الصِّراع على سوريّا في سوريّا والقواعد المشتركة

الصِّراع على سوريّا في سوريّا
والقواعد المشتركة
الدكتور جبر الهلّول
تَدَخّلتْ روسيا عسكريًّا في سوريّا وإلى جانبِ النِّظَامِ بشكلٍ مباشرٍ وعلنيٍّ في (30/9/2015) واستطاعتْ نتيجةً لهذا التدخلِ أنْ تُغيّرَ كثيرًا من ميزانِ القوى لصالحِ النِّظام الذي أوشكَ على السقوطِ وأرادتْ أن تستثمرَ ذلك سياسيّا فكانتْ وراءَ انعقاد فيينا1 وفيينا2 ومن ثمَّ جنيف3 والقرار الدولي 2254 والقرار 2268 المتعلق بهدنةِ وقفِ إطلاقِ النار، بل إنها كانتْ وراءَ تشكيلِ وفدِ الهيئة العليا للمفاوضاتِ في الرياض بعدمَا وضعتِ القضيةَ السوريةَ باعتقادها على سكةِ الحلِّ السياسيِّ التي ستصِلُ وَفقَ خطَّتِها الاستراتيجيةِ إلى إعادةِ إنتاجِ النِّظَام وإفراغِ الثورةِ من محتواها واختزالها بمعارضةٍ سياسيةٍ تبحثُ عن شراكةٍ سياسيةٍ مع النِّظَام وأنَّ مَا يَجري على الأرض عسكريًّا يندرجُ تحت مفهومِ "الإرهاب". وهي القاعدةُ التي التقتْ فيها بشكلٍ مباشرٍ مع أمريكا على الأرض السورية بحيث كانت الهدنةُ التي استثنتْ "جبهة النصرة" وتنظيم الدولة" منها كانتْ نجاحًا روسيًّا كبيرًا لاعتقادها أنها توصَّلتْ من خلالِ آلياتِ مراقبةِ الهدنة إلى ضالَّتِها بوجودِ قاعدةٍ للعمل العسكري المشتركِ مع أمريكا في سوريا تحتَ مسمى "محاربة الإرهاب" وهذا ما ستُغَطّي به عدونَها على الشعبِ السوري وتستثمره على طاولةِ المفاوضاتِ في جنيف التي أبعدتْ عنها مسمى المفاوضاتِ التي عادة تكونُ بين طرفين كل منهما يعترفُ بالآخر واقتصرتِ على محادثاتٍ ضمنَ وفود متعددة.
لقدَ سادَ اعتقادٌ منذ التدخلِ الروسيِّ إلى أن أُعْلِنَت معركة الرقة ضد تنظيم الدولة أنَّ الملفَ السوريَّ باتَ بقبضةِ روسيا وأن أمريكا ونتيجةَ لقاءاتٍ متعددةٍ واتصالاتٍ مكثفةٍ خلال الفترة الماضية نتجتْ عنها تفاهماتٌ واتفاقياتٌ كانت لصالح روسيا بلْ بحسبِ بعض آراءِ المراقبينَ كان ذلك نتيجةً لعدم وجودِ استراتيجيةٍ أمريكيةٍ واضحةٍ تتعلَّقُ بسوريا والمنطقة، أدَّت إلى حتى تهميشِ دورِ حلفائها الإقليميين الذين تتقاطعُ مصالُحهم مع مصالحِ الشعب السوري وثورته.
لكن إذا كانَ من المعلومِ أنَّ كلَ عملٍ عسكريٍّ له استثمارٌ سياسيٌّ، أين أصبحَ الآن الاستثمارُ السياسيُّ للتدخل العسكري في سوريا بعد إعلانِ معركة الرقة؟ وما هو مصيرُ موعدِ جولةِ المحادثات القادمة؟ وأين أصبحتِ الهدنةُ التي شكَّلتِ القاعدةَ المشاركةَ للعمل العسكري بينها وبين أمريكا في سوريا. حيث جاءَ إعلانُ معركةِ الرقة ضدَّ تنظيم الدولة بعيدًا عن إجراءاتِ الهدنة التي انتهتْ بحكمِ الواقعِ ولمْ يبقَ منها سوى الاسم حتى لا يتحمل مسؤولية فشل المنتج السياسي الوحيد المتعلقِ بالقضية السورية الذي كان له تطبيقٌ مؤقتٌ على الأرض!.
فتَصاعد نَبْرةُ الخطابِ السياسيةُ الروسيةُ تُجاه أمريكا بشكلٍ متصاعدٍ حول ما يتعلَّقُ بسوريا، وبخاصةٍ بعدَ إعلانِ معركةِ الرقة التي نقلتِ الصراعَ الدوليَّ والإقليميَّ على سوريا إلى الصراعِ في سوريا تحتَ ذريعةِ محاربةِ "الإرهاب". لذا لمْ يَكنْ مُفاجئًا كشفُ بريطانيا عن قُوَّاتٍ لها تَعملُ على الأرضِ السوريةِ ولنْ يكونَ مُفاجئًا أن تكشف فرنسا عن مشاركتها البرية في معركة "تحرير منبج" أيضًا وستَكشفَ الكثيرُ من الدولِ الأخرى أجنبية أو عربية عن وجودِ قُوَّاتٍ بريةٍ لها في سوريا لمحاربة "تنظيم الدولة" لاسيَّما أنَّ التحالفَ الدوليَّ الذي تقودُه أمريكا يزيدُ عن ستِّينَ دولة!!.
 هذا التحالفُ الدوليُّ الكبيرُ الذي تقودُه أمريكا بدأ يظهرُ رُويدًا رُويدًا على الأرض مع تطورِ المعاركِ ضدَّ تنظيم الدولة ويبدو أنه بدأ يُقلِقُ روسيا كثيرًا بعدما استفردتْ بالساحةِ السوريةِ إلى جانب إيران بإدخال قُوَّاتهما العسكرية البرية والجوية والبحرية إلى جانبِ النِّظَامِ بحجةِ محاربةِ "الإرهاب" فإذا بها تجدُ نفسَها في حلفٍ منفصلٍ وجهًا لوجهٍ مع حلفٍ لطالما اعتبرتْ وجودَه غيرَ شرعيٍّ في سوريا لتكونَ أمامَ خياراتٍ صعبةٍ تبدأ من تبادلِ المعلوماتِ إلى التنسيقِ السلبيِّ الذي يمنعُ الاحتكاكَ والاصطدامَ جوّا وربَّما لاحقًا برًّا بعد بدءِ معركة الرقة البرية، ثم إلى التنسيق الإيجابي ثم إلى التعاونِ فالشراكة أخيرًا مع أمريكا لتعود روسيا ضمنَ هذه الخطة الاستراتيجيةِ إلى الموقع الذي تَطمحُ أنْ تعودَ إليه (الثنائية القطبية) في العالم. الأمر الذي يتعارَضُ مع دورةِ الأممِ الكونية الذي يَستحيلُ أنْ تَتنازلَ عنه أمريكا بعدما وصلتْ إليه.
لذا من خلالِ متابعةِ مجرياتِ الأحداث الميدانية والسياسية نجدُ أنَّ روسيا لمْ تتجاوزْ مع أمريكا مستوى التنسيق السلبي ومع تحول الصراع الدولي والإقليمي من على سوريا ليكون في سوريا، بدأتْ روسيا تشعرُ بالقلقِ من عاملِ الزمنِ من تدخلها العسكري في سوريا الذي حدَّدته بدايةً بثلاثة أشهر لتجد نفسَها بعد ثمانية أشهر من هذا التدخل في ساحةٍ مفتوحةٍ زمانيًّا ومكانيًّا على احتمالاتٍ في غالبيتها تؤدي إلى فشلِ خطَّتها الاستراتيجية في سوريا. ولعلَّ تصريحاتِ وزيرِ الخارجية الروسي لافروف الأخيرة تأتي في سياقِ القلق الروسي وإنْ كانتْ تحملُ في طياتها لغةَ التهديدِ والإنذار لأمريكا حيثُ قال: "فيما يخصُّ التطوراتِ في حلب وحولها، فلقد أبلغنا الأمريكيين مسبقًا، وهمْ على علمٍ بأنَّنا سنعملُ بمنتهى الفعاليةِ لدعم الجيش السوري من الجوِّ من أجلِ منعِ استيلاءِ الإرهابيين على الأراضي". وأعربَ عن أمله في أن يتعاملَ شركاءُ روسيا معها بالنزاهة، دون محاولاتِ سوءِ استغلالِ الاتصالاتِ المنتظمة مع الجانب الروسي من أجلِ تنفيذِ خططٍ بديلةٍ "ب" و"ت" و"ث" وراء ظهرِ موسكو، واستطردَ قائلًا: "إنَّنا سنتخذُ القراراتِ حول عمل القُوَّات الجوية والفضائية الروسية انطلاقا من رؤيتنا للوضع. ونحنُ نُبلِّغُ الشركاءَ الأمريكيين بهذه الرؤية خلالَ المشاورات اليومية عبر دائرة الاتصال المغلقة بين قاعدةِ حميميم ومركز القيادة الأمريكي في العاصمةِ الأردنية عمان. ولذلك لنْ تكونَ هناك أي مفاجآتٍ بالنسبة للأمريكيين" في الوقت نفسه، أكَّدَ لافروف أنَّ موسكو مازالتْ مستعدةً لتنسيق العمليات القتالية بين الطيران الروسي والطيران الأمريكي ضدَّ الإرهابيين في سوريا، لكنها لنْ تقبلَ محاولاتِ إبطاءِ عملية وضع آلية لمثل هذه التنسيق، الهادفة إلى إعطاءِ المعارضةِ المسلحة في سوريا وقتًا لاستعادةِ قدراتها واستئناف الهجمات.
لكنْ لمْ يتأخرِ الردُّ الأمريكيُّ حيث كررتْ وزارةُ الدفاع الأميركية الاثنين الماضي، القولَ: إنها لا تنسقَ عملياتها العسكرية في سوريا مع روسيا، مع العلم أنَّ هناك عمليتين عسكريتين موازيتين في سوريا ضدَّ تنظيم الدولة، الأولى بدعمٍ من موسكو والثانية من واشنطن. وقال المتحدثُ باسم البنتاغون "بيتر كوك" في مؤتمره الصحافي اليومي "لا تنسيق عسكريًّا مباشرًا للنشاطات على الأرض" في سوريا بين موسكو وواشنطن!!.
إنَّ الصراعَ على سوريّا دوليًّا عقَّدَ القضيةَ السورية وأفسدَ ثورةَ الحرية فيها وأخرجَها من سياقها ضدَّ النِّظَام لتصبحَ من حيث تدري أو لا تدري ضمنَ أجندةِ ذلك الصراع الذي انتقلَ ليكونَ في سوريا وعلى أرضها من خلالِ "معركة الرقة" لتكشفَ الخريطة الميدانية حقيقة الحرب الدائرة في سوريا وبخاصةٍ في الشمال السوري ودوافع الهمجية الروسية وعدوانها على الشعب السوري.
وأيًّا كانتِ الاعتباراتُ والتحليلاتُ عن عدم أو وجود تنسيقٍ أو تفاهمٍ أو توزيع أدوار بين أمريكا ورسيا فإنَّ الصراعَ على سوريا وفيها أخرجَ جميعَ القوى الثورية العسكرية والسياسية من دائرةِ الاعتبار أو التأثير في مجرياتِ الأحداثِ إلا بما يخدمُ ذلك الصراع في وجه من الوجوه، بينما همَّشَ الشعبَ السوري من أيِّ دورٍ كما تزعمُ وتدَّعي منظماتُ حقوقِ الإنسان من حق الحياة من حق المصير ليكونَ مجردَ أداةٍ للقتل والتدمير...!!.


المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »