الجذور
الأيديولوجية للتطرف في المجتمع الصهيوني
الدكتور
جبر الهلّول
إن تصاعد حدة التطرف
في الوقت الحاضر تبدو ظاهرة طبيعية لصراع الأفكار والمبادئ الذي تشهده المجموعات
البشرية على كافة المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. حتى باتت هذه الظاهرة
مسبّة يلصقها كل طرف بالآخر، ويعتقد كل منهما أنه يحمل لواء الحق والاعتدال، وصحة
وسمو الأفكار والمبادئ التي يحملها، ويسعى بشكل دموي عنيف لكي يفرضها على الآخر
بحجة الدفاع عنها، وأن تلك الأفكار والمبادئ في الطرف المقابل ما هي إلا أفكار
متطرفة!.
وإذا كان هناك من قد
اعتبر التطرف وباء مرضياً طارئاً على الحياة البشرية المعاصرة، فإني أراه لا يعدو عن
كونه ظاهرة طبيعية بين البشر بشكل عام. فقد ازداد خطر التطرف على البشرية بشكل
كبير في الوقت الذي اختل فيه توازن القوى بشكل رهيب لصالح أحد الأطراف التي باتت
تمتلك القوة المادية الظالمة التي تسعى من خلالها أن تفرض تطرفها على إرادة وحقوق
الشعوب الأخرى. وذلك كما نلاحظه في سلوك وممارسات الدول الاستعمارية الكبرى وعلى
رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعي وتزعم أنها تحمل أفكاراً ومبادئاً
قيادية لإنقاذ الشعوب المتخلفة التي يطغى عليها التطرف ـ وفق رؤاها ـ لأسباب
اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وفي مقدمة تلك الشعوب التي تسلط عليها
الدعاية الغربية هجمتها التطرفية المجتمعات الإسلامية، وذلك في سعي دؤوب منها
لتشويه صورتها وصورة الإسلام الذي هو في حقيقته كما يراه الغرب الاستعماري المنافس
الحقيقي في أفكاره ومبادئه له. في حين تنسى تلك الدعاية نفسها وتتناسى المجتمع
الصهيوني الذي ساهمت في صناعته وتكوينه بشكل مباشر ومدته وتمده بعناصر الحياة على
اعتبار أنه جزء من حضارتها الغربية التي هي على طرفي نقيض مع البيئة التي غرس
فيها.
- جذور التطرف في
المجتمع الصهيوني:
لم يكن نشوء التطرف
في المجتمع الصهيوني حديثاً كحداثة نشوئه وتكوينه بل هو قديم قدم وجود اليهود
أنفسهم في التاريخ البشري، بحيث لم ينفصل التطرف عن فكرهم وسلوكهم في يوم ما. فهم
في الأصل أصحاب مشروع متطرف يقسم البشر إلى طرفين بعيدين متناقضين: طرف بشري وطرف
لا يلتقي مع البشر إلا بالشكل الظاهري فهو يرجع في تكوينه إلى أصل بهيمي دوني
بينما الطرف الأول يسمو في تكوينه ومكانته حتى يصبح جزء من الإله الذي يعتقدون أنه
مصدر ذلك التقسيم المتطرف!. وكيف لا يكون تقسيم هذا الإله متطرفاً وقد جعل من
البشر طرفين لا ثالث لهما، بحيث يتمتع الطرف الأول بكل صفات الآدمية فهو "شعب
الله المختار" الذي يرتقي بصفات الكمال في كثير من جوانبه، بينما الطرف الآخر
فقد سلب تلك الصفات بأمر من إلههم "يهوه" ولم يبق له سوى الشكل الخارجي لغاية
تخدم شعبه فقط!.
إن التطرف في الأصل
يسلب الطرف الآخر كل حقوقه فيستبح دمه وماله وعرضه وأرضه في عملية تنافسية مقدسة
تأتي استجابة لتنفيذ أوامر "الرب" فيه. والتقصير في أي جانب من ذلك هو
تقصير من الطرف الأول تجاه إلهه الذي يتوعده بالعقاب والعذاب والتشرد والشتات. لذا
يجب على الطرف الأول أن لا يساهم أو يساعد في بقاء الطرف الأول بأي حال من
الأحوال. ولم يخرج اليهود عن هذا الإطار في تكوينهم الفكري العقدي أو سلوكهم
العملي قديماً وحديثاً.
فمنبع التطرف في العقلية اليهودية الفكر الديني
الذي اتكأت عليه الحركة الصهيونية في تكوين أيديولوجيتها التي طرحتها خارج فلسطين
لكي تنفذها ضد الطرف الآخر في فلسطين، باعتبارها جزء من الأرض التي امتلكوها بوعد
"إلهي مزعوم" لا يعلمه أحد غيرهم. كما إن الطرف الآخر الذي وجد على تلك
الأرض هو نفسه قديماً وحديثاً، وكأنه جزء من تلك الأرض لم ينفصل عنها في يوم ما
كما هو الطرف الأول الذي لم يتكرم عليه إلهه "يهوه" بتمليكه أرضاً يقيم
عليها في الأصل، وإنما ملكه أرضاً مملوكة من قبل ذلك الآخر الذي انصب عليه الغضب
"اليهوي" لكي يُمارس عليه التطرف اليهودي بأبشع صوره بدء من اقتحام
"أريحا" و"عاي" على يد يشوع بن نون وانتهاء بما قام به
الصهيونيون من ممارسة أيديولوجيتهم المتطرفة تجاهه. ويمكن أن يقال: إنه لولا هذا
التطرف الذي جاءت به الحركة الصهيونية لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من
نجاح كبير في مشروعها الاستعماري الذي قاعدته فلسطين.
ولعل أبرز مبادئ
الأيديولوجية الصهيونية المستوحاة من الفكر الديني التي بلورة صورة المجتمع
الصهيوني المتطرف يمكن أن نوجزها بالنقاط التالية:
- إن اليهود المنتشرين في جميع أصقاع الأرض هم مجموعة بشرية
واحدة تشكل "الشعب اليهودي" المتفرد بصفات خاصة عن مجموع البشر جميعاً
في تكوينه وأهدافه.
- هذا "الشعب اليهودي" المنتشر في أصقاع الأرض مرتبط
دينياً وسياسياً بأرض محددة يحتلها الطرف الآخر الذي لم يغادرها أبداً وعليه ـ
الشعب اليهودي ـ أن يهاجر إليها مجدداً لإقامة كيان سياسي عليها وفق المزاعم الدينية لكي يمارس دوره الحضاري
والقيادي للعالم.
- يجب أن يكون هذا الكيان خاصاً "بالشعب اليهودي" فقط،
لذا يجب اقتلاع الطرف الآخر من مكانه والحلول محله، وعدم قبول التعايش معه في أي
وضع أو ظرف كان.
- قناعة الطرف الأول ـ اليهودي ـ أن الطرف الثاني أصحاب الأرض
يتمسكون بعقيدة دينية منافسة متطرفة لا تقبل التنازل والمساومة في حقوقها ومبادئها
وغاياتها.
فهذه المبادئ تشكل
الثوابت الأساسية في العقلية الصهيونية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولا يمكن
الاختلاف حولها. بل على العكس من ذلك تشكل تلك الثوابت عامل توحد فيما بين اليهود
جميعاً، وتنشط عامل التنافس عندهم في بناء المشروع الصهيوني. ولا يمكنهم من حيث
الأصل تجاوز أي منها، أو التراجع عن بعضها، أو إظهار الضعف في التمسك بأي منها.
فهي جوهر العقيدة اليهودية ومنهاج الحركة الصهيونية، والوسيلة الوحيدة للمحافظة
على ما تم إنجازه من المشروع الصهيوني الذي يسعون إلى إتمامه من جميع جوانبه
وإنجاز جميع مراحله التي لم ينجز منها إلا بعضها لغاية الآن.
وإذا كانت مبادئ
وثوابت الحركة الصهيونية التي تشكل قاعدة التطرف بالنسبة لها لم تكن حديثة حداثة
الحركة الصهيونية ذاتها بل هي قديمة قدم وجود العقيدة اليهودية التي استوحت منها
أيديولوجيتها وأفكارها ومنهاج عملها، فإن الحركة الصهيونية على المستوى
الأيديولوجي والفكر السياسي فقد عرفت التطرف قبل أن تقتحم فلسطين وتضع اللبنات
الأولى في تكوين المجتمع الصهيوني المتطرف. فنتيجة الخلاف داخل الحركة الصهيونية
في الأصل، اتسمت بعض الاتجاهات فيها بالتطرف في مبادئها وأفكارها حول الوسائل
المؤدية إلى تحقيق الثوابت الأساسية للحركة الصهيونية. وهذا الخلافات قد انتقلت
إلى داخل فلسطين مع خطوات الاستعمارية الصهيونية الأولى باتجاهها. ولإيضاح ذلك
نستعرض أبرز الاتجاهات التي برزت داخل الحركة الصهيونية :
-الصهيونية
التوفيقية:
إن الخلاف البارز
داخل الحركة الصهيونية نشب في بداية الأمر بين ما يسمون "بالصهيونيين
السياسيين" ومن يسمون " بالصهيونيين العمليين". وقد أيد الطرف
الأول هرتسل، وكان يعطى الأولوية لحصول الحركة على اعتراف وتأييد الدول الكبرى
لهدف تحقيق الثوابت الصهيونية في فلسطين، بحيث يبدأ تنفيذ المشروع الصهيوني في ظل
حماية ومساندة دولية. أما الطرف الثاني فقد ركز على أولوية تهجير اليهود وبناء
المستوطنات في فلسطين ومن ثم السعي للحصول على تأييد واعتراف دولي بما تم إنجازه
من المشروع الصهيوني.
لكن الأحداث على
الأرض كانت تسير وفق منهج الطرف الثاني، فقد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر هجرة
المجموعات اليهودية إلى فلسطين، وبناء المستوطنات فيها، وباتت بأمس الحاجة إلى دعم
خارجي لمواصلة النشاط الصهيوني الاحتلالي. في الوقت نفسه كان الطرف الأول الذي
يتزعمه هرتسل يرى أن المسألة اليهودية ليست قضية دينية، أو قضية اجتماعية فحسب،
وإنما هي قضية سياسية بالدرجة الأولى وتتطلب إجراء اتصالات ومفاوضات مع الدول
المعنية التي لابد منها. وبخاصة أن المشروع الصهيوني يتطلب الاستيطان القومي وليس
التسلل الخفي إلى فلسطين. وقد استطاعت الحركة الصهيونية بمزيج من هذين الطرفين أن
تواصل نشاطها تحت ما سمي "الصهيونية المركبة أو التوفيقية". وقد قصد من
ذلك التوفيق بين الطرفين المختلفين حول الوسائل التي كانت سائدة بينهما بما يسمح
لهما بالعمل في إطار الحركة الصهيونية وثوابتها من دون التقيّد بأساليب ووسائل
محددة.
- الصهيونية
التصحيحية:
قد تزعم هذا الطرف
"فلاديمير جابوتنسكي" الصهيوني المتطرف بسبب عدم موافقته على السياسة
التي اتبعها " حاييم وايزمن" سواء بالنسبة للاستيطان، أو في علاقاته مع السلطات
البريطانية. وقد كان لجابوتنسكي وصهيونيته تأثير كبير في بنية المجتمع الصهيوني
وتغذية التطرف فيه.
فقد كان يرى
جابوتنسكي أن الهدف الأول للصهيونية هو تحقيق الغالبية اليهودية في فلسطين، ومن
أجل الوصول على هذا الهدف، فقد كان يقترح هجرة (40) ألف يهودي سنوياً إلى فلسطين،
على أن يزداد المعدل ما بين (50) و(60) ألفاً بعد الحصول على شرقي نهر الأردن،
ويجب على سلطة الانتداب البريطانية أن تقوم بدور فعال لتنفيذ وعد بلفور الذي قطعته
لليهود. كما يجب المطالبة باستعادة شرق نهر الأردن، وعدم تقديم أية تنازلات في
الثوابت الصهيونية لاسيما فيما يتعلق "بالأرض الموعودة" على وجه الخصوص.
وتقع مسؤولية تحقيق الثوابت الصهيونية والدفاع عنها على عاتق اليهود أنفسهم من
خلال بناء جيش يهودي قوي، وإقامة ما أسماه "الجدار الحديدي" لردع العرب.
وقد لخص جابوتنسكي أفكاره الصهيونية المتطرفة على النحو التالي:
-«هدف الصهيونية هو
إقامة الدولة اليهودية.
ـ وامتدادها الإقليمي
على جانبي نهر الأردن.
ـ ونظامها هو
الاستيطان .
ـ وحل المشكلة
المالية هو القرض الوطني.
ولا يمكن تحقيق هذه
المبادئ الأربعة من دون التأييد الدولي. ولذلك فإن وصية الساعة هي حملة سياسية
جديدة، وعسكرة الشباب اليهودي في أرض إسرائيل».
- الصهيونية
الثقافية:
وقد تزعم هذه الطرف
في الحركة الصهيونية "آحاد هاعام" الذي لقي تأييداً كبيراً من كثير من
الصهيونيين المعاصرين له بسبب عودته بالصهيونية بشكل صريح إلى الثقافة اليهودية
الدينية ومحاولة إحيائها على أرض الواقع في حياة اليهود الجديدة في فلسطين. لأنه
كان يعتقد أن الخطر الحقيق الذي يهدد الاستمرارية اليهودية في الواقع الجديد هو
فقدان الإحساس بالأمان وعناصر التوحد بين اليهود بسبب ضعفهم بالتمسك بالقيم
الدينية اليهودية وتقاليدها.
لذا بنى هذا الطرف
أولويته الصهيونية على أساس أن تكون الدولة اليهودية المركز الروحي لليهودية
وأفكارها ومعتقداتها وثقافتها في العالم أجمع، وأن تكون إقامتها أولاً بتوفير المناخ
النفسي وتقوية الوعي القومي الديني لدى اليهود، ومن ثم تأتي الوسائل الأخرى
السياسية والمادية لكي تدعم ذلك.
-
نشأة التطرف في المجتمع الصهيوني:
حمل اليهود الذين
جاؤوا إلى فلسطين محتلين تحت مزاعم دينية بذور التطرف الديني والسياسي معهم. فعندما
أخذوا بتشكيل نواة مجتمعهم الجديد بدأت تتنامى فيه تلك البذور بشكل مضطرد يتناسب
مع سرعة الأحداث وحاجات ومتطلبات الوضع الجديد الشاذ. وقد كان تنامي التطرف مبعثه
التمسك بالمبادئ والثوابت الصهيونية، والتنافس حول الأولويات التي تخدم تلك
الثوابت. ولإيضاح ذلك نستعرض أبرز الكتل السياسية والحركات الدينية التي انبثقت من
داخل المجتمع الصهيوني في فلسطين على النحو التالي:
1-
حزب العمل الصهيوني:
أعلن تأسيس هذا الحزب
في 21 /1/ 1968 من اتحاد أحزاب "الماباي" و"أحدوت" "هاعافودا"
و"رافي"، وكان ذلك نتيجة لمحاولات "الماباي" استعادة هيمنته
على الحياة السياسية في الكيان الصهيوني.
وقد حدد ميثاق حزب
العمل أهدافه تحت منهاج العمل على تجميع الشعب اليهودي في بلاده، وإقامة مجتمع
عمالي حر في إسرائيل، والسعي من أجل تحقيق الأهداف القومية والاجتماعية على هدي
روح تراث الشعب اليهودي. أما الأهداف السياسية فقد حددها الميثاق بالعمل على
الوصول إلى السلام الحقيقي والدائم بين إسرائيل وجاراتها، والحرص الدؤوب على أمن
إسرائيل، وإبعاد كل خطر يتهدد كيانها وسيادتها وسلامتها ووحدة أراضيها. ويجب دعم
مكانة إسرائيل في العالم، وكسب الأصدقاء بين دول العالم وشعوبها. بعبارة مختصرة
حدد الميثاق الثوابت التي يجب العمل على تحقيقها، وكيفية المحافظة على ما تم
إنجازه منها وفق خطة واضحة مدروسة.
2-
حزب الليكود:
نشأ حزب الليكود من
تكتل عدة أحزاب صهيونية في 13/9/ 1973، وقد جاء تشكيله ليكون مقدمة لطرق أبواب
السلطة السياسية في الكيان الصهيوني بزعامة "مناحيم بيجن" الذي دخل
انتخابات الحكومة الإسرائيلية عام 1977 عن حزبه، وتمكن من الحصول على (45) مقعداً
من أصل (120) مقعداً هي مجموع مقاعد أعضاء الكنيست الإسرائيلي. وتمكن "بيجن"
إثر تحالفه مع أحزاب أخرى تلتقي مع حزبه من الوصول إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
ويمكن تلخيص برنامج حزب الليكود السياسية الذي خاض على أساسه الانتخابات على النحو
التالي:
- سيادة إسرائيلية
مطلقة على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
- حرية الاستيطان
بالنسبة لليهود في جميع أنحاء "أرض إسرائيل" حسب المفهوم الديني
التاريخي اليهودي لهذه الأرض.
- الدخول في مفاوضات
ثنائية مباشرة مع الدول العربية المجاورة، وتوقيع معاهدات صلح مع كل دولة عربية
على انفراد، وذلك على أساس عدم التفريط بالأراضي "اليهودية" التي تم
استعادة احتلالها.
- يجب العمل على
تهجير اليهود الذين مازالوا يقيمون في البلدان العربية، والبلدان الأخرى التي
يوجدون فيها إلى دولتهم "دولة إسرائيل" على اعتبارها "الدولة
اليهودية" الوحيدة لليهود في جميع أنحاء العالم.
3-حركة هتحيا:
هذه الحركة من
الحركات التي تظهر تشدداً بالتزامها بالثوابت الصهيونية، وقد ظهرت عام 1970،
احتجاجاً على اتفاق "كامب ديفيد". وقد اتسمت هذه الحركة بالانسجام
الداخلي فيما يتعلق بتطرفها على مستوى الثوابت وعلى مستوى الوسائل بالفكر الديني
والفكر السياسي اليهودي، وبخاصة فيما يتعلق بنظرتها إلى الطرف الآخر ـ العرب ـ
الذين يقيمون على "أرض إسرائيل". وقد قال زعيم هذه الحركة "توفال
نئمان": «إنني أنظر إلى الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني كنظرتي إلى أرض
إسرائيل».
4-
حركة موليديت: حركة صهيونية
متطرفة، تركزت أهدافها حول أولوية مواصلة الطرد الجماعي للعرب الذين يقيمون على
"أرض إسرائيل"، وذلك عن طريق تحويل حياتهم إلى جحيم فلا يتمكنون من
مواصلة الحياة فيها.
5-
حركة كاخ: حركة صهيونية مشهورة بتطرفها وتطرف
أبرز شخصية فيها "كاهانا" الذي كان يتزعمها قبل مقتله عام (1990). وقد
أطلقت هذه الحركة على نفسها اسم "كاخ" التي تعني (هكذا)، الذي وضعته تحت
الشعار الذي رفعته على النحو التالي: " يد تمسك بالتوراة، وأخرى
بالسيف". وتعني بذلك أن السبيل الوحيد لتحقيق الثوابت الصهيونية هو التوراة
والسيف.
6-
حركة غوش إيمونيم: حركة صهيونية دينية
متطرفة تأسست بعد حرب (1973)، وقد استمدت تعاليمها من المدرسة الدينية في القدس
التي ترأسها الحاخام "تسفي يهود كوك" الابن الوحيد للحاخام السابق
"يهود كوك. ويقف وراء هذه الحركة ويلتزم أفكارها رجال كبار في الحكم وفي
إدارة الأعمال الصهيونية. وتسعى هذه الحركة وراء التحقيق الكامل للثوابت
الأيديولوجية الصهيونية.
7-
حزب المفدال: الحزب الديني القومي
الذي تأسس عام (1956). وقد جمع هذا الحزب بين الفكرة الصهيونية والديانة اليهودية
معتبراً أن الفصل بين الاثنين غير ممكن وغير مقبول. وعلى هذا يدعو إلى بناء مجتمع
إسرائيلي على أسس المقومات الروحية والاجتماعية للديانة اليهودية. ومن أجل الوصول
إلى هذا الهدف يجب الالتزام بتعاليم التوراة، وبالتالي يجب أن تكون جميع التشريعات
الإسرائيلية مبنية على هذا الأساس، واعتبار الحاخام الأكبر أعلى سلطة في الدولة.
ويتشدد الحزب في قضية وضع سياسة استيعابية كاملة لهجرة اليهود إلى فلسطين التي تتطلب
على الدوام وضع سياسة إسرائيلية توسعية تخدم ذلك. ويعتبر قادة هذا الحزب من أكثر
قادة الكيان الصهيوني التزاماً بالثوابت الصهيونية لاسيما فيما يتعلق منها بالأرض
التي طرد الفلسطينيين منها.
ومما سبق نلاحظ أن
مؤسسي الحركة الصهيونية انطلقوا من رحم الفكر الديني اليهودي في طرح أيديولوجيتهم
السياسية المتطرفة التي تباينت فيها الاتجاهات الصهيونية حول الوسائل المؤدية إلى
كيفية الوصول إلى الهدف الذي اتفقوا عليه جميعاً، وهو إنشاء كيان سياسي استعماري
قاعدته فلسطين، وذلك وفق الرؤى الدينية اليهودية التاريخية. وقد نجحت الصهيونية في
إنشاء مجتمع صهيوني يحمل نفس الأيديولوجية، ونفس الأفكار، ونفس التباينات الداخلية
التي أفرزت أحزاب وحركات متطرفة ساهمت بشكل كبير في الإنجازات التي حققها المشروع
الصهيوني. كما إن المجتمع الصهيوني أفرز شخصيات متطرفة كان لها دور كبير وفعال في
بنائه وتكوينه ولها تأثير في الأجيال الصهيونية المعاصرة والقادمة في صناعة وتناقل
الموروث الفكري المتطرف والمنهج العملي المتطرف الذي يحدد لهم الطريق في إكمال
المراحل المتبقية من المشروع الصهيوني في المنطقة. ولإيضاح ذلك نستعرض بشكل سريع
أبرز تلك الشخصيات على النحو التالي:
- بن جوريون: من كبار مؤسسي الكيان الصهيوني، ولاشتهاره بالتمسك
بالثوابت الأيديولوجية الصهيونية المستمدة من الفكر الديني فقد أطلق عليه
"نبي الصهيونية المسلح". وقد كان يشير إلى التلمود الذي يوجب على كل
يهودي قادر أن يأتي إلى أرض الميعاد ولا يفعل فهو كافر. وكان يقول: بالدم والنار
سقطت يهوذا، والدم والنار ستقوم ثانية.
- مناحيم بيجن: أحد زعماء الصهيونية،
وزعيم حزب حيروت، وأيضاً تحالف الليكود، وزعيم منظمة الأرجون الإرهابية التي تميزت
بعملياتها الإرهابية ضد العرب لإرغامهم على الخروج من فلسطين، ومن أشهر عملياتها
(دير ياسين). وكان بيجن متأثراً أفكار أستاذه
جابوتنسكي القائلة بأنه كل يهودي له حق الحياة في فلسطين، وأن ردع العرب
عسكرياً هو الوسيلة الوحيدة لإخضاعهم، وأن القوة العسكرية اليهودية هي وحدها
الكفيلة بإقامة الدولة اليهودية على كل "أرض إسرائيل".
- أرييل شارون: فقد انتخب رئيساً
للوزراء في شباط عام 2000، لما لهذا الرجل الصهيوني من سجل دموي حافل في تاريخ
الكيان الصهيوني، بحيث يمثل شارون صورة العنف والإرهاب في الأيديولوجية الصهيونية
التي يحتمي وراءها الصهيونيون في فلسطين.
- بنيامين نتنياهو: لم يكن نتنياهو معروفاً
بالنسبة للمجتمع الصهيوني قبل انتخابات 29/أيار 1996 التي أتت به إلى رئاسة
الحكومة الإسرائيلية الائتلافية اليمينية الدينية المتطرفة التي شكلها بعد خسارة
حزب العمل والأحزاب اليسارية معه.
ويظهر فكر نتنياهو من
خلال كتابه (مكان تحت الشمس) الذي انطلق فيه من الثوابت الصهيونية القائمة على
أحقية اليهود بما يسمى "أرض إسرائيل التاريخية" لإقامة كيان سياسي خاص
بهم. وأوضح في كتابه نظرته العنصرية إلى العرب الذين لا يفهمون وفق زعمه سوى لغة
القوة والعنف، وأن السلام الوحيد الذي يمكن أن يقام معهم هو سلام الردع.
- إيهود باراك: رجل صهيوني له سجل
عسكري حافل في بناء المشروع الصهيوني، فاز بانتخابات الحكومة الإسرائيلية في
17/أيار 1999، وكان زعيماً عن حزب العمل. إذ لم يكن كالشخصيات السابقة من الليكود
أو الشخصيات اليمينية وفق التقسيمات السياسية داخل المجتمع الصهيوني، ولكنه مع ذلك
فور ظهور نتائج الانتخابات والإعلان عن فوزه فيها أعلن برنامجه السياسي الذي تضمن
لاءاته الخمس التي تتفق من حيث الجوهر مع ثوابت الأيديولوجية الصهيونية، ومع
أطروحات جميع الكتل السياسية في المجتمع الصهيوني من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وهذه اللاءات باختصار هي:
- لا لحق اللاجئين
الفلسطينيين بالعودة.
- لا انسحاب من القدس
مع بقائها عاصمة موحدة تحت السيادة الصهيونية.
- لا انسحاب إلى حدود
الرابع من حزيران عام 1967.
- لا وجود لأي جيش
فلسطيني أو غير فلسطيني غرب نهر الأردن.
- لا لإزالة
المستوطنات والتأكيد على ضم التجمعات الاستيطانية اليهودية في الضفة إلى الكيان
الصهيوني.
- شمعون بيريس: إنه ليس بالشخصية
المجهولة أو محدودة التأثير في "دولة اليهود" إنه واحد من بناة هذه
الدولة الكبار، وهو واحد من أبرز شخصيات جيل الصهاينة المؤسسين الثالث، بعد الجيل
الأول الذي طرح فكرة "الدولة اليهودية" ثيودور هرتسل والجيل الثاني الذي
أسس بالفعل هذه الدولة جيل حاييم وايزمن، وديفيد بن جوريون، وشكل بيريس مع اسحق
رابين ومعهما موشي دايان ثلاثة من أهم عناصر الجيل الثالث، بصماتهم واضحة في جميع
أركان الدولة، ودورهم معترف به في شتى أرجائها، وأداؤهم بارز في أهم ركائزها:
المؤسسة العسكرية الصهيونية. وقد اعتبر بيرس واحداً من الصقور في السبعينات، بينما
اعتبر واحداً من الحمائم في الثمانينات والتسعينات. لكنه امتعض من إدراج اسمه مع
الحمائم، فقال: "لا يصح أن يصفوني بأنني من الحمائم..إلا إذا كانوا يعتقدون
أنني صياد ماهر.. ـ (إن مجزرة قانا شاهد على مهارته في قتل البشر) ـ أو أنني أحب
أكل الطيور". وقول بيريس هذا مطابق
لواقع حاله، لأن التمييز بين الصقور والحمائم أو بين اليمين واليسار أو بين كتلة
الليكود والعمل في "الدولة اليهودية" ليس إلا في إطار التنافس في الأولويات
التي تحقق الأهداف والغايات التي تنطلق من الثوابت التوراتية التلمودية الصهيونية.
وقد كان يقول: "إنني أحلم بإسرائيل الكبرى غير أن مفهومي لإسرائيل الكبرى قد
لا يعني جغرافياً... إن الاحتلال ليس من أخلاق الشعب اليهودي.." (لكنه يقول):
"غير أننا مضطرون لذلك".
ومن المعلوم أن بيريس
اليوم يتزعم حزب العمل اليساري، وهذا يدفع إلى التساؤل عن الفرق بين اليمين
واليسار في منهجية التطرف التي تكتسح كل المجتمع الصهيوني. ويمكن أن نجيب على ذلك
من خلال قول "داني ميرادور" وزير المالية السابق ـ وهو يميني متطرف ـ في
مقابلة معه في الشرق الأوسط في 8/1/1999، : «تعالوا نحدد ما هو اليسار أولاً في
إسرائيل؟ يقال: إن حزب العمل يسار، حسناً لقد كنا في حكومة وحدة وطنية في زمن
الانتفاضة فمن كان اليمين ومن كان اليسار؟ هل تصدقون أنني "ميردور"
يميني مقابل "رابين" حين كان هو يدعو إلى تهشيم العظام وأنا أدعو إلى
حماية حقوق الإنسان؟!! الفرق بين الليكود والعمل آخذ في الزوال (هذا إن كان هناك
فرق أصلاً) بيريس كان يسارياً عندما قاد عملية قانا في عام 1996، ولا أعرف يهودياً
واحداً مستعداً للقبول بعودة اللاجئين إلى حيفا ويافا، ما يعنينا هنا هو أثر غياب
الفروق الأيديولوجية على أعمال الحكومة الإسرائيلية المقبلة».
فالثوابت
الأيديولوجية الصهيونية هي ثوابت المجتمع الصهيوني بجميع تكويناته الحزبية
والحركية، الدينية منها والعلمانية، اليمينية واليسارية، الليكودية والعمالية.
والاختلاف الوحيد بينها هو اختلاف أولويات حول الوسائل والأساليب التي تخدم تلك
الثوابت. ولا شك أن كفة التطرف قد مالت باتجاه الحركات الدينية واليمينية
الليكودية التي كانت أولوياتها أنجح وأدق وأكثر ثقة وتعبيراً عن جوهر المشروع
الصهيوني. لذلك وجد فيها المواطن الصهيوني وبخاصة بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها
على الأرض الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يحميها من الأخطار الداخلية والخارجية التي
ما زالت تبعث على الخوف برغم مضي أكثر من قرن على تأسيس الحركة الصهيونية وأكثر من
نصف قرن على إعلان قيام "الدولة اليهودية".
فانسجاماً مع تعريف
التطرف بشكل عام الذي هو اعتقاد لدى أحد الطرفين مبني على صحة الأفكار والمبادئ
التي يحملها وكمالها المطلق، وأن ذلك ينتفي من الطرف الآخر. نرى أن التطرف في
المجتمع الصهيوني بنيوي تكويني يسير في اتجاهين الثاني منهما مكمل للأول، على
اعتبار أن الاتجاه الأول هو تطرف حول الثوابت وهذا متفق عليه في المجتمع الصهيوني
وهو موجه ضد الطرف الآخر غير الصهيوني اليهودي الذي يتمثل على وجه الخصوص بالعربي،
وأن الاتجاه الثاني هو تنافس داخل المجتمع الصهيوني ذاته وهو تطرف حول الأولويات
التي تخدم الثوابت التي قام عليها. وأعتقد أن مجتمعاً قائماً على هذا المستوى من
التطرف، لا يمكن أن يقاوم إلا بتطرف مماثل على مستوى الثوابت وعلى مستوى
الأولويات.
