الثورة السورية ولعبة التوازنات الدولية والتحول من الثورة الدافعة إلى الثورة التابعة

الثورة السورية ولعبة التوازنات الدولية
والتحول
من الثورة الدافعة إلى الثورة التابعة
الدكتور جبر الهلُّول

انطلقت الثورة السورية عام (2011) مُتسارعة في أحداثها وتطوراتها، وذلك كأيّ ثورة بشريّة ضد الظلم والاستبداد تنشد الحرية والعدل الذي حُرمت منه لعقود طويلة، وكذلك كبداية أي ثورة كان مُحركها الأساس القلب والاندفاع والعاطفة بعيدًا عن العقل والخطط والاستراتيجيات ولعبة الدول التي تحيط بها. وبخاصة أنها جاءت في لحظات زخم انتصار الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا الذي لم تظهر بعد ملامح الصورة ومعالم التغيير التي أحدثتها تلك الثورات فيها من أجل الاستفادة منها.

انطلقت الثورة في مظهرها العام عفوية بعيدة عن لعبة التوازنات والمصالح فحققت نجاحًا كبيرًا ولكن كأي ثورة تحيط بها الشعوب والأمم لا يمكن أن تستمر بمعزل عنها ولا يمكن أن تُترك من دون إدخالها من حيث لا تدري في لعبة الأمم في ظل صراع دولي وإقليمي متنافس لتصبح في النهاية أداة من أدوات هذه اللعبة وإن حققت التغيير الثوري في مجتمع وألحقت هزيمة كبرى بالنظام وأركانه وأعوانه ، لتفقد عفوية الانطلاق رويدًا رويدًا وتدخل مرحلة التنظيم والأدلجة والارتباطات التي تصل بها إلى البحث عن حل لواقع كثرت فيه القوى المتدخلة والمتداخلة في الوقت نفسه فأصبح خارج إمكانية التحكم والسيطرة من قبل جهة محددة واحدة.

وبما أن الثورة بالأصل كما هي الثورة السورية تتناقض مع مفهوم الموازنات والمصالح في لعبة الأمم ستجد نفسها في نهاية المطاف أنها وقعت ضحية لشراك تلك اللعبة ولم تعد تستطيع الخروج منها وقدرها أن تستمر فيها إلى النهاية، والقوى الذكية في الثورة هي من تعمل على إيجاد هامش أكبر من الحركة لا لتخرج من شراك اللعبة لأن الخروج يعني الموت وإنما لتحافظ على الحياة والاستمرارية داخلها ليكون لها دور إيجابي فيها في لحظة ما.

وبالعودة إلى المشهد السوري نجد أن الواقع السوري أصبحت تتحكم فيه ثلاث مستويات كبرى من لعبة الموازنات الدولية والإقليمية والمحلية وأن القضية السورية مرتبطة بها من حيث الجغرافيا التي هي ساحة اللعبة ومن حيث الشعب الذي هو أداتها، وأن الصراع أخذ يتصاعد بشكل كبير بعدما أصبح في سوريا وبشكل علني واضح ومكشوف ودخلت كافة الأطراف مجتمعة وفي الوقت نفسه حرب تحدي إرادات ومعارك وجود وإيجاد دور وبحث عن مصالح وتحقيق مكاسب.

إن لعبة الموازنات في سوريا بمستوياتها الثلاث الدولية والإقليمية والمحلية التي تتحرك في الوقت نفسه ليس من حساباتها الخسائر البشرية أو الدمار وإنما المحافظة على الموازنة في الصراع لدى كل طرف من أجل استمرار اللعبة إلى نهايتها ويتحقق الهدف منها. لذا أصبح من صفات هذه اللعبة في الواقع السوري أنها لعبة مكشوفة لدى كل الأطراف والكل بات يدرك أن معركتها فاصلة بكل ما تعني الكلمة من معنى وأنها تؤسس لواقع جديد يختلف عما قامت الثورة لأجله بعيدًا عن لعبة موازنات الصراع التي وجدت نفسها فيها مؤخرًا بعد خمس سنوات من الثورة كانت فاتورتها كبيرة جدًّا لم تستوعب للحظة واحدة أو تتخيل أن هذه الفاتورة كانت لمجرد إسقاط النظام فقط وإنما ستكون لتغيير المنطقة كلها ضمن مشروع شرق أوسط جديد مقسمة إلى دول وفدراليات على أسس إثنية وقومية وطائفية.

إن الإشكالية أن الثورة بمجرد دخولها لعبة موازنات الصراع الدولي والإقليمي والمحلي تخرج عن مفهومها كثورة وتفقد فطريتها الدافعة التي يجتمع عليها الناس وتدخل في لعبة موازنات داخلية تجعلها تسير ضمن أجندات تابعة تُبعد الناس عنها، وهذا ما أصبحت عليه غالبية الفصائل والقوى الثورية العسكرية والسياسية التي باتت خياراتها محصورة ضمن المشاريع الكبرى في لعبة صراع الموازنات على الأرض السورية، وبالأخص في الشمالي السوري وفي حلب وريفها تحديدًا التي تعتبر الآن في مركز لعبة موازنات الصراعات والاشتباكات الدولية التي اجتمعت فيها من خلال حلفين، حلف تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف تقوده روسيا بناء على سيناريوهات متعارضة أكسبت معركة حلب أهمية استراتيجية استثنائية كبرى ، وسيكون لها تداعياتها الخطيرة على مجمل الوضع في سوريا والمنطقة، ومن ينتصر فيها يحدد مستقبل المنطقة والنفوذ فيها. لكن هذا الانتصار بعد بدء المعركة البرية ضد تنظيم الدولة وتحقيق تقدم كبير فيها بمعركة منبج في ريف حلب الشرقي وتحقيق تقدم في ريف حلب الجنوبي من قبل جيش الفتح على الحلف الثلاثي (الروسي الإيراني والنظام) يبدو أن موازنات الصراع أخذت تميل إلى الحلف الأمريكي في سوريا بشكل عام، ولعل هذا ما دفع "بوتين" أن يقر بأن أمريكا قوة وحيدة عظمى في العالم. لكن هذا لا يعني أن روسيا بالإضافة إلى إيران في لعبة موازنات الصراع ستقبل المساومة على حلب من دون حسم عسكري حتى لو استمرت الخسائر الميدانية الكبيرة لأن الأمر لم يعد يتعلق بالثورة والتصدي لها وقمعها وإعادة احتلال الأراضي التي م تحريرها على يد الثوار بقدر أن ما يجري يأتي في سياق لعبة الموازنات الدولية التي تعمل على حسم مصير حلب لتخرجها من الثورة بعدما تم إخراج كل المساحة الجغرافية التي سيطر عليها تنظيم الدولة في الشمال والشمال الشرقي في سوريا من دائرة الثورة والآن يقوم التحالف الدولي بالاعتماد على القوى المحلية نشأت خلال الثورة إلى استعادتها إلى قلب هذه الموازنات لكن ضمن سيناريوهات التقسيم المستقبلية في المنطقة.

إن القوى الثورية التي أدخلت لعبة الموازنات الدولية والإقليمية في الصراع على سوريا وفي سوريا بالتأكيد هي خارج إطار السيناريو الروسي الذي يتعلق بالدولة المفيدة التي رسمت معالم حدودها الجغرافية، لكن بالتأكيد سيكون هناك قسم كبير منها ضمن السيناريو الأمريكي وحلفائه بطريقة أو أخرى الذي ترسم حدوده الجغرافية في الشمال السوري، لكن من سيكون خارج السيناريوهين سيكون له سيناريو ثالث مركزه الأساس مدينة إدلب وريفها ولعل معالم هذا السيناريو ترتبط بلعبة صراع الموازنات المحلية فيها ودور التنسيق والتفاهم الدولي والإقليمي في هذه اللعبة!.

المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »