أمريكا وروسيا "لُعْبَتهما" سُوريّا

أمريكا وروسيا "لُعْبَتهما" سُوريّا
الدكتور جَبْر الهَلُّول
ليس اكتشافًا عظيمًا القولُ: إنَّ كُلَّ مَا يَجري اليومَ في سوريا لمْ يَعدْ يخرجُ في خطوطهِ العريضةِ وتفصيلاتِه الدقيقةِ عن لاعبينِ لُعْبَتهما سوريّا أمريكا وروسيا، من خلالِ استراتيجيتين متنافسَتين يَحْكمُ قواعدَ اللعبةِ بينهما فيها تكتيكاتٌ ليس من حساباتها قضية الشعبِ السوريِّ ولا ثورته ولا مُعاناته ولا الفصائل "المعتدلة" أو "المتطرفة" ولا حتى محاربة "الإرهاب" أو النِّظَام إلَّا بمقدارِ مَا يَخدمُ تلك الاستراتيجيتين ،على اعتبار أنها أدواتُ اللعب التي لا يمكنُ الاستغناءُ عنها من أجلِ الوصولِ إلى الهدفِ. كمَا أنَّ هذه التكتيكاتِ لم تُلْقِ اعتبارًا للدولِ الأخرى الغربية والإقليمية كمجموعةِ العملِ الدولية المتعلقةِ بسوريا إلَّا على سبيلِ الاستثناءِ فجعلتْ منها إمّا مُتفرّجًا ومُهمّشًا أو مُساعدًا في بعضِ المهام ومنها أدواتٌ في اللعبة وربما لوجستيًّا أو مُمَوّلًا لا أكثر!.
فأمريكا برئاسةِ "أوباما" التي جعلتْ سوريا لعبتَها لتحقيقِ استراتيجيتِها في صناعةِ "شرقٍ أوسطٍ جديدٍ" في خطوةِ إلى الأمام ليستْ كروسيا "بوتين" التي جعلتْ سوريا لعبتها لكي تُعيدَ حلمَ القيصرية "للقيصر الجديد" أو على الأقلِّ العودةُ إلى القطبيةِ الثنائية إلى جانبِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية قُبيل انهيار "الاتحاد السوفييتي" التي كان لأمريكا دورٌ بارزٌ في ذلك الانهيارِ أثناءَ الحربِ الباردةِ، كمَا كانَ للمسلمين لاسيما العربُ في أفغانستان أثرٌ في ذلك الكابوسِ الذي ما زالَ يُؤرِّقُ "بوتين" إلى غاية اليوم.
فاللعبةُ "سوريا" هي واحدةٌ بالنسبة إلى أمريكا وروسيا لكنْ في استراتيجيتين مختلفتين فإنْ كانتِ الأولى تَسعى من أجلِ المحافظةِ على القطبيةِ الأحادية والدفعِ بها إلى الأمام عن طريقِ تفعيلِ أدواتِ الصراع وإعادةِ تقسيم المنطقة انطلاقًا من سوريا على أُسسٍ إثنيَّةٍ عرقيةٍ وطائفيةٍ وَفقَ مفهومِ "الفوضى الخلاقة"، فإنَّ روسيا "بوتين" يحكمُ استراتيجيتها عواملُ النقص والانتقام، وإنَّ السعيَّ بالعودة إلى القطبيةِ الثنائيةِ قدْ تكونُ من أجلِ المحافظةِ على الترتيبِ في الثنائية الدولية بعدَ أمريكا وأنْ لا تتراجَعَ أكثر وبخاصةٍ بعدَ فرضِ عقوباتٍ أوروبيةٍ عليها بسبب "أوكرانيا". ولهذا وجدتْ فرصتها في لعبتها "سوريا" من خلالِ التدخلِ العسكري المباشر إلى جانبِ النِّظَام الذي تَعتبره حليفًا استراتيجيًّا تاريخيًّا – أيامَ الاتحاد السوفييتي سابقًا – أفضل أداةٍ في اللعبة بعدما وصلَ إلى حافة الانهيار.
إنَّ روسيا أرادتْ من تدخلها العسكري أنْ تَجعلَ من لعبتها "سوريا" قدرًا مُشتركًا يجمعُ بينها وبين أمريكا تحتَ مسمَّى محاربةِ "الإرهاب"  المتمثلِ بتنظيمِ الدولة وجبهةِ النصرة وكُلِّ مَن له علاقة بالقاعدة، لتكونَ شريكةً إلى جانب أمريكا في هذه الحرب. على اعتبار أنَّ كلَّ ما يَجري في سوريا ضدَّ النِّظَام سببُه الإرهابُ، ولهذا عملتْ في البداية على جرِّ أمريكا لتكونَ شريكتها ضمنَ قواعدَ علنيةٍ في استهدافِ مَن استثنته الهدنةُ كجبهةِ النصرة لكي يتمكَّنَ النِّظَامُ ومَن معه من الاستيلاء على مدينةِ حلب بحجَّةِ تحريرها من "الإرهاب"، ولكن عندما أخفقتْ في ذلك، وحدَّدتْ أمريكا ساحةَ لعبتها في الشمالي السوري وأعلنتِ الحربَ البريةَ ضدَّ تنظيمِ الدولة أخذتْ روسيا تعرضُ على أمريكا التنسيقَ معَها في ذلك، الأمرُ الذي لمْ تستجبْ له أمريكا - علنًا على الأقلِّ- ، وإذا مَا حصلَ تنسيقٌ في لحظةٍ مَا قادمةٍ ستكونُ روسيا إما أنها استطاعتْ أنْ تُحقِّقَ نجاحًا من خلالِ  لعبتها سوريا، وإما أنَّ أمريكا ستجعلُ مِن روسيا أداةً في اللعبةِ إذا مَا فشلتْ في سوريا وتَثبتُ عندها النظريةُ القائلةُ بأنَّ أمريكا دفعتْ بروسيا إلى لعبتها سوريا لإغراقِها!!.
فاللقاءاتُ الأمريكيةُ الروسيةُ والاتصالاتُ اليوميةُ لا تخرجُ عن كونِ لُعبةِ الطرفين سوريا وأنَّ جميعَ الحلولِ السياسيةِ المقترحةِ لا تعدو أنْ تكونَ إلَّا جزءًا من تكتيكاتِ هذه اللعبةِ وأداةً من أدواتها وأنَّ حلَّ القضية السورية أصبحَ مرتبطًا بشكلٍ مباشرٍ بها. وفي هذا السياق، كتبَ "ليون آرون"، مديرُ مركزِ الدراساتِ الروسيةِ في معهدِ "إنتربرايز" الأمريكي، في مجلةِ فورين بوليسي، الأمريكيةِ، إنَّ عقباتٍ عدةً تقفُ حجرَ عثرةٍ أمام مَساعي الغربِ لوقفِ المذبحةِ في سوريا، وذلك بسببِ وجودِ فرقٍ شاسعٍ بين مدى وعمق التزام كُلٍّ من روسيا وأمريكا بهذا الصراع ، وأضافَ "آرون"  إنَّ "بوتين" يحتاجُ إلى انتصارٍ ، وأنه لا جدالَ في بقاء بوتين في سوريا إلى أنْ تَتحقَّقُ أهدافُه، مَا لم تُصبحْ كلفةُ حملتِه العسكرية أكبرَ من ثمارها!!.
إذًا علينا أن نُدرك أنَّ مَا يَجري في سوريا لا يخرجُ عن كونِه أنَّ أمريكا جعلتْ لُعبتها في الشرق الأوسط الجديد "سوريا" وأخذتْ من إعلان بدءِ تحريرِ  "مدينة الرقة" ضدَّ تنظيم الدولة منطلقًا لذلك، وأنَّ روسيا التي تَبحثُ عن الانتصارِ المفقودِ الذي لمْ يَحصلْ عليه "بوتين" في لعبته سوريا بعدُ من خلال "معركة حلب" عن طريقِ تدميرها، كَشَفَ زَيْفَ مُحادثاتِ جنيف والقول: إنَّ حلَّ القضيةِ السوريةِ هو حلًّ سياسيُّ، بل أصبحَ واضحًا من خلالِ المعاركِ الجاريةِ في سوريا أنَّ الحسمَ العسكريَّ هو الحلُّ الوحيدُ لها، وأنَّ طاولةَ المفاوضاتِ سَتُعَدُّ وَفق نتائج هذه المعارك "الجيوبولتيكية" !!.


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »