التطرف
الدكتور جبر الهلول
الدكتور جبر الهلول
إن تصاعد حدة التطرف في الوقت الحاضر
تبدو ظاهرة طبيعية لصراع الأفكار والمبادئ الذي تشهده المجموعات البشرية على كافة
المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. حتى باتت هذه الظاهرة مسبّة يلصقها كل طرف
بالآخر، ويعتقد كل منهما أنه يحمل لواء الحق والاعتدال، وصحة وسمو الأفكار
والمبادئ التي يحملها، ويسعى بشكل دموي عنيف لكي يفرضها على الآخر بحجة الدفاع
عنها، وأن تلك الأفكار والمبادئ في الطرف المقابل ما هي إلا أفكار متطرفة!.
وإذا كان هناك من قد اعتبر التطرف وباء
مرضياً طارئاً على الحياة البشرية المعاصرة، فإني أراه لا يعدو عن كونه ظاهرة
طبيعية بين البشر بشكل عام. فقد ازداد خطر التطرف على البشرية بشكل كبير في الوقت
الذي اختل فيه توازن القوى بشكل رهيب لصالح أحد الأطراف التي باتت تمتلك القوة
المادية الظالمة التي تسعى من خلالها أن تفرض تطرفها على إرادة وحقوق الشعوب الأخرى.
وذلك كما نلاحظه في سلوك وممارسات الدول الاستعمارية الكبرى وعلى رأسها الولايات
المتحدة الأمريكية التي تدعي وتزعم أنها تحمل أفكاراً ومبادئاً قيادية لإنقاذ
الشعوب المتخلفة التي يطغى عليها التطرف ـ وفق رؤاها ـ لأسباب اقتصادية واجتماعية
وسياسية وثقافية. وفي مقدمة تلك الشعوب التي تسلط عليها الدعاية الغربية هجمتها
التطرفية المجتمعات الإسلامية، وذلك في سعي دؤوب منها لتشويه صورتها وصورة الإسلام
الذي هو في حقيقته كما يراه الغرب الاستعماري المنافس الحقيقي في أفكاره ومبادئه
له. في حين تنسى تلك الدعاية نفسها وتتناسى المجتمع الصهيوني الذي ساهمت في صناعته
وتكوينه بشكل مباشر ومدته وتمده بعناصر الحياة على اعتبار أنه جزء من حضارتها
الغربية التي هي على طرفي نقيض مع البيئة التي غرس فيها.
إن التطرف في الأصل يسلب الطرف الآخر كل
حقوقه فيستبح دمه وماله وعرضه وأرضه في عملية تنافسية مقدسة تأتي استجابة لتنفيذ
أوامر "الرب" فيه. والتقصير في أي جانب من ذلك هو تقصير من الطرف الأول
تجاه إلهه الذي يتوعده بالعقاب والعذاب والتشرد والشتات. لذا يجب على الطرف الأول
أن لا يساهم أو يساعد في بقاء الطرف الأول بأي حال من الأحوال. ولم يخرج اليهود عن
هذا الإطار في تكوينهم الفكري العقدي أو سلوكهم العملي قديماً وحديثاً.
فانسجاماً مع تعريف
التطرف بشكل عام الذي هو: اعتقاد لدى أحد الطرفين مبني على صحة الأفكار
والمبادئ التي يحملها وكمالها المطلق، وأن ذلك ينتفي من الطرف الآخر. نرى أن
التطرف في المجتمع الصهيوني بنيوي تكويني يسير في اتجاهين الثاني منهما مكمل
للأول، على اعتبار أن الاتجاه الأول هو تطرف حول الثوابت وهذا متفق عليه في
المجتمع الصهيوني وهو موجه ضد الطرف الآخر غير الصهيوني اليهودي الذي يتمثل على
وجه الخصوص بالعربي، وأن الاتجاه الثاني هو تنافس داخل المجتمع الصهيوني ذاته وهو
تطرف حول الأولويات التي تخدم الثوابت التي قام عليها. وأعتقد أن مجتمعاً قائماً
على هذا المستوى من التطرف، لا يمكن أن يقاوم إلا بتطرف مماثل على مستوى الثوابت
وعلى مستوى الأولويات.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات