذي قد يستغرقُ
سنواتٍ يصبحُ الواقع التقسيمي مألوفًا ومعاشًا طالما أن معارك الجغرافيا الكبرى قد
حسمت وبخاصةٍ في الشِّمال السوري لا سيما بمدينة حلب وريفها.
إذًا ووفقًا لهذا السيناريو يمكنُ أنْ نَفهمَ معركةَ حلب الكبرى التي تجري
الآن، ولماذا هذه الهجمة العدوانيّة التدميريّة من الحلف الثلاثي (روسيا وإيران
والنِّظَام) عليها وما مدى أهمية وخطورة معركة مدينة منبج التي اختيرتْ بعنايةٍ
لتنفيذ السيناريو الذي سيؤدي إلى فرض حل للقضية السورية أمريكيًّا وسيجد دعمًا
دوليًّا وإقليميًّا ورغبة محلية في تنفيذه، وستجد روسيا نفسها أنها قد سقطتْ ضمنَ
منهجِ الأحلاف الإقليمية، ولمْ تستطعْ أنْ تصعدَ إلى مستوى الشراكة الدوليّة
الثنائيّة القطبيّة مع أمريكا من خلال تدخلها العسكري المباشر في سوريا!.
يمكن القول باختصار: إن هذا السيناريو الذي يقوم على إخراج الجغرافيا من
دائرة الصّراع الذي هو في جوهره تقسيم بصورة ما، يجعله مقبولًا لحلّ القضية السوريّة،
ومرتبط بمجريات الأحداث العسكريّة في الشمال السوريّ، وبخاصة بمعركة منبج والدور
الروسي في تعطيل هذا السيناريو أو إفشاله أو التّوصل إلى تفاهم ما مع أمريكا على
تطبيقه، وذلك على حساب حلفائها إيران والنظام، والمُساومة على "الأسد" الذي لابدّ من الاتّفاق على التّخلص منه بطريقة ما في مرحلة من
مراحل هذا السيناريو كشرطٍ لإنجاحه!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات