القَضيَّةُ السُّوريَّةُ في مَشْهَدٍ سِياسيٍّ وعسكريٍّ أخيرٍ
أمريكا – روسيا الشَّوط الثّاني من الّلعب (2)
الدكتور جبر الهلّول
انتهت الحرب بالتأكيد أنك تمزح يا دكتور جبر!!
كَشَفَتْ مُؤخرًا صحيفةُ الواشَنطن بوست الأمريكية أنَّ أمريكا عَرضتْ
اقتراحًا على روسيا يتعلَّقُ بشراكةٍ عسكريةٍ حول ضرب "جبهة النصرة"
مُقابل تَوقّف النِّظَام عن استهدافِ فصائل المعارضة التي تُحدّدُها أمريكا
بالاسم!. ومما نشرته الصحيفةُ نقلًا عن مسؤولٍ أمريكي: أنَّ نصَّ الاتفاق
"تمَّ إرساله الى روسيا ... بعد أسابيع من المفاوضاتِ والجدل داخل الإدَارَة
الأميركية". ويستندُ جوهرُ الاتفاق الذي يتمُّ درسه إلى «مُشاركة الولايات
المتحدة الأمريكية الطّيران الروسي في تبادلِ المعلوماتِ والتنسيق في ضرب
"جبهة النصرة"... والتعاون بشكلٍ غير مسبوقٍ ضد المجموعة". وذَكَرَ
أنَّ "أوباما" وافَقَ شخصيًّا على الخطّةِ، التي فاوضَ حولها، ودعمها
بشدّةٍ وزيرُ الخارجية جون كيري، فيما تحفَّظَ عليها وزيرُ الدفاع "آشتون
كارتر".
غَلبَ على ما نشرَته الواشنطن بُوست صفة التَّسريب الإعلاميّ المقصود الذي
لم يتمْ تَبَنِّيه بشكلٍ رَسميٍّ من أحد الطّرفين أو توضيح ما يجري بشكلٍ علنيٍّ،
وأَخذَتْ الردود بينهما شَكْلَ رسائل سياسيَّةٍ مُتبادلةٍ عبر وسائل الإعلام. ثمّ
أعْقبَ ما نشرَتْه الواشنطن بوست وخلال تلك الرسائل السياسيّة الإعلاميّة - التي
لم تتوقفْ إلى غاية الآن - اتّصالٌ بين
وزيريّ الخارجية كيري ولافروف وبعد ذلك اتّصالٌ بين الرئيسين "بوتين"
و"أوباما"، وبحسب ما أّعْلنَ الكرملين بالقول: "أكّد الرّئيسان
الروسي فلاديمير بوتين والأميركي باراك أوباما، خلال مكالمة هاتفية يوم الأربعاء
الماضي، استعدادهما "لتكثيف التَّنسيق" العسكريّ بين بلديهما في
سوريا". في حين علّق المُتحدّثُ باسم البيت الأبيض "جوش إرنست" على
الاتّصال الهاتفيّ بين الرئيسين نافيًا التّوصل إلى اتفاقٍ جديدٍ بين موسكو
وواشنطن لتعاونٍ عسكريٍّ في سوريا من خلال الاتصال الأخير بينهما. وقال نائبُ وزير
الخارجيّة الروسي سيرغي ريابكوف, يوم الخميس الماضي، إنّ موسكو مُستعدّة لدراسة
مقترحٍ من الولايات المتحدة حول إبرام اتّفاقيّة للتّعاون العسكريّ في سوريّا.
إلَّا أنّ وزير الدفاع الأمريكي "آشتون كارتر" شَكّك, مطلع الشهر
الحالي, في إمكانيّة نجاح اتّفاق تعاون عسكريّ مرتقبٍ مع روسيا بشأن سوريا,
مُعْرِبًا عن استعداد واشنطن للتّعاون مع موسكو في هذا الخصوص بشرط "التزام
الأخيرة بالتّوجه الصّحيح"!.
إنّ الأمرَ الّلافتَ للانتباه أنّ "الكرملين" و"البيت
الأبيض" قدّما روايتين مُخْتلفتين للاتّصال الهاتفيّ، ففي حين ركّز
"الكرملين" على دعوة "بوتين" نظيره الأميركي على العمل من أجل
"فَصْل" الفصائل المعتدلة عن مواقع ومناطق وجود "جبهة
النصرة"، فإنّ البيتَ الأبيض شدَّد على طلبِ "أوباما" بأنْ تضغط
روسيا على النِّظَام لِحَمْلِهِ على احترام وقف الأعمال العدائيّة والامتناع عن
الاستهداف الجّويّ لمواقع الفصائل المُعتدلة المُشاركة في العمليّة السياسيّة.
وبالطّبع، فإنّ الطّرفين أَبْديَا تَوافقًا على "الرَّغبة في تعزيز التّنسيق
بين العسكريين الروس والأميركيين"، والتزامهما إلحاق الهزيمة "بتنظيم
الدولة" و"بجبهة النصرة" كما شَدَّدَا على أهميّة العودة إلى
مُحادثات جنيف!.
إنّ كثيرًا من المُراقبين والمُحلّلين السّياسيين يُتابعون مُجريات الحِراك
السّياسيّ بين أمريكا ورسيا فيما يتعلّق بالقضيّة السّوريّة، وبخاصةٍ أنّ هذا
الحراكَ جاء خِتامًا لمرحلةٍ سابقةٍ بدأتْ بتفاهمٍ كبيرٍ بين الدّولتين سلَّمت فيه
أمريكا روسيا إدَارَةَ الملفّ السوريّ بشكلٍ كبيرٍ، وكانت من نتائجه التّدخل العسكريّ
الروسيّ في سوريا، وتغيير في موازين القوى لصالح النِّظَام الذي كان يُوشِك على
الانهيار، ثم كان نتيجة ذلك التغيير، وضعَ القضيّة السوريّة على سكّة الحراك
السياسيّ الذي تُريده روسيا لاسيما أنَّ هذا الحراك كان برعايةٍ أمريكيّةٍ روسيّة
همَّشتْ مجموعةَ العمل الدولية (17) المتعلقة بسوريا. لكن غالبيّة المحلّلين
والمُشاركين في محادثات جنيف3 كانوا يُدْركون أنّ كلّ ما يجري لن يُؤدّي إلى حلّ
القضيّة السّورية سياسيًّا الذي لم تتوفرْ ظروفه ولا أسسه ولا أدنى الإمكانات
لنجاحه لدى جميع الأطراف، وإنما كان الهدفُ هو استثمارٌ لعامل الوقت من أجل إتمام
الخديعة بحسم الحراك العسكري على الأرض لصالح النِّظَام والقضاء على الثورة، في
حين اعتبر النِّظَام نفسه ومن معه أنَّ هدنةَ الأعمال القتالية في 27 شباط كانت
خديعةً لهم لأنها أوقفتِ الاستمرار في التقدم العسكري والسيطرة على حلب والوصول
إلى الحدود التركية تحت مظلّة الطيران الروسي، كما أنَّ روسيا أدركتْ بعد إعلان
أمريكا معركة الرقة ضد التنظيم الدولة من دون قَبول التّنسيق معها ورفض مشاركتها
ضرب "جبهة النصرة" في حلب خديعة لها أيضًا، بالإضافة وجدت روسيا نفسها
بعد تسعةِ أشهر مِن مساعدة والنِّظَام وإيران عسكريُّا أنهما يريدان منها أن تكونَ
مجرَّدَ وسيلة لتحقيق مكاسب أيديولوجية تضعها في الطرف الخاسر مستقبلاً في
المستقنع السوري الذي شجعتها أمريكا على الدخول فيه، وأوشكت من خلال ذلك أن تدخل
في حرب كبرى مع تركيا التي تربطها بها مصالح اقتصادية واستراتيجية كبيرة تتعارضُ
مع الأهداف التي دفعتها للتدخل العسكري في سوريا وما آلت إليه الأحداث العسكرية
والسياسية فيها.
إنه يُمكن القولَ: إنّ مرحلةَ التفاهم الأمريكية الرُّوسية السّابقة انتهتْ
عمليًّا بتوقف محادثات جنيف والتغيير العمليّاتي على الأرض لصالح المعارضة في ريف
حلب الجنوبي وريف اللاذقية وانطلاق معركة التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ضدَّ
تنظيم الدولة، وبخاصةٍ في مدينة منبج، حيث ارتفعتْ حِدّة نبرة الخطاب بين
الطّرفين، لاسيما، من قبل روسيا تجاه أمريكا، على الرغم أنها لمْ تتوقفْ عن عرض
الشّراكة والتّنسيق عليها، وإنْ كانتِ الاتّصالاتُ بين الطرفين لمْ تنقطعْ من أجل
التوصل إلى اتفاقٍ حول آلية التعامل المشترك بين الطرفين ضد "جبهة
النصرة". لهذا جاء المُقترح الأمريكي الذي سرّبته "الواشنطن بوست"
وما تبعه من اتصالاتٍ وحراكٍ سياسيٍّ بين البلدين تعبيرًا عن تحضيراتٍ لمرحلةٍ
جديدةٍ تقوم على تفاهمٍ روسيٍّ أمريكيٍّ جديدٍ حول محاربة "الإرهاب
أولًا" وفق المُتغيّرات الميدانيّة المُستجدّة على الأرض، وإنَّ هذه المرحلة
هي شوطُ لعب آخر بينهما، ولهذا ما سنتابعه من حراكٍ سياسي لا يعدو أن يكونَ سوى
تحضيراتٍ لبدء اللعب "النظيف" والمساومة من أجل الاتفاق على شروطه
وقواعدِه العريضة التي ستحسم نصف نتيجة المرحلة التي تتعلق بالقضية السورية قبل
بدئها، والنصف الآخر يعتمدُ على تكتيكاتِ كل طرف بما يتعلق بمحاربة
"الإرهاب" أثناء اللعب!.
إذا كانت هذه المرحلةُ وَفق المقترح الأمريكي ستثمر عن اتفاقِ شراكة عسكرية
بشروطٍ سيتفق عليها الجانبان فإنها ستُلبّي الرغبة الروسية التي خسرتْ في المرحلة
السابقة، وتريدُ الخروجَ من المأزق والإرباك الذي وقعتْ فيه، كما إنها ستلبي
الاستراتيجية الأمريكية التي جعلتْ أولويتها محاربة "الإرهاب" وأنَّ
موضوعَ مصير النِّظَام والمعارضة وآليات الحل السياسي ستحسمُ على حساب أولوية محاربة
"الإرهاب" سلفًا لأنَّ الرئيسَ الأمريكي "أوباما" يريد أن
يُحققَ إنجازًا في الحرب على الإرهاب ضدَّ "تنظيم الدولة" "وجبهة
النصرة" قبل انتهاء ولايته، وأن ذلك لابد أن يَمُرّ عبر التعاون والتنسيق مع
روسيا عبر قواعد اللعبة من جديد وشروطها والاقتراب التكتيكي من التصوراتِ الروسية
لكيفية الخروج من الحرب في سوريا.
إذًا، إنه الشّوط الثّاني من الّلعب الأمريكيّ الروسيّ على الأرض
السُّوريّة، وإنه من المُمكن الاستفادةُ من هذا الشوط لمصلحة الثّورة والقضيّة
السوريّة إذا تَمّ إدراكُ خطورةِ هذه اللعبة وأهميتها الدولية والإقليمية
والمحلية، وأنها لكافة الأطراف كَمَنْ يلعبُ بالنَّار، وأنّ أخذَ زمام المُبادرة
في الأيام الأخيرة على جبهات القتال لصالح الثُّوَّار لا يعني أنَّ روسيا ستنسحب
عسكريًّا من سُوريَّا، وإنّما سَتزيدُ من قُوَّاتها العسكريّة وسَتُضاعفها تحسبًّا
للخديعة والفشل مرة أخرى مع أمريكا لتعود إلى الجبهات كُلّها بشراسةٍ أكثر من ذي
قبل في الوقت المناسب، حيثُ سيحرصُ النِّظَامُ وإيران كثيرًا على تلك العودة من
جديد وسيعملان عليها بالخفاء!!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات