منْ مُشكلاتنا الحضاريَّة:
"المَاضَويَّة
الاسْتغراقيَّة"
إني لأعجب ممن يتكلمون عن مشروعات التقسيم في المنطقة ويُحذّرون
منها وكأنهم بعيدين عن عمليات الفرز الديموغرافي وفق جغرافيات سياسية التي يتم
تقاسمها وتقسيمها دوليًّا وإقليميًّا، ولا يعيشون ذلك واقعًا مفروضًا في حياتهم
اليومية الذي أصبحوا جزء منه ومشاركين فيه بطريقة أو أخرى.
فهناك فرق كبير في التعامل مع الواقع المُعاش لتحسين
ظروفه وبين التعامل مع الواقع الذي نعيشه وكأنه لم يقع بعد ولا نكتشف إلا متأخرين
أن هذا الواقع أصبح من الماضي وغير قادرين على التأثير في مجرياته لا سلبًا ولا
إيجابًا.
إذًا لماذا نحن نبحث دائمًا عن إجابات حول ما حدث في
الماضي وربما الماضي البعيد جدًّا أو ننتظر الحاضر حتى يصبح ماضيًا لنتعامل معه
ولا نبحث عن الإجابة عما يحدث الآن في الحاضر ليكون لنا دور فيه - إن لم يكن على
سبيل التأثير فليكن على سبيل المعرفة على الأقل - لتكون صورة المستقبل واضحة
أمامنا؟!.
نحن يجب أن نتساءل عن المُشاهد والمُعاش وليس عن عالم
الغيب - النسبي والمطلق - نتساءل عن الانقسام المجتمعي السوري، نتساءل عن التغيير
الديموغرافي سواء عن طريق الحرب أو الاتفاقات التي تشارك فيها كل الأطراف المحلية
والإقليمية والدولية، نتساءل عن سبب وجود القوى العسكرية المتعددة المتصارعة في
المنطقة على حساب دم أبنائها، نتساءل عن أهداف معركة حماة الأخيرة وعن معركة ريف
دمشق، وعما يجري في جنيف وكذلك في الأستانا،.... أليس كل ما يجري يبلور صورة لمشهد
مستقبلي جديد في سوريا والمنطقة على مستوى الجغرافيا والديموغرافيا؟!!!.
إن صورة المشهد في المنطقة بشكل عام وبسوريا بشكل خاص
متغيرة جذريًّا عن الماضي، وإن صورة ما قبل 2011 جغرافيًّا وديموغرافيًّا هي ليست
التي نراها اليوم 2017 ولن تكون كذلك مستقبلًا وبالتالي إن أي حل - وإن ما زال
بعيدًا - يستحيل أن يعود إلى الماضي ويبني
عليه، وإنما سيُراعي التغيير الجغرافي والديموغرافي الحاصل والمقصود بذاته من قبل
كافة الأطراف.
إن تبلور الصورة المستقبلية للمشهد السوري والمنطقة يجب
أن يُراعى فيها حركة "السنَة السياسية" وليس "السنة الزمنية" -(على اعتبار كل
سنة سياسية تساوي مئة سنة زمنية) - في صناعة الأحداث فيها وبالتالي يجب التعامل مع
الحاضر كما هو في الواقع لرسم صورة المستقبل بدلًا من العيش على صورة الماضي التي
لن تتكرر مرة أخرى، أو الانتظار للمستقبل الذي يصنعه غيرنا وفق مصالحه الذي قد لا
ندركه، ولكن بلا شك ستُحملّنا الأجيال القادمة وزره، وبخاصة إذا غرقت بالمدرسة "الماضَويَّة
الاستغراقيّة" التي نعيشها منذ قرون طويلة بينما الأمم الأخرى انطلقت نحو المدرسة
"المُستقبليّة الاستشرافيّة"، وشتّان ما بين المدرستين، مدرسة تعيش
الحاضر في صورة الماضي ومدرسة تعيش الحاضر بصورة المستقبل!.
إن أول قواعد الثورات الناجحة أن تُبنى على مستوى الفرد
والجماعة وفق المدرسة "المستقبليّة الاستشرافيّة" وليس على أسس المدرسة "الماضَويَّة
الاستغراقيَّة" التي يعمل الطغاة في كل عصر على تكريسها في شعوبهم وذلك حتى
إذا ما ثاروا يومًا عليه كان نصيبهم الفشل لأنهم يريدون الرجوع إلى الوراء في
عملية التغيير بينما الطغاة يعملون جهدهم كي يستمروا ولو ليوم واحد في المستقبل
سواء بأنفسهم أو بغيرهم الذين يحملون صفاتهم.
إن الثورات هي تغيير جذري في عالم الأفكار من
"الماضَويَّة الاستغراقيَّة" إلى "المُستقبليَّة الاستشرافيَّة"
وليست تغييرًا في عالم الأشخاص والأشياء التي لا تعني سوى استبدال طُغاة مُستبدّين
بآخرين بأشكال أخرى وبأدوات جديدة لا أكثر ولا أقل.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات