سوريا معارك الحسم الجغرافي أولًا ("الحرب البسيطة" و"الحرب المُعقّدة")

سوريا معارك الحسم الجغرافي أولًا
("الحرب البسيطة" و"الحرب المُعقّدة")
الدكتور جَبْر الهلُّول
إنَّ للحروبِ دائمًا أهدافٌ مباشرةٌ تكون السببَ لبدئها، وهناك أسبابٌ غيرُ مباشرة وهي التي تكمُنُ فيها الأهدافُ الحقيقيةُ من وراء هذه الحروب والتي تُوضعُ لها الاستراتيجياتُ والخطط من أجل الوصول إليها. وإنَّ المتابعَ لمجريات الأحداث الميدانية العسكرية في سوريا يجد هناك اليوم نوعينِ من الحروبِ تدورُ رحاها على الأرض السورية: "الحربُ البسيطة" و "الحربُ المُعَقّدة".
النوع الأول: "الحربُ البسطةُ": كالحروب الأهليّة الطائفيّة والقبليّة والثّورات داخل البلد الواحد. ونخص بالحديث هنا عن نموذج "الحرب البسيطة" بالثّورةِ التي لا تُحرّكُها إلَّا الأسبابُ المباشرةُ وهي عادة تَنفجرُ من دونِ تخطيطٍ مسبقٍ أو وضع استراتيجيات منظمة لها من أجلِ الوصولِ إلى أهدافها التي غالبًا ما تكونُ واضحةًّ وصريحةً وصادقةً كالثورةِ السوريةِ التي انطلقتْ مع بداياتِ عام (2011) وهدفُها إسقاطُ النِّظَامِ الذي كانَ السببَ الأولَ والأخير لقيامها، وأنَّ هذا الهدفَ لا يَتحقَّقُ إلَّا بتحريرِ المدنِ والقرى. فقدْ كانتِ الفصائلُ العسكريةُ التي تشكَّلتْ على عجل من غيرِ ناظم واحد، كانَ يَجمعُها هدفٌ واحدٌ، وأسلوبٌ واحدٌ في التكتيك العسكري، حيث عملتْ على تحرير أكبر قسمٍ من الجغرافيةِ السورية وإخراجها عن سيطرة النِّظَام في فترةٍ قصيرةٍ لاعتقادها "الفطري" أنَّ السيطرةَ على الجغرافيا سيكونُ له استثمارٌ سياسيٌّ سيؤدِّي إلى إسقاط النِّظَام عندما يفقدُ كاملَ هذه الجغرافيا أو ينحسر في أماكنَ ضيقةٍ جدًّا تُجبره على الاستسلام والخروج منها. عندها تنتصرُ الثورةُ وتَحْكم كلَّ الجغرافيةِ السوريةِ غير منقوصة ولا يكون للنِّظَام أو مؤيديه جيبٌ فيها. ولكن كيف ستُحكم وآليات الحكم لمْ تكنْ واضحةً وربَّما لمْ تكنْ تناقشُ كثيرًا تلك المسائل لأنَّ الاهتمامَ أولًا كان بمتابعةِ السيطرةِ على الجغرافيا التي ستُسْقِط النِّظَامَ، وبعدها كمَا يُقال "يحلها الحلالُ"، وبكل تأكيدٍ لمْ تكنْ تُفكّر بالاكتفاء بجزءٍ من الجغرافيا أو تقسيمها أو فدرلتها حيث لمْ يكنْ ذلك مطروحًا على الإطلاق، بل كان جُلّ التفكير على العمل لدى جميع الفصائل الثّورية على كثرتها أن إسْقاط النّظام لن يتمّ إلّا عن طريق تحرير الجغرافيا ولكن أي جغرافيا كانت من دون خطة استراتيجيّة كأن تركز على العاصمة دمشق التي عادت إذا ما سقطت العاصمة سقط النظام!!.
النوع الثاني: "الحرب المُعَقّدة": وهي الحربُ بمفهومها الحقيقيِّ الذي عرفته البشريّةُ التي تقوم على التخطيط والاستراتيجيّات المُنظمة ولها أسبابها المباشرةُ وغير المباشرة، وهي ما قام به النِّظَامُ ضدَّ الشعب السوري الذي ثار  في وجهه سلميًّا لإسقاطه، حيث وضع في استراتيجيته من أجلِ البقاءِ أنْ يُحوِّلَ الثورةَ السلميّة إلى الثورةِ المسلحةِ (الحرب البسيطة) وجعلَ السببَ المباشرَ لخوض هذه "الحرب المعقدة" تحت مسمى "محاربة الإرهاب". وكان من حساباتِ خطته الاستراتيجية وتكتيكاته العسكرية أنَّ خوضَ الحرب تحت مسمى الإرهاب ستكونُ على حساب سوريا موحدة جغرافيّا ولهذا كانت لديه الخطة "ب" التي تقتصرُ على الدولة المفيدة التي بدأ يعزز وجوده فيها والدفاع عنها بعدما تحرَّرتِ الكثيرُ من الجغرافيا من قبضته. وبناءً على ذلك التصور وتحت مبرر الإرهاب كان التدميرُ والقتلُ والتهجير لتلك المناطق المحررة، وكذلك دخلتْ إيران والمليشياتُ الشيعيةُ المتعددةُ الجنسيات ولاحقًا روسيا بعدما أصبحت "الدولةُ المفيدة للنِّظَام" مهددةً في الساحل وسهل الغاب ضمنَ سببٍ مباشرٍ أتَى تحت عنوان "محاربة الإرهاب" ضمنَ استراتيجياتٍ تُخفي الأهدافَ الحقيقيةَ من وراء هذا التدخل إلى جانب النِّظَام ومشاركته العدوان على الشعب السوري التي تتعلَّقُ في جانبٍ كبيرٍ بالجغرافيا بعيدًا عن "الدولة المفيدة" التي في اعتقادهم باتتْ مؤمنةً خارجَ مجرياتِ الأحداث العسكرية بشكلٍ غير مباشر. وذلك لأنَّ السيطرةَ على الجغرافيا هي اللاعبُ الرئيسُ في موازين القوة في عمليةِ الصراع الدولي والإقليمي على سوريا، ولمْ يكنْ هناك حرجٌ أن تكشفَ روسيا عن تلاقي خطتها "ب" مع خطةِ النِّظَام في الدولةِ المفيدة وأنه يمكنُ أن يكونَ الحلُّ في نهاية المطاف على حساب الجغرافية الموحدة والقبول بحكم فدرالي في سوريا، ولعل ما جاء في مُسودة الدستور التي أعدّتها روسيا نحت بهذا الاتجاه.
إذَا يُمكن القول: أن مُبرّر الإرهاب كان هو السب المباشر للنِّظَام ومن ورائه إيران وروسيا لممارسة العدوان على الشعب السوري من أجلِ استعادة احتلال الجغرافيا من جديدٍ أو تدعيم حدود جغرافية الدولة المفيدة، وإنَّ الجغرافيا السورية هي مرتكزُ استراتيجيات الحلف الثّلاثي (روسيا وإيران والنظام) ، كذلك كان وجودُ التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا على الأرض السورية سببُه المباشرُ محاربةُ الإرهاب "تنظيم الدولة" حيث أصبحت هناك قُوَّاتٌ أمريكيةٌ وبريطانيةٌ وفرنسية وألمانية ...وكل يوم تكشفُ دولةٌ جديدةٌ عن وجود قُوَّاتٍ لها في سوريا للسبب المباشر نفسه لكن ضمن استراتيجياتٍ تُخفي الأسبابَ غير المباشرة التي باتتْ تتعلَّقُ بالجغرافيا السورية أيضًا.
فالأسبابَ المباشرةَ في الصراع الدولي والإقليمي على سوريا تتقاطعُ مع السببِ المباشر الذي برَّرَ النِّظَامُ حربَه على الشعب السوري ألا وهو "الإرهاب"، وأنَّ هناك استراتيجياتٍ متعددة ومختلفة تُخفي الأسبابَ غير المباشرة والتي تتقاطعُ بتعلقها بالجغرافية السورية. تجعلنا نُدرك حقيقةَ الصراع الذي باتَ يَجري في سوريا، والذي لا يلتقي مع الأسباب التي قامتْ من أجلها الثورةُ، ولماذا تركَ الشعب السوري يُقتل وتُدمر مُدنه وقُراه وبيوته ويُهجر منها بعدما اختزلت ثورته تحت مسمى "الإرهاب" الذي سيطر على غالية الجغرافيا التي حرَّرَها من النِّظَام بهدف إسقاطه، وأصبحَ شعارُ الصراع في سوريا ضمن مفهوم "الحرب المعقدة: "الإرهابَ أولًا" ولكن في حقيقته وجوهرِه هو "صراع الجغرافيا أولًا" لأنها أصبحت مرتكزًا للمشارع  الكبرى في الاستراتيجيات الدولية والإقليمية المتصارعة في سوريا والتي عَمِلتْ على استثمار الأراضي التي تمَّ تحريرُها من سيطرة النظام على يد القوى الثورية في سوريا قبل أن يُسيطر عليها تنظيم الدولة الذي جاء التحالف الدولي بقيادة أمريكا ليأخذها منه لتكون مُنطلقًا لتنفيذ تلك الاستراتيجيات الكبرى في المنطقة التي تتعلق "بالجغرافيا أولا"، الجغرافيا التي حررتها الثورة أولًا لتسقط النظام ولكن تقاطع الأسباب والاستراتيجيات ضمن مفهوم "الحرب المعقدة" حال دون وصول "الحرب البسيطة" الثورة إلى أهدافها التي تم تضع لها استراتيجياتها بعد، لكن ليس تقصيرًا منها بل لأن الاستراتيجيات من أركان الحروب المعقدة التي تقوم الدول بها فقط، ويكفي أن الثورة قد قامت وأحدثت أثرها في الواقع حتى يقال: إنها نجحت، فكيف بالثورة السورية التي لم تُغير الواقع في سوريا بل ستُغير المنطقة برمتها، ويستحيل أن يعود النظام أو الواقع إلى ما قبل 2011 مرة أخرى.
فالمعاركُ القائمةُ في سوريا وعلى كافة الجبهات وبخاصةٍ في الشمال السوري وتحديدًا في مدينة حلب وريفها هي معركةُ الجغرافيا التي أصبحتْ مرتكزًا لاستراتيجية جميع الأطراف التي تتصارعُ على سوريا في سوريا ونتيجة هذه المعارك هي التي سترسم حدودَ السيطرة وحجم النفوذ لكل طرف، وعلى أساسه ستُحّلُ القضيةُ السورية، عن طريق الفدرلة أو التقسيم أو حكم المدن عن طريق مجلس عسكرية ومدنية... ولكن سوريا الجغرافيا (2011) قد انتهت!.

إن الحسم العسكريّ في كل معركةٍ قائمة اليوم هو حسمٌ جغرافيٌّ أولاً سيُترجم لاحقًا حلًا سياسيًّا ومن دون ذلك الحسم سيبقى الحراكُ السياسيُّ لتوفير عامل الوقت لمعارك الحسم الجغرافي لا أكثر!!.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »