سوريا جديدة (2)
معركة منبج بوابة لحل القضية السورية!!.
الدكتور جبر الهلُّول
لمْ يكنِ اختيارُ إعلانِ معركة تحرير منبج كمدينةٍ وتوقيتها محضُ صدفَةٍ
إذْ أعلنَ المجلسُ العسكريُّ لمدينة منبج في (5/31/ 2016) بدءَ المعركةِ التي هي
جزءٌ من حملةِ التحالف الدولي "العزم التام" الذي تَقودُه أمريكا ضدَّ
تنظيم الدولة في سوريا والعراق. وجاءَ الإعلانُ باسم المجلس العسكري لمدينةِ منبج
مع العلمِ أنَّ العمليةَ تَقومُ بها بالأساس "قُوَّات سوريا
الديموقراطية" التي أوْكل إليها التحالفُ مهمَّةَ الحرب البرية ضدَّ تنظيم
الدولة، وأنَّ وجودَ المجلس العسكري هو وجودٌ رمزيٌّ أكثر منه حقيقي ولكن هذه
الرمزية لها دلالتها وأبعادها السياسية التي ستظهر في ملفِ القضية السورية
تِباعًا.
إن التّحولَ عن معركة الرقة التي أعلنها التحالفُ الدولي إلى منبج كان
مقصودًا بعينه حيث صُرفَت الأنظارُ بدايةً إلى مدينة الرقة عاصمة تنظيم الدولة
وبدأتْ تتطلَّعُ روسيا وإيرانُ والنِّظَام إليها وبخاصةٍ أنَّ روسيا عرضتْ أكثر من
مرة التنسيقَ مع أمريكا التي لم تُعلّق على المقترح أو ترد عليه، كما أثارَ مجردُ
إعلان معركةِ الرقة الكثيرَ من ردودِ الأفعال والتحليلات التي دفعتِ النِّظَام
ومَن خلفه روسيا إلى التحركِ باتجاهها عن طريقِ التوجه أولا إلى مدينةِ الطبقة
الأمر الذي لمْ يكترثْ له التحالفُ الدولي أو يعلق عليه مع العلم لقناعته أن
النِّظَامَ أصبح غير قادر على دخولِ مدينةِ صغيرة وإدارتها فضلًا عن دخولِ مدينة
كالرقة حيثُ كانَ أقصى ما سيصلُ إليه أن يُسيطرَ على مطار الطبقة العسكري، كما سيطرَ
من قبل على مطار كويرس في ريف حلب الشرقي بالقُرب من مدينة الباب مع بداية التدخل
العسكري الروسي في سوريا، وبعد انسحابِ التنظيم منه ومن كثيرٍ من النقاط التي
جعلته يصلُ إلى مشارف مدينة الباب ودير حافر ولكنْ لمْ يدخلْها لعدمِ استطاعته
ذلك.
فإعلانُ معركة الرقة كانَ إعلانًا سياسيًّا أكثر منه عسكريًّا وخطة روسيا
التي دفعتِ النِّظَام باتجاه الرقة كانت تكتيكًا سياسيًّا، وعندما لمْ تكترثْ بها
أمريكا أدركتْ أنها خطوةٌ خاسرةٌ سياسيًّا ولا يمكن أنْ تنجحَ عسكريًّا لمعرفتها
بواقع النِّظَام والعجز الذي وصلَ إليه على الرغم من تقديم غطاءٍ جويٍّ له كبير
الذي بمجرد توقفه عنه سينهار- ولعلَّ التقدمَ السريع للنِّظَام باتجاه الرقة في
الأيام الماضية ثم خسارته الكبيرة بالأمس أُرْجِعت إلى عاملِ الطيران الروسي -
ويبدو أن روسيا شعرتْ أيضًا أنها خُدِعت بالخطةِ الأمريكيةِ في الرقة وفي ريفها في
الطبقة التي دفعتِ النِّظَام باتجاهها بعدما توجهتْ قُوَّات سوريا الديموقراطية
إليها من قبل ومن ثم حولت مجرى العمليات العسكرية من شمال مدينةِ الرقة باتجاه مدينة منبج التي اتضحَ عمليًّا أنها هي
المقصودةُ بعينها في عملية التحالف البرية في سوريا وأنَّ اختيارَ توقيتها كان
مُتزامنًا مع إعلان التحالف الثلاثي( روسيا إيران روسيا) معركة احتلال حلب التي من
أهدافها أن تصلَ إلى الحدود التركية في خطوةٍ لو قدر لها النجاحُ ستكون نهاية
الثورة قد تمَّ الاقتراب منها.
فاختيارُ معركةِ منبج مكانًا وزمانًا التي أوشكت قُوَّاتُ سوريا
الديموقراطية على انتزاعها من تنظيمِ الدولة هي بدايةٌ لمرحلةٍ جديدةٍ في القضية
السورية التي قد تكونُ نواة الخطة "ب" الأمريكية التي هدَّدَ بها
"جون كيري" في حالِ فشلِ مفاوضات جنيف، حيث اُخْتيرت منبج لتكون أوَّلَ
مدينة تُدار من قبل مجلسٍ عسكريٍّ ومجلس مدني محلي يتمُّ الاعترافُ به دوليًّا
ويكون تحت مظلة التحالف الدولي، وستكون إدارة مدينة منبج إدارة ذاتية ضمنَ مفهومِ
حكمِ إدارةِ المناطقِ أو المحافظات وَفقَ حدودِها الإدارية المتعارف عليها ومن
خلالِ مكوناتها السكنية المتعددة إثنيا عرقيًّا ودينيًّا وستكونُ من خلال ذلك
مثالًا تجريبيًّا حيًّا لباقي المحافظات والمدن التي تحرَّرتْ من يد النِّظَام
لاسيما التي سيتمُّ انتزاعُها من سيطرة تنظيم الدولة وذلك لتلافي الأخطاء التي
وقعتْ في "تل أبيض". فسوفَ تتشكَّلُ في جميع المدن الأخرى في الشمال
السوري – باستثناء إدلب – مجالس عسكرية ومجالس محلية سيكونُ لها مظلة جامعة تكونُ
مرجعية لها وتُشرفُ عليها وتنظم عملها
ضمنَ مفهومِ اللامركزية الإدارية، وأنَّ البناءَ لهذه المجالس سيبدأ من
الجزءِ إلى الكل بشكلٍ متوازيٍّ ومن الأسفل إلى الأعلى ليُشَكّل في النهاية قيادةً
موحدةً تمثيليةً للمجالس العسكرية والمحلية.
إنَّ هذه الرؤية النظرية التي اختيرت مدينة منبج لاختبار وتجربة تطبيقاتها
العملية مهمة وخطيرة في آن معًا وإن كان الأمر مرتبطًا بنجاح التجربة وفشلها،
وصحيح ستكونُ منبج نموذجًا تطبيقيًّا عمليُّا إلا أنَّ هذه النموذج هو جزءٌ من صورة
كلية تُرسم في مراكز صنع القرار الدولي الأمريكي لا توجد معطيات كثيرة عن معالمها
باستثناء أنها تأتي في سياق حل القضيةِ السورية من منظور أمريكي والتي وقد يحصل
عليها توافق وتفاهم دولي وإقليمي لاسيَّما مع الدول المعنية مباشرة والموجودة
عسكريًّا في سوريّا وَفق لعبةِ توازناتِ الصراع التي ستحسمها المعاركُ القائمةُ
الآن التي تقودُها أمريكا من جهةٍ والتي تقودُها روسيا من جهةٍ أخرى في الشمال
السوري وتحديدًا في مدينة حلب وريفها.
بالـتأكيدِ هذه الرؤية العملانيّةُ لمدينة منبج التي بدأتْ تمزجُ بين
التنظير والتطبيق على الأرض من خلالِ تشكيل المجالس العسكرية التي بدأتْ تَظهر
تباعًا في ريف حلب الشمالي، لنْ يكونَ من بينها فصائل عسكرية إسلامية وسوف تقتصر
المجالس على الفصائل المحلية المناطقية التي ستُشكل قوةَ حماية للمناطق وإداراتها
المدنية بعد الانتهاء من معارك تنظيم الدولة، ممَّا يَعني أنَّ الفصائلَ التي لنْ
تكونَ ضمنَ المجالس العسكرية وعليها أن تَخرجَ من المنطقة أو تُخرج منها بالقوةِ
حيثُ من المتوقع ان تتركَ إدلبُ مفتوحةً لتجمع تلك القوى التي ستكون بعيدة عن
نموذج منبج الآن، وبالتالي سيتحققُ الفرزُ المطلوب بين الفصائل "المعتدلة"
والفصائل "غير المعتدلة: وَفق المفهوم والخطة الأمريكية.
إنَّ معركةَ منبج هي معركةٌ عسكريةٌ ضدَّ تنظيم الدولة ولكنها، معركةٌ
سياسيةٌ بالدرجة الأولى تَأتي وَفق الخطة الأمريكية "ب" بعد فشلِ
مفاوضات جنيف لحلِّ القضية السورية وذلك، في سياقِ المشروع الكبير الذي تَرعاه
أمريكا تحتَ اسم محاربة الإرهاب في المنطقة، وإنَّ تمكن قُوَّات سوريا الديمقراطية
السيطرة على منبج سيُمهّد للسيطرة على غالبية ريف حلب الشمالي وإدارته عن طريق
المجالس العسكري والمدنية المحلية وفرض واقع جديد في القضية السورية على المستوى
المحلي والإقليمي والدولي.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات