إنّ المشهدَ في الشمالِ
السوريِّ لاسيَّما في ريفِ حلب وريفِها يُلخِّصُ حقيقةَ مَا وصلتْ إليه الثورةُ
السوريةُ نتيجةَ الصراعاتِ الدوليةِ الإقليميةِ والمحليةِ، حَيْثُ اجتمعتْ كلُّ
الأطرافِ وجهًا لوجهِ في مساحةٍ جغرافيةٍ صغيرةٍ كزجاجةٍ بدأ الاختناقُ في عنقها
ولا سبيلَ للخروجِ منها إلَّا بتحطيمِ هذه الزجاجةِ ليكون الجميعُ أمامَ واقعٍ
جغرافيٍّ ديموغرافيٍّ جديدٍ يقبلون به وإنْ كانَ سيُرضي أطرافًا أكثر على حسابِ
أطراف آخرين، إلّا أنَّ الكلَ باتَ خاسرًا في المنطقةِ ويريدُ الخروجَ بأقلِّ
الخسائر باستثناءِ الشعبِ السوريِّ الذي
لم يبقَ عنده مَا يخسره وأصبحَ في واقعٍ لمْ يكنْ أنْ يتخيلَ الوصولَ إليه نتيجةَ
لعبة الأمم به!.
لقدِ اجتمعتْ غالبيةُ
الدولِ المؤثرةِ وغير المؤثرة سواءً بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر في الساحة السورية
في معركةٍ كانَ يُحضّرُ لها أكثر من سنةٍ لمحاربةِ الإرهاب المتمثل "بتنظيم
الدولة" الذي تَضَخَّمَ بشكلٍ عجائبيٍّ وأصبح أسطورةً إعلاميةً تتحدَّى أحدثَ
التقنيات العسكرية التي وصلتْ إليه الدولُ الكبرى بسيارةٍ مفخخةٍ وأحزمةٍ ناسفةٍ!.
وبعد هذا التحشيدِ الدوليِّ الكبير أُعْلنتِ
الحربُ البريةُ على التنظيم من الرقة في سوريا إلى الموصل في العراق، ضمن سيناريو
يُثير الكثيرَ من التساؤلات المريبة، ففي التوقيتِ الذي بدأتْ به العملياتُ
البريةُ باتجاه الفلوجة في العراق بدأتِ العملياتُ العسكريةُ في ريف الرقة
الشمالي، وفي حين تمَّ الاعتمادُ على الحشد الشعبي وبحضورٍ إيرانيٍّ في اقتحام
الفلوجة ضمن غطاءٍ من طيران التحالف الدولي الكثيفِ في مشهدٍ يُشعلُ الصراعَ
الطائفيَّ السنيَّ الشيعيَّ في العراق (الذي لن ينطفئ لفترة طويلة من الزمن).كذلك
قامتْ أمريكا بالاعتمادِ على وحداتِ الحماية الشعبية الكردية في عمليةِ تحريرِ
شمالِ الرقة لتجعلَ من طابعِ المعركةِ صراعًا قوميًّا كرديًّا عربيًّا.
كما أنَّ مَا يجري في
العراق يُشكِّلُ تحديًّا للدولِ العربيةِ لاسيَّما الدولُ الخليجية التي تقفُ مع
إيران على طرفي نقيضٍ في صراعٍ وجوديٍّ يُشكلُ محورَ الاستراتيجية الإيرانية تُجاه
المنطقة العربية، جاء التحالفُ الأمريكيُّ في سوريا مع الوحداتِ الحماية الشعبية
الكردية لمحاربة تنظيمِ الدولة على حسابِ تركيا الحليفِ القديمِ لأمريكا في خطوةٍ
مستفزةٍ لها تداعياتها على الأمن القومي التركي وتضعُ تركيا أمامَ خياراتٍ حاسمةٍ،
وبخاصةٍ أنَّ المنطقةَ الآمنةَ التي اقترحتْها تركيا فبدلًا من أن تتسعَ أوشكتْ
على السقوط كاملةً بين يدي تنظيم الدولة وقُوَّاتِ سوريا الديموقراطية وباتتْ
تُخْتزل في مدينة "مارع وإعزاز" المهددتين بالسقوط في التوقيت الذي
تحركتْ فيه قُوَّاتُ سوريا الديمقراطية بتجاوزِ نهرِ الفرات والتوجه غربًا باتجاه
منبج في ريف حلب الشرقي بحجةِ فتحِ محورٍ آخر باتجاه محاصرة الرقة والسيطرة على
طريق الإمداد مع ريف حلب الشرقي أحد أهمِّ معاقلِ تنظيم الدولة، مع العلم أنَّ
المعركةَ التي أُعلنتْ كانتْ تحت مسمى "تحرير ريف الرقة الشمالي!.
وهنا السؤالُ كيف يتحركُ التنظيمُ بشَنَّ هجومٍ
كبيرٍ في ريف حلب الشمال وفي الوقت نفسه أُعْلنتْ عليه حربٌ بريةٌ جويةٌ دوليةٌ في
ريف الرقة الشمالي وبدأتْ قُوَّاتُ سوريا الديموقراطية معركتَها معه أيضًا في ريف
حلبَ الشرقي في خطوةٍ تَفصلُ بينه وبين عاصمته في الرقة؟ وكيف يصبحُ التنظيمُ مع
قُوَّات سوريا الديموقراطية وجههًا لوجهٍ في ريف إعزاز لكن من دون أن يكونَ بين
الطرفين صدام رغم الاحتكاكِ المباشرِ في حين يخوضان حربًا في أماكن أخرى؟!.
إنَّ أمريكا التي لطالما اُنْتُقِدَتْ
سياستها تجاه الثورة السورية هي التي صنعتْ هذا المشهدَ وجمعتْ هذه الأطراف
الدولية والإقليمية والمحلية المتناقضة لتكون وجهًا لوجهٍ في مساحةٍ جغرافيةٍ
صغيرةٍ بحجة محاربة "الإرهاب" الذي باتْ لا يخفى على أحدٍ أنها وراء
وجوده في المنطقة بطريقة أو أخرى، وعملتْ إلى إشراكِ روسيا فيه بتدخلها العسكري في
سوريا وأصبحت شريكًا "إيجابيًّا" - وِفْق وصفِ بعضِ الدول العربية لها-
في القضية السورية وهي تمارس العدوان على الشعب السوري ضمن حلف ثلاثي ضمها مع
إيران والنِّظَام والمليشيات الشيعية والمعارضات التي صنعتها كذراعٍ سياسيٍّ لها
على الأرض السورية، حتى أصبحَ يُقال: إنَّ حلَّ القضية السورية بيد روسيا!!.
في ظلِّ هذا المشهد
الميداني المعقدِ الذي كان للسياسة الأمريكية الدورُ البارزُ في صناعته أين تريدُ
أن تقودَ المنطقةَ، وكيف سيكون مستقبلها التي باتَ مصيرُ حلِّ القضية السورية معلَّقًا
ومرتبطًا ومرهونًا بنتائج معاركها ليس مع النِّظَام – الذي أصبح إلى جانب روسيا
شريكًا في محارب الإرهاب – وإنما بمحاربة "الإرهاب" المتمثل "بتنظيم
الدولة" و"جبهة النصرة"؟!!.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات