من مُشْكلاتِنا الحَضَاريَّة مُشْكِلةٌ في العَجَلَتَيْن!!.

من مُشْكلاتِنا الحَضَاريَّة مُشْكِلةٌ في العَجَلَتَيْن!!.
إنّ القارئ للتّاريخ البشريّ كقبائل وشعوب وأمم ودول يَجِدُها قد سارت بِعَجَلتَيْن: الأُولى داخليّة، حيث هناك في كلّ مجموعة بشريّة صراع دمويّ داخليّ من أجل الحكم والاستبداد به (البقاء في الحكم)، والثّانية خارجيّة بينها وبين المجموعات البشريّة الأخرى من أجل السّيطرة والنّفوذ وبسط الغَلَبَة على الآخرين (البقاء على قيد الحياة).
 أمّا العجلة الأُولى الّتي حَرَكَتُها داخل الحكم نفسه وَقُودها الطّبقة الحاكمة المُسْتَبِدّة مع المتربّصين والطّامحين للموقع الأوّل في السّلطة، أمّا العجلة الثانيّة التي هي خارج المجموعة البشريّة نفسها فَوقودها شعوب تلك المجموعات التي تُحرِّكها شعارات سامية تُضحّي وتَفْنى من أجلها وتذهب في طيّ النّسيان، بينما يُخَلِّدُ التاريخ المجد لحاكم تلك المجموعة المنتصرة فقط. وهذا لم يخل منه شعب من الشعوب أو أمة من الأمم أو دولة من الدول عبر التّاريخ البشريّ.
فالوقود لحركة تلك العجلتين الدّماء "المُقدّسة" وفق سنن التّغيير والتدافع البشريّ الكونيّ، لكن جاءت الدولة الحديثة لِتُنظّم حركة هاتين العجلتين، فعملت على وضع مكابح للتحكّم في فرملة العجلة الأولى (الداخليّة) بشكل كبير عن طريق مجموعة من الدساتير والقوانين والأنظمة الّتي تُحدّد مدّة الحاكم في الحكم، أي تُقنّن سلطة الاستبداد بفترة زمنيّة قصيرة يمكن أنْ يصبر عليها الشّعب من خلال مأسسة الطّريقة الموصلة إلى الحكم عبر التكتّلات والأحزاب وسنّ أليات تفرز أشخاصًا يُمثّلونهم ليكونوا في الحكم يومًا ما، ولفترة محددة. بهذه الطّريقة تحوّل الصّراع الدموي من أجل الوصل إلى الحكم في الدولة الحديثة إلى صراع من نوع آخر بلا دماء!.  
أمّا بالنّسبة إلى العجلة الثانية على الرغم من زعم المنتصرين في الحرب الكبرى الأولى والثّانية أنّهم توافقوا على وضع آليات للتحكّم في هذه العجلة لكي لا  يتكرر ما حصل في الحربين إلّا أنّ تلك الآليات كانت مُخادِعة، فلم تخفف من سرعة العجلة بل زادتها من أجل المحافظة على البقاء في ظلّ تنافس وصراع دوليّ من يَتَخلّف فيه عن الصّف الأوّل والثّاني في السيطرة على العالم يتلاشى!.
أمّا بالنّسبة إلى الصّف الثّالث من الدول الحديثة فإنّ أكثرها نُسَخ مقلّدة "مُزيّفة" تَبَعٌ لتلك الدول في الصّف الأوّل والثّاني ولم تخرج عنها أو تستقل فِعْلًا، كالدول التي نشأت في البلاد العربيّة في القرن الماضي فقد سرَّعت من حركة العجلة الأولى في طحن شعوبها ضمن آليات صورية لا تطبيق لها في الواقع، بينما العجلة الثّانية الّتي تُحرّكها بين الدول الأخرى فقد توقّفت لأنّها جعلت من شعوبها وقودًا لعجلتها الأولى من أجل البقاء في السّلطة والاستبداد في الحكم.
أمّا بالنّسبة إلى المسلمين فهم اليوم خارج عجلتيّ التّاريخ الأمميّ الّذي سجّل لهم حُكمًا إسلاميًّا مرّ بمراحل عدّة من القوّة إلى الضّعف إلى التّلاشي مع ولادة الدولة الحديثة، وقد ساروا وفق العجلتين بحسب المراحل الّتي مرّت بهم خلال قرون كثيرة، لكن وإن وصلوا يومًا بالعجلة الثّانية بين الأمم إلى ما لم تصل إليه أمّة من قبل أو بعد حتّى في الدولة الحديثة اليوم، إلّا أنّهم في العجلة الأولى لم يرتقوا بها إلى ما وصلت إليه في الدولة الحديثة، بل كانت أداة طحن داخل الطّبقة الحاكمة- باستثناء دولة النّموذج في المرحلة النّبويّة والرّاشدة - باسم الإسلام حتّى أفنتهم وأذهبت مُلْكَهم.
 وقد توارثتْ الحركات والأحزاب والتّنظيمات الإسلاميّة بعد القضاء على الحكم الإسلاميّ مع مَطْلع القرن العشرين - وإلى يومنا - هاتيْن العجلتين على علّاتها لتكون العجلة الأُولى أداة تشظّ وانقسام داخل التّنظيم الإسلاميّ الواحد، ولتكون العجلة الثّانية أداة صراع وتكفير وتفسيق بين التّنظيمات الإسلاميّة الأخرى التي ما تشكّلت بالأصل إلّا من أجل العودة بالمسلمين إلى الحكم الإسلاميّ وفق "الدولة النموذج"، لكن من دون مراعاة لمتغيّرات العصر ووجود الدولة الحديثة ومفهومها وإدراك نظام حركتها في العجلتين، حيث كل واحدة من تلك الحركات والأحزاب والتنظيمات التي نشأت في غالبيتها في دول الصّف الثالث المُقلِّدة للدولة الحديثة ومن خلال خروجها على تلك الدول المزيّفة (التي خرجت عن مفهم الحكم الإسلامي) تريد - ومن دون أن تؤسّس وتعمل أولّا لقيام دولة حديثة حقيقيّة ضمن التصوّر الإسلاميّ - أن يكون لها مكان مُتميّز بين الأمم، في حين تلك الحركات والتّنظيمات والأحزاب عجزت عن إيقاف عجلة التطاحن فيما بينها في كيان واحد يُسمى دولة، ولم يقبلوا التّعايش من حيث التنظيم والإدارة وفق مأسسة الدولة الحديثة للعجلة الأولى التي تُنظّم طريقة الوصول إلى الحكم، ولم يطرحوها في سياق إيجاد حلّ لهذه المشكلة بل في إطار إيجاد المبرر لرفض الآخر المسلم!.
إنّه من الوهم أن يكون للمسلمين اليوم العجلة الثّانية التي تسير بهم بين الأمم ما لم تكن لهم العجلة الأولى وفق مفهوم الدولة الحديثة، وضرورة قيامها في الواقع أوّلًا، لأنّ حركة أيّة أمّة عبر التّاريخ تحتاج إلى أن يكون لها كينونة تناسب العصر الذي تحيا فيه لكي تسير إلى الأمام على العجلتين في حركة مُنَظّمة مُنْتَظَمة بين الأمم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خربشاتُ قلم الرّصاص
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »