التحدي الديمغرافي الفلسطيني للمشروع
اليهودي الصهيوني
(قراءة في الفكر الديني والفكر
السياسي اليهودي المعاصر)
شكلت الديموغرافيا الفلسطينية تحديًّا كبيرًا للمشروع اليهودي الصهيوني
قديمًا وحديثًا، وهذا التحدي ما زال أحد أهم القرارات الحاسمة المصيرية أمام
العقلية الصهيونية لتحقيق الحلم اليهودي بإقامة الدولة اليهودية التي يتهدد وجودها
بازدياد خطره من خلال التزايد السكاني للفلسطينيين الذين لم تستطع آلة التهجير
القسري اليهودي إزالتهم من أرضهم إلى يومنا هذا. الأمر الذي جعل من الحلم اليهودي
المرتبط بالجغرافيا بشكل أساسي التي هي "الأرض الخاصة" لقاعدة المشروع
الذي يشترط لنجاحه وقيامه أن يجتمع "الإله الخاص" "يهوه"
بشعبه الخاص اليهود عليها ليقودوا العالم وتنصاع لهم شعوب الأرض أمام واقع اعتبره
بعض قادة المشروع الصهيوني مُهددًا بالديموغرافيا التي باتت أخطر من الجغرافيا
التي يحتلونها ولابد لهم من مواجهتها وإيجاد الحلول لها.
ولإيضاح ذلك، كان هذا المبحث لدراسة التحدي الديمغرافي الفلسطيني للمشروع اليهودي الصهيوني في الفكر الديني
والفكر السياسي اليهودي المعاصر.
أولًا: الحلم اليهودي والتحدي الديموغرافي في الفكر الديني:
إن حلقة الانتقام اليهودية تنصب عبر التاريخ على الناس الذين يقطنون
فلسطين، والذين كانوا وراء انهيار حلم اليهود التاريخي بإقامة دولة يهودية على أرض
فلسطين، وذلك من خلال مقاومتهم المستمرة لذلك المشروع الاحتلالي المبني على عقيدة
تُوجب على أتباعها دينيًّا استئصال الشعب الموجود على تلك الأرض التي وعدوا بها
ويحلّوا محلهم ويقيموا دولة دينية عنصرية كل رعاياها من اليهود. وذلك لأن اليهودية
كديانة لا تتحقق العبادة فيها بشكل كامل وصحيح ما لم يتم الاتحاد الكلي بين الإله
الخاص "يهوه" والشعب الخاص "اليهود" والأرض الخاصة "أرض الميعاد"
والتي قاعدتها فلسطين.
لذا كان من الأوامر الدينية الأساسية الأولى التي أُمر اليهود بالقيام بها
أثناء وطئهم أرض فلسطين واحتلالها هي طرد سكانها، وذلك لما يشكله هؤلاء السكان من
خطر مستقبلي على بنية الدولة السكاني ونقائها العنصري من جهة، ومن جهة أخرى إن لم
يطردوا لن يَدَعوا اليهود الغاصبين ينعمون بالاستقرار في ممتلكاتهم التي سُلبت
منهم، فقد جاء في سفر الخروج: «لا تعاهدوا سكان الأرض لئلّا يدعونكم حين يعبدون
آلهتهم ويذبحون لهم فتأكلون من ذبائحهم، ولئلّا تأخذوا من بناتهم لبنيكم، فيجعلنهم
يعبدون آلهتهن التي يعبدنها»([1]).
إذًا بمجرد القبول ببقاء سكان فلسطين الأصليين وعدم طردهم، هذا سيؤدي مع
الزمن إلى قيام علاقات اجتماعية بين الجانبين تهدد "النقاء العرقي"
اليهودي، بل تُنجسه وفق التعبير الديني الذي يعتبر اليهود النسل الطاهر فقط وغيره
نجسًا، وقد ورد أن جزءًا كبيرًا من اليهود أيام "عزرا" خالف ذلك الأمر
بعدم الاختلاط ولم ينفصل عن سكان فلسطين، فقال "عزرا: «..أقبل بعض أعيان
الشعب إلي يقولون: شعب إسرائيل والكهنة واللاويون لم يفصلوا أنفسهم من شعوب هذه
الأرض من الكنعانيين والحثيين والفرزيين ...، فمارسوا أعمالهم الرجسة واتخذوا من
بناتهم زوجات لهم ولبنيهم، فاختلط نسلهم الطاهر بتلك الشعوب»([2]). ولما كان يشكله
بقاء سكان فلسطين الأصليين من خطر مستمر يهدد اليهود المحتلين لأرضهم، فقد أُمِرَ
اليهود دينيًّا بطردهم: «إن لم تطردوا أهل الأرض من أمامكم، يكونوا من تبقونه منهم
كمخرز في عيونكم وكشوكة في خواصركم، يضايقونكم في الأرض التي أنتم مقيمون بها.
فأفعل كما نويت أن أفعل بهم»([3]).
ولكن اليهود قديمًا فشلوا في محاولتهم الأولى على الرغم من كل الوصايا الدينية
لهم بذلك، فلم يستطيعوا أن يقيموا دولة يهودية مستقرة خالية من غير اليهود، حيث شكل
بقاء سكان الأرض من الفلسطينيين المتشبثين بأرضهم مقاومة مستمرة ساهمت بدور فعال في
النهاية الأولى لأحلامهم في إقامة "دولة يهودية" عنصرية، فلم يستطيعوا
طردهم من أرضهم وتشريدهم في جميع أصقاع الأرض، بل كان العكس من ذلك.
تلك
النهاية الأولى التي ساهم بها سكان فلسطين بشكل مباشر هي حية في ذاكرة اليهود وفي
أدبياتهم وتراثهم الديني الذي انطلقت منه الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع
عشر في سعيها لتحقيق الحلم اليهودي بإقامة "دولة يهودية" على أرض فلسطين والانتقام من أهلها عن طريق قتلهم وطردهم
وتشريدهم في جميع أصقاع الأرض وفقًا للوصايا الدينية لتجنب المصير الذي حل فيهم في
الماضي، مستفيدين من الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم في المحاولة الأولى.
إن جوهر الحلم اليهودي قديمًا وحديثًا يرتكز على تفريغ
الأرض التي وعدوا بها دينيًّا من أهلها لاسيما قاعدتها فلسطين، وإحلال اليهود
المنتشرين في جميع أصقاع الأرض محلهم، وإقامة دولة تخضع في حركتها إلى التراث
الديني اليهودي، وذلك على قاعدة أن الأرض التي يجب أن يتحقق عليها الحلم لا يمكن
أن تستوعب شعبين في آنٍ معًا، وبخاصة أن اليهود يعتبرون أنفسهم "شعبًا خاصًّا"،
وليسوا مجموعات بشرية تدين باليهودية، وأن الشعب الآخر دوني لا يلتقي معهم في
التكوين والمكانة التي تسمح بالحد الأدنى من التعايش معه، ويُضاف على ذلك أن هذا
الشعب "الدوني" قد أمسى بمعتقدهم مُغتصبًا لتلك الأرض بمجرد صدور
"الوعد الإلهي" بتمليك اليهود - "شعبه الخاص" - أرضه، وأسقط عنه
في المقابل الحق التاريخي ومشروعية امتلاكها أو العيش فيها إلى قيام الساعة!.
ولإيضاح متى وكيف ولد هذا الحلم الديني المبني على
استئصال الآخر في العقلية اليهودية، الذي عملت الصهيونية على تحويله من رؤيا دينية
إلى واقع ملموس في فلسطين، لابد بداية من تحديد مفهوم الشعب الخاص.
إن مصطلح "الشعب
الخاص" في المفهوم اليهودي لا يمكن فهمه إلا من خلال وضعه في سياقه الديني
التاريخي. لأن هذا المفهوم يوحي بأن هناك شعوبًا أخرى كثيرة موجودة في التوقيت
نفسه لا توازيه في المكانة ولا التكوين.
فقد تفرد اليهود وفقًا لهذه المصطلح
بميزات تختلف عن باقي البشر ترجع في بدايتها إلى نوح عليه السلام. إذ فجأة تُورد
توراة اليهود قصة عجيبة كانت نقطة البداية في التفريق بينهم وبين الشعوب الأخرى
إلى غاية الآن، بل وإلى قيام الساعة أيضًا. وهذه القصة تقول: «كان بنو نوح
الذين خرجوا من السفينة سامًا وحامًا ويافث، وحام هو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم
بنو نوح ومنهم انتشر سكان الأرض.
وكان نوح أول فلاح غرس كرمًا. وشرب نوح من الخمر، فسكر وتعرى في خيمته.
فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجًا. فأخذ سام ويافث ثوبًا
وألقياه على أكتافهما. ومشيا إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، وكان وجهاهما إلى
الخلف، فما أبصرا عورة أبيهما.
فلما أفاق نوح من سكره علم بما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان!
عبدًا ذليلًا يكون لأخوته. وقال: تبارك الرب إله سام، ويكون كنعان عبدًا لسام.
ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام ويكون كنعان عبدًا له!» ([4]).
من خلال هذا النص كُتب على كنعان وذريته من عصر نوح «أن يكون رقيقًا لبني
إسرائيل، وأنه لا ينبغي أن يكون لأفراد هذا الشعب وظيفة في الحياة غير هذه
الوظيفة، فإن تمردوا عليها أو طمحوا إلى الحرية وجب على بني إسرائيل أن يردوهم إليها
بحد السيف»([5]).
فقد لحقت اللعنة الكنعانيين من خلال قصة نوح، ولحقت البركة الساميين جيلًا
بعد جيل إلى قيام الساعة. وفق أوامر الرب لأبرام الذي هو من سلالة سام: « وقال
الرب لأبرام ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة
عظيمة وأبارك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك
جميع عشائر الأرض»([6]).
فبذرة الحلم الاستئصالي الاستعلائي التي غرست في الفكر الديني اليهودي بين
اليهود في نظرتهم للآخر من غير اليهود، قد انطلقت وتحركت في الحياة من خلال هذا
الأمر الديني مباشرة. حيث اللعنة لكنعان حرمته حق الحرية وحق الامتلاك للأرض التي
يعيش عليها، وسلبته الآدمية التي يجب أن يتمتع بها وفقًا لبشريته التي خلق عليها.
بينما البركة لأبرام منحته حق امتلاك أرض الغير وتسخيرهم والتسلط عليهم. أي منحته
ميزة التفرد والاصطفاء والاستعلاء التي رفعت من بشريته وآدميته لتلامس الصفات
الإلهية في جانب من جوانبها وتصبح جزء منها. ومن هنا، وُضِعت معالم الانقسام
النهائي بين عالمين مختلفين، عالم المصطفين وعالم المطرودين، عالم المقربين وعالم
المبعدين، عالم اليهود وعالم غير اليهود، عالم يتمتع بحق الحياة وحده، وعالم فرض
عليه الموت كي يسعد العالم الأول. وقد عبر عن هذين العالمين اليهودي "موريس
صاموئيل" بقوله: «اليهود.. وغير اليهود عالمان مختلفان متناقضان. فبيننا، نحن
اليهود، وبينهم خليج لا جسر عليه..
في العالم اليوم قوتان حيويتان: اليهود.. والأغيار.. ولا أظن أن التناقض
الأساسي بينهما يمكن إزالته بالتفاهم.. فالفارق بيننا وبينهم شاسع سحيق.. قد تقول:
حسنًا دعونا نعيش جنبًا إلى جنب، وليتحمل أحدنا الآخر، فلا نتهجم على أخلاقياتكم
ولا تتهجمون على أخلاقياتنا. لكنه للأسف فالتناقض بين فريقينا قائم على الكراهية
والحقد المميتين»([7]).
إن تقسيم العالم إلى قسمين غير متكافئين من خلال الفكر الديني التوراتي قد ترسخ
بشكل أعمق وأوسع وأوضح في الفكر التلمودي. حيث وردت فيه نصوص كثيرة عززت ذلك منها:
- «نحن شعب الله في الأرض، سخر لنا الحيوان الإنساني، وهو كل الأمم
والأجناس سخرهم لنا لأنه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أعجم كالدواب
والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب.. إن اليهود من عنصر الله،
كالولد من عنصر أبيه. ومن يصفع اليهودي كمن صفع الله. يباح لإسرائيل اغتصاب مال أي
كان. وإن أملاك غير اليهود كالمال المتروك يحق لليهودي أن يمتلكه.
- أنتم يا أمة إسرائيل تدعون بشرًا، أما ما عداكم من الأمم فوحوش.
- يا معشر اليهود: إنكم أنتم البشر. أما الشعوب الأخرى فليسوا من البشر
بشيء إذ إن نفوسهم آتية من روح نجسة، أما نفوس اليهود فمصدرها روح الله المقدسة»([8]).
- «بما أن الغوييم يخدمون اليهود كحيوانات الانتقال، فإنهم يخصون اليهودي،
بالإضافة إلى حياتهم وجميع قدراتهم وملكاتهم: إن حياة الغوي وجميع قواه الجسدية،
هي ملك لليهودي»([9]).
- «وقال الحاخام "أباربانيل": المرأة غير اليهودية هي من
الحيوانات. وخلق الله الأجنبي على هيئة الإنسان ليكون لائقًا لخدمة اليهود الذين
خلقت الدنيا لأجلهم، لأنه لا يناسب لأمير أن يخدمه ليلًا ونهارًا حيوان وعلى صورته
الحيوانية. كلا ثم كلا فإن ذلك منابذ للذوق والإنسانية كل المنابذة»([10]).
إنه من خلال قراءة ما جاء في توراة اليهود وتلمودهم، تتضح لنا أن فكرة
الشعب الخاص قد امتلكت على اليهود وجودهم الكلي فلم يعد يرون إلا أنفسهم من خلالها
كسادة وغيرهم عبيد "غوييم" في هذه الحياة، وأن النعيم في الآخرة خلق
لأجلهم جميعًا بغض النظر عن الالتزام بأوامر الرب عندهم. وأي منازعة في خاصية التفرد
في الأرض التي امتلكوها بالوعد التوراتي توجب عليهم الحرب. ولهذا فإن بذرة الحرب في
العقلية اليهودية زرعت في هذه الأرضية من الكراهية للآخر والاستعلاء عليه، وحملت معها
موروث الحقد التاريخي الذي حال دون تحقيق حلمهم الأول في "أرض الميعاد".
وأمست الحرب قائمة كفكرة وواقع في العقلية اليهودية الاستعلائية العدوانية أينما
حلت أو ارتحلت ولا يمكنها الاستغناء عنها من أجل إعادة تنفيذ المشروع الديني بكل
تفاصيله في محاولة أخرى جديدة، التي لا يحول دون ممارستها كسلوك تجاه الآخر الذي
يسكن أرض كنعان على وجه الخصوص غير القدرات المادية.
وإذا بدا هذا الاستنتاج استقراء لأساطير
توراة اليهود وتلمودهم وحركتهم في التاريخ قديمًا، إلا أنه مازال مستمرًا في
العقلية اليهودية الصهيونية وفي ممارساتها إلى اليوم. وهذا ما أكده الصهيوني
"يوسي ميلمان" في قوله: «هذه الممارسات في اللاعتراف قد تجذرت عن سابق
إصرار كمسعى يصبو للحطّ من شأن العرب وليخلق انطباعًا أن النضال ليس بين أمتين، بل
هو بيننا نحن أمة اليهود وبين العرب الذين هم قطيع حيوانات...» ([11]).
فالفكر الديني اليهودي يُغذي بشكل مستمر الانفصال المجتمعي بين اليهود
وغيرهم، ويُفرز مفاهيم خاصة من الفكر واللغة والسلوك على نحو فريد بهم ([12])، تعطي
المشروعية المستمرة في الحرب من أجل تحقيق حلم التفرد الاستعلائي في الأرض الموعودة.
كما إن عقيدة الاختيار في الفكر الديني اليهودي هي عقيدة موجودة مع بداية
وجود هذا الفكر ولها أصول ثابتة في الكتابات اليهودية، بل إن هذه العقيدة هي التي
ميزت اليهود عبر العصور وأثرت على تاريخهم بالشعوب الأخرى([13]). ومنحتهم
استمرارية البقاء، وذلك اعتقادًا منهم أن ذلك برنامج إلهي خاص بهم. حيث سيُعاقب
إلههم بهم الأمم الأخرى، وهم الذين سيبقون وحدهم في آخر الزمان. فهم يسمون أنفسهم
"الشعب الأزلي" و"الشعب الأبدي" مثلهم كمثل إلههم "يهوه"،
حيث يعتقدون أن لا أول له ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية!! ([14]). وقد ورد في
كتبهم: « وهذا ما قال الرب القدير: سأخلص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب
الشمس وأجيء بهم فيسكنون أورشليم، ويكونون لي شعبًا، وأكون لهم بالحق والصدق»([15]). وإلى أن يتحقق ذلك الحلم يبقى القتل أمرًا واجبًا تجاه
الغير متى تمكنوا منه، فقد ورد في التلمود: «اقتل الصالح من غير الإسرائيليين،
ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع
فيها، لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين». كم ورد فيه أيضًا: «من العدل أن يقتل
اليهودي بيده كل كافر، لأن من يسفك دم الكافر يقرب قربانًا لله»([16]).
بعد إيضاح عقيدة الشعب الخاص في الفكر اليهودي، وكيف تغذت هذه العقيدة،
وكيف نمت، وكيف ولد الحلم اليهودي في إقامة "الدولة اليهودية"، ندرك
لماذا استجاب موسى لإلهه "يهوه" في قيادة بني إسرائيل، وإعلانه الحرب
مباشرة بخروجه من مصر باتجاه أرض الكنعانيين التي كانت خالية من اليهود تمامًا كما
هو الحال عند المقارنة مع الفارق الزمني مع تاريخ إرهاصات ولادة الحركة الصهيونية
التي تؤكد أن عدد اليهود قبل الهجرة الأولى إلى فلسطين عام 1882 لم يتجاوز (23)
ألفاً موزعين في المدن المقدسة فيها، وقد وصل عددهم في عام 1895إلى حوالي (60) ألف
يهودي بينما كان عدد سكان فلسطين نصف مليون نسمة. فهناك إله خاص "يهوه"
وشعب خاص "اليهود" وأرض خاصة منحت لهم تلائم مكانتهم وتكوينهم. لكن هذه
الأرض التي لم تكن تحت أيديهم قبل اقتحام يشوع لها قديمًا، فهي كذلك كانت قبل وجود
الحركة الصهيونية وبدء تنفيذ مخططاتها الاحتلالية حديثًا، فهي مأهولة بسكانها، لذا
كان لابد من الحرب لاستئصالهم وإزاحتهم والحلول محلهم مستفيدين من فشل التجربة
الأولى في مواجهة التحدي الديموغرافي لهم!!.
ثانيًا: الحلم اليهودي والتحدي
الديموغرافي في الفكر السياسي المعاصر:
ونستعرض ذلك من
خلال الوقوف مع أبرز زعماء الصهيونية الذين كان لهم دور مؤثر وكبير في بناء
المشروع الصهيوني في فلسطين.
نحن الآن بعد أكثر من مئة عام على ولادة كتاب هرتسل
"الدولة اليهودية" الذي أراد منه أن يكون الخطة الأساسية لمشروع يحلم به
كل يهودي وفق زعمه القائل: «لقد ظل اليهود يحلمون هذا الحلم الملكي خلال الليالي
الطويلة من تاريخهم»([18])، والحلم
اليهودي الذي عناه هرتسل أن يكون لليهود دولة خاصة بهم وحدهم، وقد تبنت الحركة
الصهيونية خطة هرتسل وسعت لتطبيقها في محاولة منها لتحويل الحلم القديم المنهار
إلى واقع حي، لكن هل تحقق ذلك الحلم كما يريدون؟!.
إن جوهر المشروع الصهيوني يقوم على العمل الحثيث والمتدرج البطيء لإقامة
"الدولة اليهودية" التي يكون كل رعاياها من اليهود، أو أغلبهم إن لم يكن
بالمستطاع تحقيق ذلك في نهاية الأمر. وبالعودة إلى "هرتسل" مؤسس
الصهيونية وزعيمها بلا منازع في كتابه "الدولة اليهودية" الذي يعتبر ذا
أهمية كبيرة في الفكر الصهيوني السياسي المعاصر، ودليل عمل الحركة الصهيونية التي
وضع بعض زعمائها الكتاب في منزلة لا تقل عن منزلة التوراة بالنسبة لدى اليهود،
فإننا نجده قد تجاهل بشكل متعمد سكان الأرض التي ستكون مكان "الدولة"
التي سيحتلها اليهود باستثناء إشارات تكشف عن نظرته العنصرية وأفكاره الاستعمارية،
ومن تلك الإشارات قوله: «ليس هناك إنسان غني أو قوي بالقدر الذي يستطيع أن ينقل
أمة من بيئة لتستوطن بيئة أخرى. الفكرة وحدها هي التي تستطيع ذلك، تلك هي فكرة
"الدولة"، فهي وحدها التي يمكن أن تحمل في طياتها القوة اللازمة لأن
تفعل ذلك. لقد ظل اليهود يحلمون هذا الحلم الملكي خلال الليالي الطويلة من
تاريخهم. "العام القادم في القدس" إنها عبارتنا القديمة. المشكلة الآن
أن يتحول هذا الحلم إلى واقع حي»([19]). فقد كان هَمُّ
هرتسل الوحيد هو كيفية أن يتحول الحلم القديم المنهار إلى واقع من دون أن يخبرنا
عن مصير الأمة التي سوف يسلب اليهود أرضها، وبخاصة أنه يُخبرنا عن استراتيجيته في
كيفية الاحتلال لتحقيق الهدف قائلًا: «لا ينبغي أن نتصور أن رحيل اليهود سيكون
رحيلًا مفاجئًا، وإنما سيكون رحيلًا تدريجيًّا ومستمرًا على مدى عقود من الزمان»([20]). وكان يريد
هرتسل من هذا الرحيل المتدرج لليهود والطرد المتدرج لسكان الأرض التي يحتلونها إلى
الأكثرية التي يمكنها إقامة "الدولة اليهودية" لأنه يعتقد أن «الأكثرية
في أي بلد يمكنها أن تقرر من هم الأجانب، فالقضية هنا قضية قوة شأنها الأمور
الأخرى التي تنشأ في مجرى العلاقات بين الشعوب»([21]). ولكن عند
شرحه عن كيفية التدرج في إقامة "الدولة" يكشف عن نظرته إلى الشعوب التي
تمتلك تلك الأرض على اعتبار أنها حيوانات متوحشة فيقول: «إذا أردنا أن نقيم اليوم
دولة فلن نقيمها بنفس الطريقة التي كانت هي الإمكانية الوحيدة منذ ألف سنة. إنه من
الغباء الرجوع إلى المراحل الحضارية السابقة كما يريد كثير من الصهاينة أن يفعل.
لنفرض كمثال على ذلك، أنه كان علينا أن نخلي أرضًا من الحيوانات المفترسة، فلن
نقوم بالمهمة بنفس الطريقة التي اتبعها الأوروبيون في القرن الخامس. فلا يصح أن
نأخذ رمحًا وحربة ونخرج أفرادًا وراء الدببة، بل ينبغي أن ننظم مجموعة قوية من
الصيادين، فنسوق الحيوانات لنجمعهم معًا في مكان واحد ثم نقذف في وسطهم بقنبلة
مدمرة»([22]). تلك النظرة
منبعها العقيدة الدينية اليهودية التي تحط من مكانة الآخر وتفقده آدميته واعتباره
وعدده ووجوده، لذلك يتحدث هرتسل عن مشروع الدولة اليهودية من دون أن يعطي أدنى
أهمية للسكان الذين يمتلكون أرضها، ولذا لم نلاحظ أن وجود هؤلاء السكان يسبب مشكلة
بالنسبة إليه أكثر من كونهم حيوانات مفترسة يسهل التخلص منها جماعيًّا بالأسلحة
العسكرية الحديثة. وربما هذا الاستخفاف عند هرتسل يرجع إلى كونه لم يصطدم بهم وجهًا
لوجه، وأنه وضع كتابه خارج الأرض التي يحلم بها بخلاف الذين أتوا بعده من الصهاينة
الذين أخذوا يحولون الفكرة التي طرحها هرتسل إلى واقع!!.
لم يكن جابوتنسكي يختلف كثيرًا عن
هرتسل في نظرته إلى سكان فلسطين من حيث الاحتقار والتجاهل، ولا يختلف معه من حيث
الأهداف أيضًا لأن منبعها واحد وغاياتها واحدة وهي التي أعلنتها الحركة الصهيونية
والتي ترتكز حول العمل على إنشاء "الدولة اليهودية"، ولكن كان هناك بعض
الاختلاف في الوسائل التي توصل إلى الهدف برغم وجود نقاط التقاء كثيرة بينهما، ومن
أهمها فيما يتعلق بسكان فلسطين العمل على ترحيل اليهود إلى فلسطين ليكونوا أكثرية
فيها، والعمل في المقابل على طرد أهلها عن طريق القوة والعنف، لأنه أدرك أن
أهل فلسطين لا يمكن أن يقبلوا طوعًا قبول استيطان اليهود على أرضهم. لذلك السبيل
الوحيد إلى إجبارهم وتيئيسهم بأنهم لا يملكون مثل هذا الأمل في البقاء هو سبيل
القوة والعنف، وقد قال في مقال له عام 1923 تحت عنوان "الجدار الحديدي":
«إن الاستعمار الصهيوني إما أن يلغى كلية أو ينفذ ضد إرادة السكان الأصليين. إن
مصالحة طوعية مع العرب غير واردة... إن الاستعمار يستحيل تحقيقه بدون القوة
المسلحة»([24]).
ولكن من خلال احتكاكه مع أهل فلسطين وجد أن التجاهل والاستخفاف غير مجد
فهناك شعب مقاوم متمسك بأرضه يهدد بشكل مستمر يهودية الدولة وليس هناك حل غير
إقامة "الجدار الحديدي" الذي يفصل بين اليهود والعرب الذين سيستسلمون
لاحقًا على حد قوله: «ليس في نيتي القول: إن أي اتفاق مع العرب الفلسطينيين غير
وارد إطلاقًا. طالما أن في أذهانهم شرارة أمل واحدة بإمكانية التخلص منا في يوم من
الأيام، لن يثنيهم عن هذا الهدف أي وعد أو إغراء، وذلك بالتحديد لأنهم ليسوا شعبًا
منحطًا بل أمة حية. والأمة الحية لن تكون مستعدة لتقديم أي تنازلات حول مسائل
حيوية إلا عندما تفقد الأمل في "التخلص منا" وعندما تسد آخر ثغرة في
"الجدار الحديدي" في صورة نهائية»([25]). فيجب استخدام كل الوسائل في مواجهة الديموغرافيا الفلسطينية التي تقف
عائقًا في مواجهة الحلم الصهيوني الذي لن يتحقق ما دام هؤلاء الفلسطينيون يتناسلون
على أرضهم ويعمرونها ولا يرحلون عنها، وقد كتب قائلًا: «فلسطين يجب أن تكون
لليهود، وينبغي استخدام كل الطرق لحمل العرب بالتدريج على الرحيل، يجب أن تكون هذه
سياستنا المستمرة التي لا ينتابها الكلل. سوف نطرد العرب من فلسطين والأردن إلى
صحاريهم، وسنقيم دولة يهودية على ضفاف الأردن أولًا وخارج حدود فلسطين بعد ذلك»([26]).
إن شمعون بيرس بالإضافة لمن سبقه
من القادة الصهاينة كانت الديموغرافيا الفلسطينية مصدر قلق دائم له، لذا كان له
دوره في التفكير والممارسة في تحدي هذه العقبة التي تهدد المشروع الصهيوني برمته،
وتشكل خطرًا على كل الجهود التي بذلها اليهود في جعل العرب أقلية وسط أكثرية منهم.
ففي كتابه "الشرق الأوسط الجديد" كان بيرس من الرافضين لفكرة "الحل
الجغرافي" للوضع الديموغرافي الفلسطيني كما عارض فكرة قيام "دولة
فلسطينية" وتجاهل أرضًا يرتبط بها أهلها بل على العكس من ذلك حاول أن يفصل
بينهما بدهائه قائلًا: «...تعبير فلسطين يدل على مكان وليس على شعب، والدولة
الفلسطينية في الواقع لم يكن لها وجود في يوم من الأيام ولم يبدأ الحديث في
الأوساط الأيديولوجية الفلسطينية عن الروابط التاريخية المحددة للفلسطينيين بأرض
فلسطين المتنازع عليها إلا من معركة الصراع الأيديولوجي مع إسرائيل والحركة الصهيونية.
لقد أصبح الفلسطينيون شعبًا عندما أرادوا ذلك»([28]). فقبل عام
1948 حيث كان تاريخ إعلان قيام "الدولة اليهودية" لم تكن فلسطين كيانًا
له وجود إلا في ذاكرة اليهود فقط. لذا من البديهي أن يعارض بيريس قيام دولة
فلسطينية في أية قطعة من أرض فلسطين. وهذا لا يتعارض مع مزاعمه بالدعوة إلى السلام
والقبول بحكم ذاتي فلسطيني كما تم في أوسلو. حيث يعتبر من حيث الظاهر تنازلًا
إقليميًّا محدودًا عن جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967. ولكنه في الواقع
يعتبر تحقيقًا للعقيدة الصهيونية – التوراتية، التي تدعو إلى الحفاظ على نقاء
"الدولة اليهودية" وتخلصًا من المشكلة السكانية الفلسطينية، حتى لا تصبح
"الدولة اليهودية" دولة ثنائية القومية. وقد أفصح بيريس عن عقيدته هذه
بصراحة بقوله: «...فالظروف وبخاصة الديموغرافية منها آخذة في التغير السريع، ولو
لم تكن إسرائيل على درجة من الحذر لفقدت عنصر الأغلبية السكانية بين البحر والنهر
في وقت طويل...» ([29]). فالأغلبية
التي تحدث عنها بيريس هي نفسها التي تحدث عنها هرتسل وجابوتنسكي من قبل، وهي التي
تحدد هوية الدولة الصهيونية التي دفعت بيريس إلى التفكير في كيفية التخلص من مشكلة
الكثافة السكانية الهائلة في غزة بطرح مشروع غزة أولًا، وقد صرح بذلك قائلًا:
«قطاع غزة أكثر من كونه منطقة جغرافية فهو مكان مليء بالسكان الذين يعيشون حياة
اقتصادية صعبة، الأمر الذي يجعله بؤرة مشاكل..» ([30]). ويتابع
قائلًا: «.. وجدنا أن أفضل طريقة لتخليص أنفسنا من العبء المستحيل الذي اسمه غزة
هو السماح لقيادة مركزية للمنظمة في الوجود هناك ومواجهة مشاكل القطاع مباشرة»([31]). فبيريس لم
يدع إلى التخلي عن أرض غزة، وإنما أراد التخلص من مشكلة الكثافة السكانية التي
تهدد يهودية الدولة ومستقبلها، فقد قال: «..إن غزة لست أرضًا، فهي ليست مأهولة
فحسب بل تسجل الرقم القياسي في العالم من ناحية كثافة السكان والذين يتشدقون
بالحديث عن الأراضي دون اعتبار للفلسطينيين المقيمين هناك إنما يغلقون أعينهم
ويرمون التراب في أعين الجمهور فالأراضي ليست المشكلة التي يتعين أن نتعاطى معها،
بل المشكلة هي علاقتنا المقبلة مع سكانها، وإن الذين يتحدثون عن إلحاق الأراضي
إنما يقصدون في الواقع ضم شعبها، بكل ما يترتب على ذلك من عواقب ديموغرافية
وسياسية بعيدة الأمد على كامل المستقبل القومي لإسرائيل، وهويتها بوصفها الدولة
الوحيدة للأمة اليهودية وحكومتها الديموقراطية وليس من باب المصادفة أن يهوذا
والسامرة وغزة لم تلحق بإسرائيل حتى عندما كانت حكومة الليكود هي الطرف المسيطر..» ([32]). ومن هنا يجب
التخلص من غزة لأن كثافتها السكانية تهدد وفق عقيدة بيريس يهودية الدولة التي تشكل
القاعدة التي انطلق منها المشروع الصهيوني في تحقيق الحلم التوراتي.
لقد أفرد نتنياهو فصلًا كاملًا في كتابه "مكان بين الأمم" تحت
عنوان "المشكلة السكانية" وقد حاول فيه أن يخفف من أثر هذه المشكلة على
مستقبل "الدولة اليهودية"، وأن حل هذه المشكلة ممكن من خلال استعادة تاريخ
إنشاء الكيان الصهيوني، والخطط التي وضعتها الحركة الصهيونية وزعمائها، أمثال
هرتسل وجابوتنسكي وغيرهم، وترحيل اليهود إلى فلسطين وترحيل أهلها منها، ولكنه يعترف
في النهاية باستحالة وجود الحل الجذري لهذه المشكلة التي بمجرد مناقشتها لها يؤكد
على مدى تعاظمها داخل العقلية الصهيونية قديمًا وحديثًا، وتدلى على مدى الخطورة
التي تتحدى الكيان الصهيوني في وجوده واستقراره. وقد قال نتنياهو عن هذا التحدي
المفروض على الكيان: «يجب على إسرائيل مواجهة حقيقيتين أساسيتين مرتبطتين الواحدة
بالأخرى. فمن جهة أولى، هنالك أهمية حاسمة للجدار الواقي المتمثل بمناطق الضفة
الغربية، في مجال الدفاع عن الدولة، ومن جهة أخرى، يعيش على ظهر هذا الجدار حوالي
مليون عربي، وهذه خلاصة المشكلة التي تثار دائمًا في النقاش السياسي داخل إسرائيل:
إذا واصلت التمسك بهذه المناطق بما فيها من سكان عرب، ألا تواجه بذلك كابوسًا
ديموغرافيًّا؟ لا شك أن المسألة الديموغرافية حقيقية وصعبة بالنسبة لإسرائيل. ويجب
دراسة هذا الموضوع بجدية والتعرف على حجمه وخطورته، بغية إتباع سياسة معقولة
تجاهه، ولكننا لا نستطيع أن نجد طريقة مُثْلى لمعالجة المشكلة السكانية»([34]).
إذا لم يكن شارون مبدع فكرة "الجدار
الفاصل"([36]) فإنه بلا شك
أول من حول الفكرة إلى واقع عملي ملموس على الأرض. ففكرة الفصل في العقلية
الصهيونية هي تعبير عن جدران كثيفة مليئة بالرموز والشعارات المستوحاة من الفكر
الديني الذي لا يمكنهم التخلي عنه إلا إذا أرادوا التخلي عن مبرر وجودهم على أرض
فلسطين، والتخلي عن حلمهم بإقامة "الدولة اليهود". وقد سعى الصهاينة إلى
تطبيق جدار الفصل بمجرد وطئهم أرض فلسطين عن طريق مجموعة من القواعد والقوانين
والأنظمة والممارسات التي تفصل بشكل عنصري بينهم وبين كل من هو غير يهودي يعيش على
أرض فلسطين. لكن كل ذلك لم يحقق الغاية المرجوة من إنشاء الكيان، ويبعد الخطر
الديموغرافي الماثل أمامهم عنه، لذلك كان لابد من إقامة جدار فاصل لا يجزئ الأرض،
وإنما يفصل بين طرفين متناقضين، بغرض أن يكون الأساس الذي يحقق حلم "الدولة
اليهودية" مستقبلاً.
فهاجس الديموغرافيا التي تهدد جغرافية "الدولة اليهودية" وهويتها
كانت ومازالت تتحكم بعقلية واستراتيجية القادة الصهاينة ومخططاتهم، وقد كان موشي
دايان وزير الدفاع أيام حرب 1967 قد أدار الضفة الغربية بواسطة وجهاء الأحياء
الفلسطينيين، وكان يهدف إلى إعطاء الفلسطينيين إدارة محلية محدودة مع سيطرة عسكرية
كاملة لإسرائيل. ولكنه اصطدم في النهاية بالواقع الديموغرافي الفلسطيني الطاغي
الذي أوصله إلى قناعة بأن الحل هو بترحيل جديد للفلسطينيين عن الضفة والقطاع كما
هو ثابت في المحاضرة التي ألقاها عام 1973 في معهد التخنيون في حيفا.
أما اسحق رابين([37]) الذي كان
رئيساً للأركان في حرب 1967، وحين أصبح رئيساً للوزراء بنى برنامجه السياسي على
تكثيف الاستيطان اليهودي في الضفة وتحويل المستوطنات إلى مواقع عسكرية متقدمة تضبط
أي تحرك للقوى الفلسطينية المقاومة، وتحوّل مدن الضفة إلى "غيتوات"
مشلولة الحياة.
فكل الصهاينة من دون استثناء يريدون أرضًا أكبر وعربًا أقل ويهودًا أكثر
ومسلمين أقل، وقد كان هذا منهج جميع الحكومات الصهيونية المتعاقبة من خلال تحويل
أراضي فلسطين إلى أراض مملوكة للدولة ومزروعة بالمستوطنات.
ثالثًا: مواجهة الديموغرافية الفلسطينية وصعوبة اتخاذ
القرار الحاسم:
إن القرار الذي يحل مشكلة الديموغرافيا يطلق الصهاينة عليه "القرار
الحاسم" وهذا القرار من أهم القرارات التي يتعلق بها مستقبل المشروع
الصهيوني. فقد قال: "ألوف هارئيفين" وهو باحث صهيوني في مؤسسة "فان
لير" في القدس في دراسة أعدها عام 1985 تحت عنوان: "إسرائيل نحو العام
2000 أربعة قرارات حاسمة وصعبة": «إن القرار الحاسم الأصعب الذي يواجه
إسرائيل في السنوات المقبلة، يتعلق بمستقبل يهودا والسامرة وقطاع غزة، ومستقبل
المليون وربع المليون من العرب الفلسطينيون الذين يعيشون في هذه المناطق تحت الحكم
العسكري الإسرائيلي منذ 1967. والحسم بشأن مستقبل هذه المناطق ومكانة سكانها
العرب، يحمل في طياته مسائل مصيرية معقدة، تتعلق بأمن إسرائيل وبهويتها بالذات،
والنظام الديموقراطي القائم فيها، وكذلك بعلاقاتها مع جيرانها العرب»([38]).
فاتخاذ القرار الحاسم لمواجهة الديموغرافيا الفلسطينية ترجع أهميته من خلال
كونه ينطلق من الأيديولوجية الصهيونية، وإذا لم يتخذ القرار الحاسم فسوف يكون
المشروع الصهيوني في تصادم مع أيديولوجيته. وهنا يتساءل "هارئيفين: «لنبدأ
بمسألة الهوية. كلنا يصف ويحدد هوية إسرائيل على أنها دولة يهودية، لكن، منذ العام
1967، أصبح نحو 35 في المائة من السكان في المجال الخاضع لسيطرة إسرائيل من العرب.
بعض هؤلاء.. هم من العرب مواطني دولة إسرائيل وهم يشكلون 17 في المائة من مجموع
سكانها، وبقيتهم.. من العرب الفلسطينيين والأردني الجنسية في يهودا والسامرة وعديمي
الجنسية في قطاع غزة.
ما مغزى أن تكون الدولة يهودية، بينما نحو 35 في المائة من سكانها من غير
اليهود؟!
فالثنائية الديموغرافية الحادة سوف تستتبع تلقائيًّا الثنائية القومية التي
تعني سقوط البنية الأيديولوجية للدولة أي سقوط " الدولة اليهودية" التي
كل مواطنيها يهود. وقد أشار إلى ذلك البروفسور "أرنون سوفير" أستاذ
الجغرافيا السياسية في جامعة حيفا في مقال له سنة 1991: «في نظري تشكل المشكلة
الديموغرافية الخطر الطاغي على أسس الدولة اليهودية الصهيونية، الأمر الذي يتطلب
قرارات جريئة وصعبة لمواجهة الخطر قبل فوات الأوان». وقد جاء في الجلسة الثالثة في
مؤتمر "هرتزليا" الذي عقد بتاريخ 16 إلى 18/ 12/ 2001 تحت عنوان:
"التوازن ومستقبل عملية السلام" على لسان "آفي جيل" مدير عام
وزارة الخارجية الذي لخص وقائع الجلسة وذكر أن أحد المبادئ التي تشكل مفتاح لكل
تسوية مستقبلية هو: «المحافظة على طابع إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية، وهذا لا
يمكن أن يحصل إلا عن طريق الفصل بين السكان».
ولم تغب عملية المواجهة
للديموغرافيا الفلسطينية عن خطة "خريطة الطريق"([40]) والتحفظات
الإسرائيلية عليها التي ورد فيها: «تأكيد حق دولة إسرائيل في الوجود
كدولة يهودية، تمنع عودة لاجئين فلسطين إليها، بما ذلك إعلان فلسطيني بالتخلي عن
حق العودة». وإن المدقق في هذه العبارة «تمنع عودة لاجئين فلسطين إليها» يجد أنها
لا تعني منع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين وحسب، وإنما تعني أيضًا، أن
هؤلاء هم كانوا في الأصل غرباء عن الدولة اليهودية وهم كانوا لاجئين إليها وقد
خرجوا منها لظروف الحرب، لأن ليس لهم جذور في تلك الأرض، لذا لن يسمح لهم بالعودة
إلى اللجوء إلى الدولة اليهودية مرة أخرى لأنهم كانوا على الدوام سببًا في معاناة
اليهود وعقبة في قيام دولتهم التي قد قامت بالفعل، وتريد أن تحافظ على وجودها الذي
يرتبط بنقائها العنصري كدولة لليهود فقط. لذا آن الأوان أن يعلن بشكل رسمي من قبل
السلطة الفلسطينية التخلي عن حق العودة إلى فلسطين ككل، كما إن تصريح شارون في
8/6/ 2003 وتعهده أمام الكنيست بمنع دخول أي لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل كان تعبيرًا عن الخوف الذي يتهدد مستقبل
الحلم بإقامة "الدولة اليهودية".
فالجدار الفاصل الذي نفذ على الأرض أشار بوضوح إلى عمق التحدي الديموغرافي
الفلسطيني للحلم الصهيوني بإقامة "الدولة اليهودية"، كما إن هذا "الجدار
الفاصل" أتى منسجمًا مع قواعد الفكر الديني اليهودي، والفكر السياسي الصهيوني
المعاصر، وعبر عن حقيقة أحلام المشروع الصهيوني وأهدافه، وتوافق مع ممارسات القادة
اليهود وأقوالهم والحلول المؤقتة لمواجهة الديموغرافيا التي يعتبرونها على الدوام
أخطر من الجغرافيا في مواجهة الحلم اليهودي!!.
ولكن يبقى التحدي قائمًا، إذا فشل
اليهود في الماضي السحيق في محاولتهم الاستعمارية الأولى في تحقيق حلم إقامة
"الدولة اليهودية"، وتفريغ فلسطين من أهلها الذين سببوا النهاية الأولى
لهم، فهل سينجحون هذه المرة وكان جدار الفصل الذي صنعوه في إحدى صوره تعبير عن
الفشل بعد أكثر من قرن من وجود الحركة الصهيونية، وأكثر من نصف قرن على إعلان قيام
"الدولة اليهودية"؟ وهل ستكون نهاية المحاولة الثانية الاستعمارية التي
تبنت الحركة الصهيونية مهمة تنفيذها على أيدي الذين سببوا النهاية الأولى مع كل
الحقد اليهودي التاريخي الذين يواجهونه؟!!.
المصادر والمراجع
1-
إبراهيم خليل أحمد: إسرائيل والتلمود، ط2، مكتبة الوعي
العربي، لا. تاريخ.
2-
الأب آي بي براناتيس: فضح التلمود، إعداد زهدي الفاتح،
ط3، دار النفائس، بيروت، 1985.
3-
أفرايم ومناحم تلمي: معجم المصطلحات الصهيونية، ط1،
ترجمة أحمد بركات، دار الجليل، عمان، 1988.
4-
أحمد الزغيبي: العنصرية الصهيونية، مج3، ط1، مكتبة العبيكان،
الرياض، 1998.
5-
أوغست روهلنج: اليهود على حسب التلمود، ط3، دار فلسطين
المحتلة، بيروت، 1970.
6-
بنيامين نتنياهو: مكان بين الأمم، إسرائيل والعالم، ط2،
ترجمة محمد عودة الدويري، الأهلية، الأردن 1996.
7-
ثيودور هرتسل: الدولة اليهودية، ط1، ترجمة محمد يوسف
عدس، دار الزهراء للنشر، مصر، 1994.
8-
ديفيد لانداو: الأصولية اليهودية، العقيدة والقوة، ط1،
ترجمة مجمدي عبد الكريم، مدبولي، مصر، 1998.
9-
رشاد الشامي: الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح
العدوانية، ط2، دار الزهراء مصر، 1991.
10-
زهدي الفاتح: اليهود، ط2، لا. مكان، 1987.
11-
شعبان، أحمد بهاء الدين: ما بعد الصهيونية، ط1، ميريت
للنشر والمعلومات، مصر، 1999.
12-
شمعون بيرس: الشرق الوسط الجديد، ط1، ترجمة محمد حلمي
عبد الحافظ، الأهلية، الأردن، 1994.
13-
عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية
والصهيونية، ط1، دار الشروق، مصر، 1999.
14-
غازي السعدي: من ملفات الإرهاب الصهيوني (2): مجارز
وممارسات 1936 – 1983، ط1، دار الجليل للنشر، عمان 1985.
15-
الكيان الصهيوني عام 2000، تأليف نخبة من السياسيين
والباحثين الإسرائيليين، ط1، وكالة المنارة، نيقوسيا، قبرص، 1986.
16-
محمد خليفة حسن: الحركة الصهيونية وعلاقتها بالتراث
الديني القومي، والتاريخية، العدد (4).
17-
هانئ الهندي ومحسن إبراهيم: إسرائيل.. فكرة.. حركة..
دولة، ط1، دار الفجر الجديد، بيروت، 1958.
18-
يوسي ميلمان: الإسرائيليون الجدد، مشهد تفصيلي لمجتمع
متغير، ط1، ترجمة مالك فاضل البديري، الأهلية، الأردن، 1993.
مواقع انترنت:
1-
خلود عموره: قراءة في فكر الأب المؤسس لليمين الصهيوني
زئيف جابوتنسكي: تنظيرًا وممارسة، شبكة فلسطين للحوار، موقع: https://goo.gl/F2wctN
* الدكتور جبر الهلول:
دكتوراه في التاريخ والحضارة متخصص باليهودية والصهيونية، ومحاضر في أكاديمية باشاك
شهير للعلوم العربية والإسلامية في تركيا.
([17]) هرتسل، ثيودور: (1860- 1904)، أحد أعظم قادة
اليهود المعاصرين، وهو مؤسس الحركة الصهيونية، وأول رئيس للمنظمة الصهيونية
العالمية، وللمؤتمرات الصهيونية العالمية، لذلك هوـ دون ريب ـ أبو الصهيونية
وقائدها وبطلها بلا منازع. وهو بالنسبة إلى اليهود موسى عصره وملك من ملوكهم
العظام، بالإضافة إلى ذلك هو أديب وسياسي وصحافي نمساوي تشرب بالثقافة الألمانية، وهو رجل قانون
بالدرجة الأولى وحصل على الدكتوراه في ذلك.
ولد
هرتسل في بودابست عاصمة (هنغاريا – المجر)، ثم انتقل إلى النمسا حيث استقر ودرس في
مدارسها. بذل قصارى جهده سعيًا وراء فكرته
في إقامة كيان خاص لليهود في فلسطين. (انظر: تلمي، أفراييم ومناحم: معجم المصطلحات
الصهيونية، ص154-155.
([23]) زئيف جابوتنسكي فلاديمير: (1880-1940) «أديب، وصحفي، خطيب لامع، ومؤسس
الحركة الإصلاحية ورئيسها ومدير العمل السياسي المستقل، ولد في روسيا عام 1880
واشترك في الصحافة الروسية منتحلاً لقب (التلينا). لقد نشط جابوتنسكي منذ شبابه في
الحركة الصهيونية، فاشترك في حركة "الدفاع الذاتي" ضد المشاغبين الروس.
وكان أحد المتحدثين في مؤتمر هلسنكي ومن المؤكدين على أهمية الثقافة الوطنية
واللغة العبرية.
أفرايم ومناحم
تلمي: معجم المصطلحات الصهيونية، ص 187.
([27]) بيريس، شمعون:(1923- 2016) واحد من
بناة الكيان الصهيوني الكبار، ومن أبرز الشخصيات الصهيونية التي ساهمت في ذلك، حيث
بصماته واضحة في كل أركان الدولة، ودوره معترف به في شتى أرجائها، وبخاصة المؤسسة
العسكرية الإسرائيلية. ولد في روسيا، وهاجر منها مع عائلته إلى فلسطين عام 1934،
وقاد في 1948 بعض وحدات الهاجاناه قبل أن يصبح من قيادات وزارة الدفاع الإسرائيلي،
وقد تقلد مناصب حكومية وعسكرية رفيعة، بالإضافة لترؤسه حزب العمل عدة مرات ودوره
البارز فيه. انظر شعبان، أحمد بهاء الدين: ما بعد الصهيونية، ط1، ميريت للنشر والمعلومات، مصر، 1999.
ص190.
([33]) نتنياهو، بنيامين: لم
يكن بالشخصية اليهودية المعروفة، بالنسبة إلى المراقبين للمسرح السياسي
الإسرائيلي، قبل توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية لأكثر من مرة، ونشر كتابه
"مكان تحت الشمس" مقارنة برجال "الدولة اليهودية" البارزين.
لذا أهم المحطات في حياة نتنياهو والتي عرفه الناس من خلالها: هي أنه يعد أول رئيس
وزراء "لإسرائيل" ينتخبه الشعب انتخابًا مباشرًا في 29/5/1996. وكان في
حينها رئيسًا لحزب الليكود. ولد بنيامين بن تسيلا وابن تسيون نتنياهو في 23 تشرين
الثاني 1949 في تل أبيب بفلسطين المحتلة. أصبح نتنياهو مساعدًا للسفير الإسرائيلي
لدى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1982، وتقلب في مناصب عديدة كان آخرها رئيسًا
للحكومة الحالية. بنيامين نتياهو: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة -Wikipedia.org/wiki. WWW.
ar).
([35]) شارون، أرئيل:(1928- 2014) عسكري
وسياسي إسرائيلي، وعضو بارز في تحالف الليكود الصهيوني، اشترك في نشاط الهاجاناه،
ثم في حرب عام 1948، قاد أول حملة عسكرية رسمية سرية إلى قرية قبية العربية، حيث
أباد من فيها، كما اشترك في حرب 1956، وفي حرب 1967، وفي حرب 1973. استقال من
الجيش، ثم عين وزيرًا للدفاع عام 1977، حيث
قاد الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان عام 1982. استقال من الوزارة بسبب دوره في
مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم عين وزيرًا للتجارة والصناعة في حكومة بيريس، ثم وزيرًا
للإسكان في حكومة شامير، وفي عام 2000 أصبح رئيسًا للحكومة وقام بانتهاك حرمات
مسجد الأقصى مما أدى إلى اشتعال انتفاضة الأقصى. انظر: الزغيبي، أحمد: العنصرية
الصهيونية، مج3، ص456..
([36]) جدار الفصل العنصري: (حسب الفلسطينيين) أو
الحاجز الأمني (حسب الإسرائيليين) هو عبارة عن جدار طويل تبنيه إسرائيل في الضفة
الغربية قرب الخط الأخضر. يتشكل هذا الجدار من سياجات وطرق دوريات، وفي المناطق
المأهولة بكثافة مثل منطقة المثلث أو منطقة القدس تم نصب أسوار بدلا من السياجات.
بدأ بناء الجدار في 2002 في ظل انتفاضة الأقصى، ويمر بمسار متعرج حيث يحيط معظم
أراضي الضفة الغربية، وفي أماكن معينة، مثل قلقيلية، يشكل معازل، أي مدينة أو
مجموعة بلدات محاطة من كل أطرافها تقريبا بالجدار. ويكيبيديا: https://goo.gl/hcQGVd
([37]) رابين، إسحق:(1995-1922)،
جنرال وسياسي يهودي بارز، ولد في القدس ونشأ في تل أبيب، انضم إلى البالماخ (سرايا
الصاعقة) منذ تكوينها، وعمل في قيادتها من 1943 – 1948 وساهم في الاستيلاء على
القدس. تولى العديد من المناصب الحكومية والعسكرية، حتى كانت آخرها رئاسة الوزراء
التي قاد فيها عملية التسوية المنبثقة عن مؤتمر مدريد 1991، حيث أبرم خلال هذه
الفترة اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) ومن ثم الاتفاق المرحلي (اتفاق طابا)،
كما أبرم عام 1994 معاهدة السلام مع الأردن. وقد اغتيل في تل أبيب يوم 4 نوفمبر
1995 على يد أحد اليهود المعارضين لاتفاقيات التسوية. (المسيري، عبد الوهاب:
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج7/ 248-249.).
([40])خارطة الطريق: هو الاسم
الذي أطلق على مبادرة سلام في الشرق الأوسط اقترحتها اللجنة الرباعية: الولايات
المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والأمم المتحدة. كان هدف المبادرة لبدء
محادثات لتوصل إلى حل نهائي لتسوية سلمية من خلال إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005.
تشتمل
خارطة الطريق على ثلاث مراحل: 1. تلبية الشروط المسبقة لإقامة دولة فلسطينية؛ 2.
إنشاء دولة فلسطينية بحدود مؤقتة؛ 3. حول اتفاق الوضع الدائم، الاعتراف بدولة
فلسطينية ذات حدود دائمة وإنهاء الصراع. ويكيبيديا: https://goo.gl/dM2Ddn.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات